الاستفاقة المتأخرة للمصرف المركزي غير كافية

الاستفاقة المتأخرة للمصرف المركزي غير كافية

شهدت الأشهر الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في نشاط السوق السوداء للعملات الأجنبية في سورية، مما أدى إلى تدهور القدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع أسعار السلع والخدمات.

وعلى الرغم من المحاولات الخجولة لمصرف سورية المركزي لضبط السوق، فإن هذه الإجراءات جاءت متأخرة وغير كافية للحد من الأضرار الاقتصادية المتفاقمة.

إطار تنظيمي جديد

من مستجدات الإجراءات المتخذة من قبل المصرف المركزي عزمه على إعادة تنظيم قطاع الصرافة في البلاد، في خطوة جديدة تهدف إلى ضبط التعاملات المالية والحد من انتشار السوق السوداء.
وبحسب مصدر في المكتب الإعلامي للمصرف، فإن العمل جارٍ على إصدار صك تشريعي يعيد هيكلة هذا القطاع بالكامل، بهدف إخضاعه لإجراءات قانونية أكثر صرامة.
كذلك جرى الحديث عن ضبط عملات أجنبية مزورة متداولة في السوق، مع تنبيه المواطنين من ذلك.
وبحسب المصدر، فإن هذه الإجراءات ستوفر للمؤسسات المالية العاملة في القطاع إمكانية الحصول على الترخيص المبدئي من مجلس النقد والتسليف، ما سيمنحها شرعية قانونية لممارسة نشاطها.
ويأتي ذلك ضمن توجهات المصرف المركزي «لـحماية حقوق المواطنين»، وخاصة فيما يتعلق بتحويلاتهم المالية، سواء الداخلية أو الخارجية، والتأكد من تنفيذ عمليات الصرافة عبر قنوات رسمية مرخصة وخاضعة للرقابة.

إجراءات سابقة

وكان قد سبق ذلك بتاريخ 4 شباط 2025، إصدار بيان من قبل مصرف سورية المركزي يبرر ارتفاع قيمة الليرة السورية في السوق السوداء، مشيراً إلى عوامل نقدية وسياسية كأسباب لهذا الارتفاع، كما تعهد باتخاذ إجراءات للحد من الفجوة بين السعر الرسمي والموازي.
وفي خطوة أثارت جدلاً واسعاً في حينه، أصدر المصرف المركزي بتاريخ 26 كانون الثاني 2025 قراراً بوقف قبول أو تجديد الودائع بالقطع الأجنبي لدى المصارف السورية، ما أدى إلى تقليل قدرته على إدارة السيولة النقدية والتحكم بتدفق العملات الأجنبية، وقد كان هذا القرار مساهماً في فقدان المركزي لدوره الرئيسي في تنظيم السوق النقدية، بدلاً من أن يكون أداة فعالة لضبط سعر الصرف.
هذه القرارات والإجراءات لا تأتي بمعزل عن سياق أوسع، حيث شهدت العاصمة دمشق خلال الأسبوعين الماضيين حملة مكثفة على الصرافين العاملين خارج الإطار الرسمي، وتمت مصادرة الأموال التي كانت بحوزتهم، سواء بالليرة السورية أو بالدولار، دون أي توثيق أو منح إيصالات رسمية، وهو ما حرم أصحابها من إمكانية المراجعة أو استردادها.
وهذه الإجراءات، رغم أنها تهدف إلى تقليص نشاط السوق السوداء، تثير تساؤلات حول مدى التزام الحكومة بالممارسات القانونية والشفافية.

اقتصاد الأوامر الشفهية والإجراءات غير الموثقة

ما يلفت الانتباه في هذه التطورات هو أن حكومة تسيير الأعمال الحالية تعتمد بشكل متزايد على الأوامر الشفهية في قراراتها، مما يؤدي إلى غياب التوثيق الرسمي في كثير من القضايا.
هذا النهج يجعل من الصعب تتبع المسؤوليات أو الطعن في القرارات، ويزيد من حالة عدم اليقين في الأسواق.
فعلى الرغم من محاولات ضبط قطاع الصرافة، لا تزال السوق السوداء نشطة، مستفيدة من ضعف الإجراءات المؤسسية وغياب البدائل الفعالة.

