مسيرة استكمال التضحية بالقطاع العام مستمرّة!
يواجه قطاع الإنتاج الصناعي جملة من المعيقات والصعوبات، ويأتي ذلك نتيجة التوجهات والسياسات الحكومية في إدارة هذا القطاع منذ سنوات ما قبل الأزمة، والمستمرة خلال سنوات الأزمة، حيث تفاقمت هذه الصعوبات بشكل كبير بسبب الحصار والعقوبات الاقتصادية، وبسبب الاستمرار بالسياسات والتوجهات الرسمية نفسها!
فالقطاع الصناعي المنتج، بشقيه العام والخاص على السواء، يعاني من العديد من المشكلات المشتركة المزمنة، ومنها على سبيل المثال صعوبات تأمين مستلزمات الإنتاج وارتفاع تكاليفها، وارتفاع تكاليف حوامل الطاقة ومحدودية توفرها، وبالتالي ارتفاع تكاليف الإنتاج، الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والبضائع، بالتوازي مع انحسار وتآكل قدرة عموم السوريين على الاستهلاك نتيجة للسياسات الاقتصادية المتبعة عموماً وسياسة الأجور خصوصاً، ما يعني استمرار تفاقم الصعوبات والمعيقات التي تواجه هذا القطاع!
الخصخصة المبطّنة والمعلنة هي الحل السحري!
أشار البيان الحكومي، الذي صدر الأسبوع الماضي، إلى ضرورة معالجة الوضع القانوني للمنشآت الصناعية العامة المدمَّرة وغيرها، بالتوازي مع إتاحة فرص الاستثمار بين القطاعين العام والخاص لكل المطارح القابلة للاستثمار، المتضررة أو المتوقفة أو الخاسرة!
وقد وردت العبارة الآتية على لسان رئيس الحكومة خلال عرضه البيان أمام مجلس الشعب:
«في ظل الصعوبات المالية العميقة التي تواجهها المالية العامة للدولة، وفي ضوء الانتشار العشوائي للاستثمار العام، الناجح في بعض الأماكن والفاشل في أماكن أخرى، وفي ضوء الصعوبات البالغة التي تواجه تجديد الاستثمار العام، أو إعادة تأهيله أو تطويره فإن القرار بالانسحاب من الجبهات الفاشلة هو قرار استثماري رابح لن تتردد الحكومة في اتخاذه عند استيفاء متطلبات صنعه، وعند ثبوت جدواه من وجهة النظر الوطنية العليا. ولا يفوتني هنا أن أؤكد على أن القول بوجود أبعاد اجتماعية للقطاع العام، لا يبرر إطلاقاً وجود مؤسسات خاسرة، بل غارقة في الخسارة، في حين لا يكاد يظهر هذا البعد الاجتماعي، وإن ظهر فهو لا يرقى إلى مستوى تبرير مثل هذا العجز الاقتصادي والتشغيلي والمالي».
يتضح من خلال ماورد أعلاه استمرار الحكومة بنهج التخلي عن القطاع العام وتكريس الانسحاب منه، وخاصة المنتج، بذريعة «الجبهات الفاشلة»، والأكثر وضوحاً هو التخلي عن الأبعاد الاجتماعية لهذا القطاع، بذريعة «الخسارة» بالمعنى الاقتصادي، والعبء على الموازنة العامة، وبالتالي طرح وتبني اللجوء إلى القطاع الخاص تحت عناوين الاستثمار والشراكة والتشاركية، كخصخصة غير مباشرة للجهات العامة المنتجة!
واللافت بهذا الطرح أن القطاع الخاص الذي يجري الحديث عنه وكأنه قادم من عالم آخر!
فالمستثمرون في القطاع الخاص الصناعي، والصناعيون عموماً، يعانون سلفاً من مشكلات كثيرة تعيق نمو صناعاتهم واستثماراتهم واستمرارها!
فإضافة إلى المعيقات المرتبطة بالأزمة والعقوبات، يواجه قطاع الإنتاج الصناعي الخاص تحديات كبيرة سببها الرئيسي الإجراءات والقرارات التي تعتمدها الحكومة، بدءاً من سياسات تحرير أسعار حوامل الطاقة والانسحاب من تأمينها، وليس انتهاءً بالتجاهل المستمر لمطالب الصناعيين القديمة والمتكررة، مثل حماية المنتج المحلي من المنتجات المستوردة أو المهرّبة الشبيهة، وتخفيض أسعار حوامل الطاقة، وتسهيل عمليات استيراد مستلزمات الإنتاج، ومعالجة السياسات الجمركية والضريبية والمالية المشوهة، وغيرها الكثير من المطالب التي تساعد على تخفيض تكاليف الإنتاج، وبالتالي تخفيض الأسعار وزيادة معدلات الاستهلاك، وزيادة فرص التصدير وفتح أسواق تصديرية جديدة!
ولا ندري من هو المستثمر الخاص، الذي يعاني ما يعانيه في منشآته وإنتاجه، وفي الوقت نفسه سيغامر بمزيد من الاستثمار غير المضمون في شركات القطاع العام (المتضررة أو المتوقفة أو الخاسرة)، في ظل الاستمرار بالنهج والسياسات الرسمية ذاتها والمتسببة بمعاناته وصعوباته؟!
خسارة أم تخسير متعمّد؟!
