ملف السكن خرج رسمياً من الاهتمام الحكومي!
يتعمق سنة بعد أخرى غياب دور الدولة والتنصل من مسؤولياتها بمختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، خاصة وأن هذا التخلي والإهمال الرسمي يشمل غالبية القضايا الحساسة التي لا يفترض التخلي عن إدارتها من قبل الدولة، وبمعايير تأخذ على عاتقها بشكل أساسي متطلبات الناس والمصاعب التي يتعايشون معها، في ظل واقع اقتصادي مرير يقهر المفقرين لحظياً!
ومن هذه القضايا الحساسة، ملف السكن، فغياب دور الدولة عن ملف السكن والإسكان منذ سنوات وعقود، وعدم وجود خطط تأخذ بعين الاعتبار ازدياد الحاجة إلى السكن بشكل طردي مع الزيادة السكانية الطبيعية، وترك الساحة لرغبات ومطامع تجار العقارات وسماسرتها، كان من شأنه أن يعمق أزمة السكن أكثر وأكثر، وبالتالي حرمان الكثير من السوريين المفقرين من حقهم الطبيعي بمسكن يأويهم، بالشروط والمواصفات المعيارية لأي مسكن مخصص للعيش الآدمي!
التخلي رسمياً عن ملف الإسكان!
ناقش مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 19/11/2024 الواقع الحالي لقطاع السكن والبناء، والصعوبات التي تعترضه، وآليات تنشيط هذا القطاع الحيوي، وفي ضوء عرضه لمشاكل السكن أشار رئيس الحكومة إلى أن «ظاهرة النسبة الكبيرة من البيوت الفارغة أو غير المستكملة تستحق الدراسة الدقيقة، معتبراً أن أسباب هذه الظاهرة إما وجود المالكين خارج البلد أو مفرزات الحرب الإرهابية على سورية وما رافقها من تهجير، وكذلك من تفاوت في توزيع الثروات والدخول».
وأضاف رئيس الحكومة: «إن الاستثمار في قطاع البناء ربما يكون غير مجدٍ ومن الأفضل الذهاب إلى الاستثمار في القطاعين الزراعي والصناعي، حيث إن دوران عجلة الإنتاج يخلق فرص عمل وقيمة مضافة سريعة أفضل من الاستثمار بالعقار في ظل الظروف الحالية».
تجدر الإشارة في البداية إلى ما تم إغفاله بحديث رئيس الحكومة أعلاه كسبب إضافي هام لهذه الظاهرة، وهو اللجوء إلى تجميد الأموال وحفظها في الملاذ العقاري، الذي أصبح أحد الملاذات الأكثر أماناً للبعض في ظل المتغيرات والعوامل الاقتصادية المتذبذبة وغير الآمنة، مثل (تآكل قيمة الليرة- التعقيدات في العمل المصرفي واشتراطات وقيود الإيداع والسحب التي أدت إلى انعدام الثقة فيه- عدم استقرار وتذبذب أسعار الذهب والدولار كملاذات معتادة لحفظ الثروة وادخارها- عزوف رؤوس الأموال عن الاستثمار في ظل بيئة استثمارية شديدة الخطورة...) ما أدى إلى تزايد ظاهرة الادخار في العقارات.
ويبدو ألّا توجه حكومي إلى الاستثمار في قطاع الإسكان في ظل الظروف الحالية القاسية للغالبية العظمى من الناس، التي تفرض وبشكل شديد الإلحاح حل مشكلة السكن المستعصية تاريخياً والمتفاقمة حالياً!
فالإصرار على تحويل مؤسسات الدولة إلى شركات هدفها الأساسي هو الاستثمار والجدوى الاقتصادية، على حساب المسؤوليات الاجتماعية، بات البوصلة التي تسير عليها الحكومات المتعاقبة والحالية، ولكيفية استثمارها لمواردها، علماً أن المسؤوليات الاجتماعية تبرر جزءاً كبيراً من شرعية عمل الحكومات كما يفترض!
فمن الأولويات المفترضة حكومياً تحسين الواقع الاجتماعي للمواطنين، وحاجاتهم التي يجب أن توفرها لهم خارج إطار قوانين السوق والربح والخسارة!
فالمفاضلة بين القطاعات على مبدأ الجدوى الاقتصادية، بحسب الحديث الرسمي أعلاه، يعني المزيد من التراجع في استثمارات السكن الرسمية في المرحلة المقبلة، رغم أنها سلفاً تعتبر استثمارات خجولة وعليها الكثير من الملاحظات!
أما عن البدائل الاستثمارية التي طرحها رئيس الحكومة (الزراعية والصناعية) فلا ندري أين موقعها في ظل أنماط التخلي الرسمي عن القطاعات الإنتاجية العامة تباعاً، تارة بذريعة الخسارة، «التخسير» عملياً، وتارة بذرائع الاستثمار والتشاركية مع القطاع الخاص، وهذا التوجه أصبح رسمياً ومعلناً من قبل الحكومة الحالية!