أثر التلاعب بسعر الصرف على المواطنين

الارتفاع الوهمي لقيمة الليرة السورية في السوق السوداء، كآلية متحكم بها لنهب مدخرات المواطنين، ترافق مع ارتفاع في أسعار السلع الأساسية بدلاً من انخفاضها، ما يعني أن تسعير السلع ما زال يعتمد على السعر التحوطي الأعلى من سعر الصرف الرسمي في المصرف المركزي، الأمر الذي زاد من الضغوط المعيشية على الأسر السورية، خاصة مع ثبات الأجور وعدم مواكبتها للتضخم غير المعترف به!
ومع غياب الرقابة الفعالة، انتشرت العملات الأجنبية المزورة في الأسواق، ما عرض المواطنين لخسائر مالية إضافية، وزاد من حالة عدم الثقة في التعاملات النقدية.

انعكاسات تذبذب سعر الصرف على الاقتصاد الوطني

المحدد الرئيسي لقيمة الليرة لم يعد السعر الرسمي المعلن من قبل المصرف المركزي، وبالطبع ليس السعر المتذبذب والنهبوي في السوق السوداء، وكذلك لا يمكن اعتبار السعر التحوطي الذي تُقيّم به السلع والخدمات في السوق هو المحدد لقيمة الليرة، وكل ما سبق يؤشر إلى فقدان السيطرة على السياسة النقدية، ويضعف قدرة الدولة على التحكم بالاقتصاد الوطني.
على الطرف المقابل فإن الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم، وإلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، وزيادة حدة الفقر.
وفي ظل حالة عدم الاستقرار في سعر الصرف تصبح بيئة الاستثمار غير جاذبة، مما يؤدي إلى انخفاض التدفقات المالية إلى السوق المحلية.

بين الإصلاح وضبط السوق

يبقى السؤال الأساسي: هل تهدف هذه الإجراءات حقاً إلى إعادة تنظيم قطاع الصرافة بشكل عادل وشفاف، أم إنها مجرد خطوة أخرى في إطار تشديد القبضة على المعاملات المالية؟
ففي ظل غياب التوثيق الرسمي واعتماد الحكومة على الأوامر الشفهية، تبدو القرارات الاقتصادية أشبه بحلول مؤقتة أكثر من كونها إصلاحات جوهرية قادرة على تحقيق استقرار نقدي حقيقي.
وحتى إشعار آخر، سيظل المواطن السوري عالقاً بين قيود الاقتصاد الرسمي واستغلال السوق السوداء!

المطلوب سياسات نقدية أكثر كفاءة

التأخر في التدخل الرسمي، وضعف الإجراءات التي اتخذها المصرف المركزي، أديا إلى تفاقم أزمة تذبذب سعر الصرف والتلاعب به وعدم اليقين من القيمة الحقيقية لليرة، بدلاً من حلها.
هذه السياسات النقدية المتبعة من قبل المصرف المركزي كانت غير كافية للتحكم الفعلي بسعر الصرف، خاصة وأنها لم تترافق مع حلول حقيقية لضبط السوق السوداء، والتسعير في سوق السلع والخدمات، والأهم غياب سياسات الاقتصادية العامة المعنية بالإنتاج الحقيقي ودعمه وزيادته!
وما لم يتم تبني سياسات نقدية أكثر كفاءة مع تعزيز الرقابة المالية، بالتوازي مع سياسات اقتصادية تركز على الإنتاج والعملية الإنتاجية، فإن المواطنين سيظلون الضحية الأولى لهذا التخبط الاقتصادي، في ظل استمرار انهيار القدرة الشرائية وتزايد الضغوط المعيشية، والمزيد من التراجع الاقتصادي على المستوى الوطني.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1219