الجهات الرسمية كل يغني على ليلاه أم متفقة على تقويض مقدرات البلاد والعباد؟!
لم يعد مستغرباً حال انفصال وانفصام الجهات الرسمية عن الواقع وعن متطلبات وضرورات المواطنين، لكن ما يثير الغرابة هو حال انفصال وانفصام هذه الجهات عن بعضها البعض، وكأن كلّاً منها يعيش في كوكب مختلف عن الآخر، حيث تقوم هذه الجهات بإعداد وتقديم تقاريرها وبعرض سياساتها بما يتناسب مع حالها بكوكبها الخاص، دون التشبيك مع غيرها في الكواكب الأخرى!
المثال المستجد عن هذه الحال من الانفصال والانفصام هو التقرير اليومي للمصرف المركزي المؤرخ في 17/10/2024، والذي يشير فيه إلى أثر ارتفاع تكاليف الإسكان على التضخم، حيث جاء فيه ما يلي:
«ارتفعت تكاليف الإسكان بشكل كبير مع ارتفاع مكونات مؤشر أسعار المستهلك الأخرى، وأيضاً مواد البناء والإكساء، لتأخذ حصة متزايدة من معدل التضخم (الجامح)، وحيث إن إجراءات السياسة النقدية التشددية بما فيها رفع سعر الفائدة لمواجهة التضخم قد تعطي فرصة للعديد من الملاك بتمرير فاتورة التمويل وبصورة مضخمة أكثر إلى المستأجرين والراغبين بالاستملاك على حد سواء (إلا حالات ضبط الائتمان العقاري بمعايير مناسبة). فارتفعت الإيجارات بشكل تجاوز معدل التضخم في الكثير من المناطق، وفي هذه الحالة، وعلى الرغم من استمرار جهود السياسة النقدية في ضبط معدل التضخم إلا أنها وحدها لن تتمكن من التأثير على مكونات مؤشر أسعار المستهلك كافة ولا سيما تكاليف الإسكان، مما يتطلب سياسة اقتصادية كلّية تعمل بنسق موحد ومتوازن لإجبار التضخم المرتفع على التراجع، وضبط مكونات مؤشر أسعار المستهلك كافة.»
لا شك أن التقرير أعلاه مختصر جداً، لكن رغم الاختصار يمكن التوقف عند بعض النقاط الهامة الواردة في متنه، والتي تمثل اعترافاً جزئياً بأوجه الخلل في بعض التوجهات والسياسات الاقتصادية التي تؤثر على حياة الناس ومعاشهم وخدماتهم:
ارتفاع تكاليف الإسكان ومؤشرات مكونات أسعار المستهلك.
تم توصيف التضخم بمعدلاته المتزايدة بأنه جامح.
إجراءات السياسة النقدية تشددية.
بدلات الإيجار ارتفعت متجاوزة معدلات التضخم.
السياسة النقدية لن تتمكن وحدها من التأثير على مكونات مؤشر أسعار المستهلك.
والمطلوب سياسة اقتصادية كلية تعمل بنسق موحد ومتوازن لإجبار التضخم المرتفع على التراجع.
ودون الخوض بالكثير من التفاصيل بما يخص عنوان التقرير حول ارتفاع تكاليف السكن، يتضح من الخلاصات أعلاه، أن المصرف المركزي يقر بأن سياساته النقدية التشددية، وبغض النظر عن رأينا حول مدى صوابيتها وملاءمتها للواقع وضروراته، ومدى مساهمتها بزيادة معدلات التضخم، لم تعد كافية لمواجهة التضخم «الجامح»، وهو على ذلك يطالب بسياسات اقتصادية كلية تعمل بنسق منسجم ومتوازن من شأنها مواجهة هذا التضخم وكبحه!
أي إن المصرف المركزي، بالرغم من تحييد نفسه كمساهم عبر سياساته النقدية بزيادة معدلات التضخم الجامح، يقر بغياب السياسات الاقتصادية الكلية، وبغياب التناسق والانسجام فيما بينها، وهو اعتراف بحال انفصال وانفصام الجهات الرسمية عن الواقع وعن متطلبات وضرورات المواطنين، وعن بعضها البعض!
المصرف المركزي ليس الجهة الرسمية الوحيدة التي تصدر التقارير الدورية المتضمنة بعض الملاحظات والاقتراحات، مع مساعي تحييد نفسه عن المسؤوليات المباشرة المتعلقة بمهامّه وواجباته، فالكثير من الجهات الرسمية تمارس الدور نفسه في تقاريرها الدورية، التبريرية والتبرُّؤية من النتائج السلبية لجملة السياسات والتوجهات الرسمية وبانعكاساتها الكارثية على الواقع الاقتصادي وعلى حياة المواطنين، والتي تتناقلها بعض وسائل الإعلام تفنيداً وتفصيلاً!
