القطاع الصحي العام من الإهمال إلى التفريط!
سارة حبيب سارة حبيب

القطاع الصحي العام من الإهمال إلى التفريط!

بات من الطبيعي الحديث عن تكلفة مليونية للعلاج، حتى في المشافي العامة التي لم تعد استثناءً بتكلفة الاستشفاء المرتفعة فيها، خاصة مع تزايد حصة الخدمات المأجورة بداخلها!

فمنذ سنوات سبقت الأزمة والخدمات الصحيّة في المشافي العامة تعاني من تراجع تدريجيّ تعمقت آثاره ونتائجه خلال سنوات الأزمة، لنصل اليوم إلى واقع مأساوي لقطاع صحي عام، يحتضر كنتيجةٍ منطقية للتوجهات الرسمية في تخفيض الإنفاق العام، والسير نحو إنهاء الدعم، والخصخصة التي باتت لا تغادر أفواه المعنيين، بالإضافة لعوامل النهب والفساد التي تعمقت بشدة، استقواءً بالسياسات الرسمية من جهة، والمفسدين من جهة أخرى!

على حساب أمن المواطن الصحي!

يشكل الوقوع في المرض عبئاً مادياً كبيراً على كاهل المريض وذويه، بالإضافة لعبء المرض نفسه، في ظل واقع القطاع الصحي المنهار والمتدهور، الذي بات يهدد أمن المواطن الصحي!
فالمشكلة تعاظمت عن كونها ارتفاعاً في التكاليف على المواطن فقط، لتشمل نقصاً في المواد الطبية الأساسية، من معقمات وضمادات وأبر وكفوف طبية، حتى الأدوية الإسعافية من مسكنات وسيرومات، وصولاً للوازم العمليات، يضاف إلى ذلك كله نقص الكوادر الطبية، وندرة بعض الاختصاصات، والأكثر سوءاً تعطل بعض التجهيزات وخروجها عن الخدمة، ومن الطبيعي بعد كل ما سبق أن تشهد الخدمة الصحية المزيد من التراجع والتردي على حساب أمن المواطن الصحي!

الإنفاق ما بين التمنين الحكومي والحقيقة المرة!

تكمن خلف الأرقام الحكومية المتزايدة، التي تمنُّ بها الجهات الرسمية على المواطن، الحقيقة المظلمة التي تبين عكس ذلك!
فالأرقام الرسمية، بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء، تقول: إن الإنفاق التقديري لوزارة الصحة في الموازنات السنوية ارتفع، فقد كان بحدود 9 مليار ليرة في عام 2010، ووصل الى حدود 404 مليارات ليرة في عام 2022!
لكن واقع الحال يقول: إن تقديرات الإنفاق قد تم قضمها وتقليصها فعلياً، فبإعادة حساب الأرقام أعلاه، بما يعادلها بالدولار وفقاً للسعر الرسمي، يتبين أن الإنفاق في عام 2010 كان بحدود 200 مليون دولار، وقد وصل في عام 2022 إلى 144 مليون دولار، ما يعني أن الإنفاق الحكومي قد تم بلعه وتخفيضه بنسبة 28%، أي الثلث تقريباً، وذلك توافقاً مع النهج الليبرالي، وسياسات تخفيض الإنفاق والدعم التي انتهجتها الحكومة!
وبهذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن حصة القطاع الصحي من تقديرات الموازنة هي حصة استثنائية بضآلتها سلفاً، إذ لا تعادل نفقات الصحة سوى 4.7% من إجمالي الإنفاق في الموازنة العامة للدولة لعام 2022، وهي نسبة منخفضة جداً بالمقارنة مع دول الجوار، التي تخصص وسطياً نسبة لا تقل عن 10% من موازناتها للإنفاق على قطاع الصحة!
ولعله من المشروع هنا التساؤل: عما سيؤول إليه حال القطاع الصحي في حال استمرت الحكومة بسياساتها الظالمة، والأهم، كيف سيكون عليه حال المواطن المفقر المتروك للجوع والمرض ينهش عظامه؟!

مزيد من الأرقام!