الحديث عن خسارة شركات القطاع العام المنتج ومؤسساته قديم، لكن تزايدت جرعاته خلال السنوات الماضية، لتبدو المشكلة وكأن أي شركة عامة مصيرها الخسارة حتماً، مع جرعات إضافية من اليأس والتيئيس من هذا القطاع، وذلك بوصفه عاماً فقط، لكن حقيقة الأمر ليست كذلك من كل بد!
فمعيار خسارة الشركات العامة المنتجة، أو تحقيقها الجدوى الاقتصادية المطلوبة منها، هو حسن إدارتها وتوظيف الموارد المتاحة بالشكل المطلوب افتراضاً، وهذا طبعاً بحال اقتصار الحديث عن الجدوى على الجانب الاقتصادي فقط، بمعزل عن الجدوى على الجانب الاجتماعي، وهو ما تم الإعلان عن تجاوزه صراحة!
فتراجع وعجز الشركات العامة المنتجة، أو ما تبقى منها، له الكثير من الأسباب الجوهرية التي لا بد من معالجتها من أجل أن تقوم بدورها وواجباتها المفترضة، اقتصادياً واجتماعياً، وذلك شرط توفر النية الرسمية الجادة في ذلك!
ولعل أحد أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع القطاع العام المنتج هو تخفيض الإنفاق الاستثماري الموجّه لهذا القطاع طوال السنوات السابقة، وبشكل ممنهج ومتعمد، وبالتالي إعاقة استمراره وعدم تطويره، بالإضافة إلى التوقّف الجزئي أو الكلّي لبعض منشآته بسبب عدم توفر بعض مستلزمات الإنتاج، أو المواد الأولية، مع عدم تغييب سبب إضافي لا يقل أهمية يتمثل بزيادة تكاليفه لدرجة الإنهاك، بما في ذلك حجم النهب والفساد الذي تتعرض له الشركات المنتجة العامة، والتي أدت بمحصلتها إلى خسارة بعضها، أو تخسيرها بمعنى أدق!
فالنهب والفساد يستنزف جزءاً هاماً من موارد الشركات العامة ومخصصاتها، ويبدو أن الحكومة الجديدة كغيرها، تعتبر هذا النهب قدراً لا رادّ له، لا يمكن معالجته ولا محاربته ولا محاسبة القائمين عليه، مما أوصلها إلى الحل السحري وهو التخلي عن شركات القطاع العام لصالح القطاع الخاص، بدلاً من النهوض بها ودعمها!
وكمثال على ذلك فقد انخفضت اعتمادات الإنفاق الاستثماري في الموازنات السنوية بين عامي 2020 و2024 بنسبة 74% تقريباً، حيث كانت في عام 2020 حوالي 3 مليارات دولار، في حين انخفضت في عام 2024 إلى ما يعادل حوالي 780 مليون دولار، وهذه هي القيم الفعلية للاعتمادات المخصصة لهذه الغاية بعد تحويلها من الليرة إلى ما يعادلها بالدولار وفقاً لسعر الصرف الرسمي في هذه السنوات!
وعلى الرغم من الزيادة المقدرة للإنفاق الاستثماري في عام 2025، حيث قدر حجم هذا الإنفاق بنحو 1,16 مليار دولار، إلا أنه لا يزال منخفضاً عن الإنفاق الاستثماري ضمن عام 2020 بحدود 60% تقريباً!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن تخصيص اعتمادات استثمارية في الموازنات السنوية لا يعني بالضرورة توجيهها إلى القطاعات العامة المنتجة، كما لا يعني أن هذه الاعتمادات جرى حسن استثمار ما صرف منها على المشاريع بحسب نسب تنفيذها المعلنة، وهذا ما يعكس التوجه الممنهج لتقويض دور الدولة وقطاعها العام المنتج في الاقتصاد الوطني!
فكيف للقطاع العام المنتج أن يستمر، أو أن يقوم بمهامه وواجباته الاقتصادية والاجتماعية، وهو مثقل لدرجة الإنهاك بالصعوبات والمعيقات، وبضعف الاستثمار فيه، وبعوامل النهب التي يتعرض لها، وفوق كل ذلك توجهات رسمية تيئيسيّة منه؟!
أرقام تفنّد ادعاءات الخسارة وجرعات التيئيس الممنهجة!
هنا سنستشهد ببعض الأرقام التي أوردتها قاسيون مؤخراً بمادة حملت عنوان «حملة الإعدام لشركات القطاع العام الإنتاجي مستمرة!» بتاريخ 20/10/2024:
«في عام 2023 حققت المؤسسة العامة للصناعات الهندسية أرباحاً بعد الضريبة بمبلغ 65 مليار ليرة، وقد كان مجموع قيمة الإنتاج في الشركات والمعامل التابعة مبلغ 462 مليار ليرة، على ذلك فقد حققت المؤسسة نسبة أرباح صافية 14% تقريباً! أما المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية فقد حققت أرباحاً في عام 2023 بعد الضريبة بمبلغ 15 مليار ليرة، وقد كان مجموع قيمة الإنتاج في الشركات والمعامل التابعة مبلغ 102 مليار ليرة، على ذلك فقد حققت المؤسسة نسبة أرباح صافية 15% تقريباً! على الرغم من أن بعض شركات ومعامل المؤسستين متوقفة أو خارج الخدمة نسبياً مع عدم إغفال كل عوامل زيادة التكلفة بما في ذلك هوامش النهب والفساد!».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1198