نقطة إضافية تجدر الإشارة إليها من وقائع فتح ملف السكن في الجلسة الحكومية، حيث أشار رئيس اللجنة الاقتصادية وزير الصناعة الدكتور محمد سامر الخليل إلى أن «قطاع البناء والإسكان له أهمية كبيرة وتنشيط هذا القطاع يحقق مجموعة من الأهداف بحيث يساهم في تحريك كتلة مالية كبيرة غير مستثمرة لدى المصارف، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك طلباً متزايداً على السكن».
الحديث أعلاه شق آخر لا يتعارض مع حديث رئيس الحكومة كما يبدو في الظاهر، لكن الترجمة العلمية له أن الكتلة المالية الكبيرة غير المستثمرة لدى المصارف لن توجه لاستثمارها في القروض العقارية والسكنية المخصصة للمواطنين، بل ربما سيتم تخفيض هذه القروض وخياراتها إلى الحدود الدنيا، حتى تلك القروض المخصصة لترميم المنازل المدمرة نتيجة الحرب أو نتيجة الزلزال الذي ضرب البلاد، بينما سيفسح المجال لاستثمارها من قبل الشركات المتخصصة بالقطاع العقاري، مثل شركات التطوير العقاري التي تم تشميلها بقانون الاستثمار مع ميزاته وإعفاءاته!
على ذلك يبدو أن مفهوم الجدوى الاقتصادية، بما يخص ملف السكن وفق المنظور الحكومي، أصبح يقتصر على ضمان مصالح القلة من أصحاب الأرباح فقط لا غير، مع تكريس الخروج الرسمي للحكومة عن واجباتها ومسؤولياتها بما يخصه!
الحق في السكن والتكاليف الخيالية!
تكريس تراجع الدولة عن دورها بضمان حق السكن للمواطنين، وصولاً إلى التخلي الحكومي الحالي بشكل نهائي عن واجباتها بهذا الخصوص، يعني أن أصحاب الأجور والغالبية المفقرة، التي تواجه الظروف المعيشية القاسية والصعبة، سيفقدون أي بصيص أمل بامتلاك مسكن آمن ولائق، بل أصبح ذلك شبه استحالة، ليس بسبب قلة المشاريع السكنية العامة التي يفترض أن تكون مخصصة لهم، بل لكون هذ المشاريع تاريخياً كانت محدودة وغير كافية لتلبية الحاجات المتنامية للسكن، وأيضاً بسبب تكلفتها المرتفعة التي لم تعد تختلف عن تكاليف سكن المتعهدين وتجار العقارات وسماسرتها!
ويمكن توضيح ذلك من خلال بعض بيانات التكاليف لواقع البناء والإيجار، مقارنة بإمكانات السوريين المتاحة!
تقدر تكلفة بناء المتر المربع حالياً، من دون سعر الأرض، بنحو 4.5 مليون ل.س موزعة بين تكاليف الهيكل والإكساء، وبالتالي فإن تكلفة منزل مساحته 100 متر مربع تقدر بنحو 450 مليون ل.س، هذا من دون سعر الأرض الذي يشكل نحو 40% وسطياً من تكلفة البناء، أي إن الكلفة الإجمالية لمنزل بهذه المساحة تقدر وسطياً بنحو 750 مليون ل.س الآن، تقل أو تنقص بنسب متفاوتة تبعاً للمكان (ريف أو مدينة)، ونوعية الإكساء (بازاري- شعبي- ترفي)، والمواصفات الفنية والصحية والخدمات، وغيرها من المعايير الكثيرة الأخرى!
وبالمقارنة مع واقع الأجور الحالي فإن العائلة السورية بحاجة إلى مئات السنين لامتلاك منزل بهذه المساحة، على افتراض أن دخلها سيخصص بالكامل لمنزل الأحلام من دون أن تنفق ليرة واحدة لأكلها وشربها ولبسها وطبابتها ومواصلاتها، وعلى افتراض أيضاً بقاء الأسعار ثابتة، فهل من استحالة أكبر من ذلك بامتلاك منزل من قبل أصحاب الأجور الهزيلة والمفقرين!
وعلى اعتبار أن حق ملكية السكن أصبح حلماً خيالياً ومستحيلاً بالنسبة لأصحاب الأجور والمفقرين، وعلى اعتبار أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش في العراء بلا مأوى، فإن الخيار المتاح هو الإيجار، ولكن حتى هذا الخيار بات صعباً ويشكّل عبئاً يثقل كاهل الموازنة الشهرية للعائلة السورية!
حيث يبلغ إيجار المنزل في حده الأدنى، وفي المناطق العشوائية، ما لا يقل عن 1.5 مليون ل.س شهرياً، هذا بحال الحديث عن منزل صحي وبمنطقة شبه مخدمة، وهو مبلغ كبير بالمقارنة مع الدخول الشهرية الهزيلة، وهناك على الطرف المقابل بيوت معروضة للإيجار بمبالغ أقل من ذلك، لكنها تفتقر إلى الكثير من الشروط الصحية، وبمناطق بعيدة وخدماتها سيئة، مع الأخذ بعين الاعتبار الكثير من الاشتراطات الإضافية مثل تسديد 3-6 أشهر سلف، والإخلاء عند نهاية العقد، وتسديد الضريبة وبدل السمسرة من قبل المستأجر، وغيرها!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1203