انعكس تخفيض الإنفاق سلباً على الخدمات التي تقدمها وزارة الصحة كافة، سواء في المراكز الصحية التابعة لها، أو في المشافي، فقد تراجعت الخدمات الصحية المقدمة من وزارة الصحة في المشافي من 21 مليون خدمة تقريباً في عام 2010، إلى 19 مليون خدمة تقريباً في عام 2022، وبنسبة تراجع 9%، وكذلك تراجعت الخدمات الإسعافية من 4 مليون خدمة تقريباً في عام 2010 إلى مليوني خدمة تقريباً في عام 2022، وبنسبة تراجع 43%!
وهنا نتساءل: هل تدني جودة الخدمات المقدمة في المشافي العامة هو سبب هذا التراجع فقط، أم أن ذلك مرتبط بزيادة حصة المأجور في هذه المشافي على حساب المجاني، على ضوء توجهات الخصخصة المباشرة وغير المباشرة فيها؟!
وهنا نكرر السؤال المهم والأساسي أيضاً: أين هو المواطن المفقر من ذلك كله؟
ولمصلحة من كل هذه القرارات الفجة والوقحة، ابتداء من قرارات تخفيض الإنفاق وصولاً إلى قرارات الخصخصة وتقويض القطاع الصحي العام!

تهاوي مفهوم الرعاية الاجتماعية والتداعيات الكارثية!

لم تأبه الجهات الرسمية منذ سنوات طويلة بتطوير القطاع الصحي العام أو تحسينه، بل على العكس تماماً، عمدت على إهماله ودفعه نحو الهاوية بسياساتها الليبرالية الظالمة، ونهجها المستمر بتخفيض الإنفاق، الأمر الذي انعكس على الخدمات الطبية المقدمة، وأدى إلى تراجعها إلى أدنى مستوياتها!
فتجهيزات المشافي متهالكة ومعطلة، والكوادر الطبية والتمريضية تتراجع، عدداً ونوعاً وكفاءة، مع استمرار سياسات النبذ والتطفيش، وخاصة السياسات الأجرية، وتفتقر المشافي للعديد من المستلزمات المخبرية الضرورية، وكذلك تعاني من نقص مستمر بالكثير من الأصناف الدوائية، وخاصة تلك المرتبطة بالأمراض المزمنة والخطرة، ويتعين على المريض استناداً لكل ما سبق، أن يتحمل أعباء وتكاليف غالبية الإجراءات الطبية، من أبسطها إلى أعقدها!
والتكلفة الإجمالية التي نتحدث عنها أصبحت فعلاً مليونية تعجز عن تحملها الغالبية المفقرة، لتزداد أمراض هؤلاء، ولتستمر صحتهم بالتراجع، وليصبح المجتمع عموماً بوضع صحي كارثي!
فقد تهاوى مفهوم الرعاية الاجتماعية، وسقط معه مفهوم التداوي المجاني وشبه المجاني في المشافي العامة، ليتوج ذلك كله بالتوجه الرسمي للمضي قدماً في التخلي عن هذا القطاع الهام، بدءاً من اعتبار المشافي العامة هيئات عامة مستقلة، وصولاً إلى الخصخصة غير المباشرة تحت عناوين التشاركية، وبذريعة تحسين مستوى الخدمة، ومع طغيان الخدمات المأجورة على حساب الخدمات المجانية افتراضاً!

التفريط بصحة العباد ومصلحة البلاد!

يتبين من كل ما سبق، أن الحكومات المتعاقبة ساهمت بشكل مباشر بدفع القطاع الصحي العام نحو المزيد من التدهور، حتى بات عاجزاً عن تأدية مهامه وواجباته المفترضة، وخاصة تجاه المفقرين العاجزين عن اللجوء للتداوي والاستشفاء في المشافي الخاصة!
فالمرضى المفقرين، وفي ظل الوضع المعيشي المتردي، والواقع المتردي لخدمات المشافي العامة وتكاليفها المرتفعة، عزفوا عن التداوي وتشخيص الكثير من مشاكلهم الصحيّة، إذ أنهم باتوا يفضّلون تحمّل الآلام والأعراض المرضية بدل تكبدهم مبالغ مالية كبيرة على حساب تجويع أطفالهم وحرمانهم من متطلبات الحياة البسيطة، ما أدى إلى زيادة انتشار الأمراض غير المعالجة، بل وغير المشخصة!
فهل ترى الحكومة نتائج قراراتها وتوجهاتها الكارثية على صحة المجتمعٍ، أم أنها لا تمانع في التفريط بصحة وأمن المواطن الصحي ومصلحة البلاد بالنتيجة؟!
فعلى الرغم من كل ما سبق ما زالت الحكومة ماضية بسياسات تخفيض الإنفاق وإنهاء الدعم وبتوجهات الخصخصة، وصولاً إلى استكمال إنهاء دور الدولة، ليس على مستوى الرعاية الصحية فقط، بل وعلى المستويات الأخرى كافة!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1194