تراجع الإنتاج الزراعي.. تحليل البيانات الرسمية يُعري السياسات الجائرة!
أخذ قطاع الإنتاج الزراعي بالتدهور والتراجع منذ قرابة العشرين عاماً، وتحديداً مع تبني سياسات الانفتاح الاقتصادي في العام 2005، والتي كانت إحدى أهم أدواتها تخفيض الدعم الحكومي، وما نتج عن ذلك من ارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي، والعزوف عن الاستثمار بهذا القطاع!
ومع انفجار الأزمة في العام 2011 وتوحش السياسات الليبرالية المتبعة، والإصرار على سياسات خفض الإنفاق العام، ومسيرة إنهاء الدعم وزيادة وتيرتها، أصبح واقع القطاع الزراعي يرثى له، ويسير من سيئ إلى أسوأ كل عام، بالرغم من أهميته على مستوى الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي وفائض التصدير، وضخامة أعداد العاملين فيه، بالإضافة إلى مساهمته في رفد قطاع الصناعات الغذائية والتحويلية بالمواد الأولية كمدخلات إنتاج، لتغطية الاحتياج المحلي مع فائض التصدير منها، وأخيراً مساهمته الكبيرة بالناتج المحلي الإجمالي!
تصفير الدعم واعدام الانفاق العام على الزراعة!
في ظل العوامل الموضوعية التي تؤثر سلباً على واقع الإنتاج الزراعي، ونقصد هنا التغيرات المناخية وما ينتج عنها من انخفاض معدلات الأمطار، وارتفاع متوسط درجات الحرارة، وانخفاض منسوب المياه الجوفية، وبالتالي، زيادة نسبة تصحر التربة وتدهورها، كان من المفترض أن تكون هناك إجراءات رسمية على مستوى الدولة، ودور فاعل لواضعي السياسات المتعلقة بإدارة القطاع الزراعي، كابحة لتأثير هذه العوامل المركبة بتأثيرها الخطير على الإنتاج الزراعي، لمواجهتها والتخفيف من آثارها!
ولعل المؤشر الأهم فيما يخص دور الدولة في هذه الخصوصية، هو حجم الاعتمادات المخصصة لقطاع الزراعة من الموازنة العامة.
الجدول التالي يبين حجم الاعتمادات المخصصة للزراعة، ضمن عينة من السنوات تغطي الفترة الممتدة من العام 2000 وحتى العام 2022، وذلك استناداً إلى بيانات المكتب المركزي للإحصاء، وقد عمدنا إلى معادلتها بالدولار حسب سعر الصرف الرسمي في كل عام، وحسبنا نسبة الإنفاق على الزراعة من إجمالي النفقات الحكومية في كل سنة من واقع أرقام موازناتها:
يوضح الجدول أعلاه، أن السياسات المتبعة لإدارة القطاع الزراعي تأتي لتنسجم وتتناغم مع التغيرات المناخية التي تؤثر سلباً بالإنتاج الزراعي، في حين أن المفترض هو القيام بإجراءات معاكسة من شأنها تخفيف أثر هذه المتغيرات!
فقد انخفض الإنفاق على القطاع الزراعي بين العامين 2000 و2022 بنسبة لا تقل عن 95.2% تقريباً، أي أنه مع اشتداد تأثيرات تغير المناخ سنة بعد أخرى، مع غيرها من العوامل السلبية الأخرى، فإن السياسات وضعت لتخفض الإنفاق على الزراعة بمعدل وسطي سنوياً يقدر بحوالي 12.8% خلال السنوات الممتدة من 2000 وحتى 2022!
إضافة إلى ذلك، يتضح من خلال الجدول السابق تراجع الأهمية النسبية لقطاع الزراعة من وجهة نظر واضعي السياسات!
فقد بلغت نسبة اعتمادات الزراعة من إجمالي الإنفاق الحكومي حوالي 9.49% في العام 2000 وانخفضت بشكل ممنهج خلال هذه السنوات لتصبح شبه صفرية في العام 2022، حيث بلغت 0.62% تقريباً، وهذا ليس تصفيراً للدعم، بل إعداماً للإنفاق العام على هذا القطاع الهام!
الأراضي الصالحة للزراعة والمستثمر منها!
تقدر الأراضي الصالحة للزراعة بحوالي 6000 ألف هكتار، ما يشكل حوالي 31% من اجمالي مساحة سورية، ولكن كون الأرض صالحة للزراعة لا يعني بالضرورة أنها مزروعة ويتم استثمارها، فالأمر هنا تحكمه عوامل عديدة!