ويبدو أن الحكومة لا تقرأ أو لا تهتم بالتقارير الصادرة عن بعض الجهات الرسمية المعنية بدراسة الوضع الاقتصادي الكلي للبلاد، وفي رسم بعض السياسات ومسؤولياتها حيالها، مثل «المصرف المركزي» ومختصر مطالبته التي تشير إلى لزوم وجود سياسات اقتصادية كلية منسجمة من أجل مواجهة التضخم!
فعلى سبيل المثال تقول بعض البيانات والمؤشرات التتبّعية التي وردت عبر بعض مواد قاسيون خلال الفترة القريبة الماضية، بخصوص بعض المؤشرات الاقتصادية الكلية، إن الناتج المحلي للزراعة انخفض بنسبة 63% بين عامي 2010 و2022، وتدهور الناتج المحلي الصناعي بنسبة 81% بين نفس العامين، ووصل معدل التضخم التراكمي للفترة نفسها إلى حدود 6342% تقريباً، وإن قدرة السوريين على الاستهلاك تآكلت خلال هذه السنوات، حيث بلغت معدلات تراجع الاستهلاك ما لا يقل عن 74%، فالحد الأدنى للأجور الذي يبلغ 280 ألف ليرة لا يغطي من الحد الأدنى للمعيشة البالغ حوالي 8 ملايين ليرة سوى بنسبة 3.4% فقط، كما تشير التقارير الصادرة عن منظمة الصحة العالمية بأن 90% من السوريين باتوا قابعين تحت خط الفقر الأدنى وذلك وفقاً لإحصائيات عام 2022، وهناك الكثير من الأرقام والمعطيات الشبيهة التي تؤكد الواقع المجحف والمفروض على حياة البلاد والعباد من خلال السياسات الاقتصادية المشوهة والظالمة المتعبة رسمياً!
بالمقابل وبكل اختصار وتبسيط يمكن القول إن المقصود بالسياسة الاقتصادية الكلية هي تلك الخطط والإجراءات التي يفترض أن تتبناها الحكومات لتحقيق الأهداف المفترضة منها والمتمثلة بزيادة معدلات النمو الاقتصادي، والتي تتم من خلال دعم الإنتاج الحقيقي (الزراعي والصناعي- العام والخاص) وتذليل صعوباته، وتحسين مستويات المعيشة، إضافة إلى تخفيض معدلات البطالة وزيادة فرص العمل، والمساهمة الحقيقية والفعلية باستقرار مستوى الأسعار وكبح التضخم، وغيرها من الإجراءات الهامة والضرورية التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال دور قوي للدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
لكن على العكس من ذلك ما زالت الحكومة مصرة على الاستمرار بالنهج والسياسات ذاتها والتي أدت بالنتيجة إلى التضخم الجامح وإلى الارتفاعات المستمرة في مؤشرات مكونات أسعار المستهلك، وصولاً إلى تسجيل معدلات متزايدة من الفقر والعوز والجوع وانعدام الأمن الغذائي للمواطنين، بل وحتى مضاعفة وتيرتها الاقتصادية المدمرة، تحت عناوين تختصرها بعض العبارات المستجدة التي تمثل توجهات الحكومة الجديدة، مثل «انتقال دور الدولة من التشغيل إلى التنظيم»، أو «وجود أبعاد اجتماعية لمؤسسات القطاع العام لا يبرر وجود منشآت خاسرة»، أو «التفكير خارج الصندوق»، وغيرها من العبارات، الرنانة بوقعها، والكارثية بمدلولها ومضمونها وبنتائجها، والتي تدل في جوهرها على استكمال إنهاء دور الدولة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية، واستكمال خصخصة ما تبقى من المنشآت والصناعات والخدمات العامة، ولا سيما الاستراتيجية منها كالكهرباء وغيرها، تحت عنوان التشاركية والاستثمار، وبالتالي مزيد من تحرير الأسعار ومزيداً من التضخم، وأخيراً مزيد من التدهور المعيشي لعموم السوريين وإفقارهم، والأهم، مزيد من الفرز الطبقي لمصلحة القلة من كبار حيتان النهب والفساد، على حساب مصلحة الغالبية المفقرة والاقتصاد الوطني، والمصلحة الوطنية عموماً!
فهل فعلاً يوجد انفصال بين الجهات الرسمية، أم إنها تعمل بحالة انسجام تام وعالٍ في سبيل إنهاء ما تبقى من مقدرات البلاد والعباد؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1200