فعلى سبيل المثال: بلغت مساحة الأراضي الصالحة للزراعة ضمن العام 2000 حوالي 5905 ألف هكتار، واستثمر منها ما يقارب 4546 ألف هكتار، أي حوالي 76.6%، وبلغت مساحة الأراضي الصالحة للاستثمار ضمن العام 2005 حوالي 5934 ألف هكتار، واستثمر منها 4873 ألف هكتار، أي حوالي 82.12%
في حين أنه ضمن العام 2022 بلغت مساحة الأراضي الصالحة للزراعة حوالي 6098 ألف هكتار، واستثمر منها ما لا يزيد عن 3760 ألف هكتار، ويعني ذلك انخفاض نسبة الأراضي المستثمرة ضمن هذا العام 2022 لتبلغ 61.66% تقريباً!
البيانات أعلاه يمكن تقسيمها لفترتين، فترة ما قبل العام 2005 وفترة ما بعدها، والواضح، أن نسبة استثمار الأراضي الصالحة للزراعة ارتفعت من عام 2000 وحتى العام 2005 بحوالي 4.36%، بمعدل زيادة سنوي يقدر وسطياً بـ 1.09% ضمن الفترة الأولى.
ولكن الاتجاه العام للأراضي المستثمرة ضمن الفترة الثانية (أي بعد العام 2005) يتجه نحو الانخفاض، وبمعدل وسطي سنوياً يقدر بحوالي -1.7%، حيث انخفضت المساحة المستثمرة من الأراضي بحدود 22.8% ضمن العام 2022 عمّا كانت عليه في العام 2005!
وهنا تجدر الإشارة إلى أن التراجع بالنسب أعلاه تم تسجيله قبل سني الحرب والأزمة في الفترة الثانية من عام 2005 وحتى عام 2011، وقد أتت سني الحرب لتعزز هذا التراجع سلباً!
كمية الإنتاج الزراعي تتدهور!
على اعتبار أن حجم المساحة المزروعة يعتبر من أهم المحددات التي تؤثر بحجم الإنتاج الزراعي، فإن تراجعها تلقائياً سيؤثر على كمية الإنتاج الزراعي!
الجدول التالي يوضح بيانات الإنتاج الزراعي بمجموعات المنتجات المختلفة (الخضراوات والحبوب والأشجار المثمرة – المحاصيل الصناعية – المحاصيل الرعوية):
كما هو واضح من الجدول أعلاه، فإن كميات الإنتاج انخفضت ضمن مختلف مجموعات الإنتاج وبنسب مختلفة، وبالإجمالي العام!
فعلى سبيل المثال: انخفض الإنتاج (الخضراوات- الحبوب والبقول- الأشجار المثمرة) في العام 2022 بنسبة 10.8% عن العام 2000، وبنسبة 32.5% عن العام 2005، في حين أن المحاصيل الصناعية انخفضت بحوالي 92.4% عن العام 2000، وبنسبة 95.3% عن العام 2005، أي أن مساهمة القطاع الزراعي في رفد وتأمين المواد الأولية المرتبطة بالصناعات الغذائية والتحويلية انخفضت بنسبة كبيرة!
إضافة الى ذلك، فإن المحاصيل الرعوية انخفضت هي الأخرى بنسبة 49.7% عن العام 2000 وبنسبة 55.9% عن العام 2005، هذه المحاصيل مرتبطة بشكل كبير بالإنتاج والثروة الحيوانية!
وبالتالي، فإن تراجع الإنتاج الزراعي لا يعني فقط تدهور قطاع الزراعة بشقه النباتي وحسب، وانما يؤثر ذلك بشكل سلبي على قطاع الصناعة والإنتاج الحيواني!
مصادر الري وأثرها على الإنتاج الزراعي!
بالنظر إلى التغيرات المناخية وتكرار سنوات الجفاف وارتفاع متوسط درجات الحرارة، فإن الري بعلاً مرتبط بدرجة مخاطرة كبيرة، فيما يخص تأمين الاحتياجات المائية للزرع!
على الجهة المقابلة، فإن الاعتماد على ضخ مياه الآبار من جوف الأرض إلى ظاهرها مرتبط بتكاليف مرتفعة، أهمها: الوقود والطاقة.
وتشير البيانات إلى أن مساحة الأراضي المروية بعلاً بلغت حوالي 3447 ألف هكتار ضمن العام 2005، ما نسبته 70% تقريباً من إجمالي الأراضي المستثمرة، وبلغت ضمن العام 2022 حوالي 2780 ألف هكتار تقريباً، ما نسبته 74% من إجمالي الأراضي المستثمرة.
إضافة إلى ذلك، فإن مساحة الأراضي المروية من الآبار وبأساليب الري الحديث بلغت ضمن العام 2005 حوالي 1109 ألف هكتار، إلا أنها انخفضت في العام 2022 إلى 664.5 ألف هكتار تقريباً. ما يعني: أن المساحات المزروعة بالاعتماد على مصادر الري الأكثر موثوقية فيما يخص تأمين الاحتياجات المائية للمحاصيل انخفضت بنسبة 40.1% تقريباً!
فرص استخدام الأسمدة تنعدم!
تشير البيانات الرسمية إلى أن كمية الأسمدة المستخدمة في الإنتاج الزراعي بمختلف أنواعها (فوسفاتية – بوتاسية – آزوتية)، الموزعة من قبل المصرف الزراعي التعاوني، آخذة بالأفول والانحسار بشكل كارثي، خاصة بعد العام 2005!
فعلى سبيل المثال: بلغت كمية الأسمدة المستخدمة في الزراعة ضمن العام 2000 حوالي 806,962 طن، وارتفعت بعد خمس سنوات بنسبة 10.9% لتبلغ كمياتها حوالي 894,856 تقريباً. إلا أن هذه الكميات بدأت تتراجع بشكل مخيف ضمن السنوات اللاحقة للعام 2005، لتبلغ في العام 2022 ما لا يزيد عن 80,330 طن من الأسمدة الموزعة من قبل المصرف الزراعي التعاوني، وبنسبة انخفاض تبلغ حوالي 90.1%!
طبعاً، هذا نتيجة تخفيض الدعم وانحسار دور الدولة، المترافق مع فسح المجال للمتاجرة والمرابحة عبر القطاع الخاص، لتأمين جزء من احتياجات الأسمدة للزراعة، والتي تراجعت كميات استخداماتها دون حدود الكفاية بسبب سعرها المرتفع!
إن تراجع وتدهور كميات الإنتاج الزراعي بنسب تقترب من 50% بين العامين 2005 و2022 لا يرتبط فقط بتراجع المساحات المزروعة، وإنما تفسره أيضاً وبشكل كبير التغيرات الكارثية التي تخص الري وكميات الأسمدة المستخدمة!
ويمكن قياس هذا الأمر بحساب الجدوى الإنتاجية للهكتار الواحد (غلة الهكتار) أيضاً، والتي بلغت ضمن العام 2005 حوالي 3.21 طن للهكتار الواحد (من مختلف المنتجات الزراعية)، لتصل إلى 2.22 طن للهكتار الواحد (من مختلف المنتجات الزراعية) ضمن العام 2022، أي أن معدل إنتاجية الأرض انخفض بحدود 30.8% تقريباً!
حجم العاملين في الزراعة انخفض 53%!!
بالاستناد إلى البيانات الرسمية فيما يخص أعداد العاملين في الزراعة، نستنتج أن القدرة الاستيعابية لقطاع الزراعة من القوى العاملة انخفضت بشكل كبير خلال السنوات السابقة، حيث بلغ عدد العاملين في هذا القطاع ضمن العام 2000 حوالي 1,429,760 عامل، وهذا ما يشكل تقريباً 32% من إجمالي القوى العاملة، ولكن انخفض عدد العاملين في القطاع بنسبة 53% تقريباً ضمن العام 2022، حيث بلغ عدد العاملين بالزراعة في هذا عام حوالي 671,612 عامل، ما يشكل حوالي 14.7% من إجمالي القوى العاملة للعام نفسه!
تراجع مساهمة الزراعة بالناتج المحلي الإجمالي!
يعتبر الناتج المحلي الإجمالي للزراعة المؤشر النهائي الذي يوضح أثر السياسات المتبعة مع بقية العوامل المؤثرة فيه، وخاصة الطبيعية!
ويوضح الجدول التالي حجم الناتج المحلي للزراعة بالأسعار الثابتة (سنة الأساس 2000)، وبالأسعار الجارية، إضافة إلى نسبة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي:
من الواضح، أن الفروقات الجوهرية بين البيانات بالأسعار الثابتة، والبيانات بالأسعار الجارية، تلخص نتاج كل السياسات المطبقة عموماً، وبما يتعلق بالزراعة خصوصاً!
فالناتج المحلي الإسمي (بالأسعار الجارية) يزداد ويتضاعف ضمن هذه السنوات، فعلى سبيل المثال: تضاعف بين عامين 2000 و2022 حوالي 169.5 مرة! إلا أن القيمة التي تقترب من كونها قيمة حقيقية (بالأسعار الثابتة) توضح أن الناتج المحلي للزراعة انخفض بحدود 60.12% بين عامي 2000 و2022، وانخفض بحدود 66.5% بين عامي 2005 و2022، وهذا بالاعتماد على البيانات الرسمية، بعيداً عن متغيرات سعر الصرف ومعدلات التضخم!
في حين أن نسبة مساهمة الناتج المحلي للزراعة بالناتج المحلي الإجمالي ضمن العام 2000 بلغت حوالي 24.73% وانخفضت ضمن العام 2005 إلى 22.95% وضمن العام 2010 انخفضت أيضاً لتبلغ تقريباً 16.08%، لتستمر بالانخفاض وصولاً إلى العام 2022 حيث بلغت ما لا يزيد عن 12.8% فقط!
ما سبق أعلاه غيض من فيض النتائج الكارثية للسياسات المتبعة رسمياً تجاه قطاع الإنتاج الزراعي، بالرغم من كل التباهي الرسمي بالخطط السنوية، والحديث الخلبي عن استمرار دعم القطاع!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1191