محصول القطن بين الإنتاج والاحتياج!
سلسلة القرارات والتوصيات الحكومية فيما يتعلق بالقطاع الزراعي ككل امتازت عبر العقود والسنوات الماضية بأنها سياسات مجحفة وظالمة، زادت الضغوط على الفلاح ولم تمنحه حقوقه وعمقت خسارته عاماً بعد عام، حتى باتت بعض الزراعات بالنسبة له مجرد خسائر ومضيعة للوقت والمال والجهد، فعزف العديد من الفلاحين عنها، وخاصةً المحاصيل الاستراتيجية (القطن- الشوندر- القمح)!
وحديثنا الآن عن محصول القطن الذي يسجل المزيد من التراجع عاماً بعد آخر، بالرغم من كل الحديث الرسمي عن التشجيع للفلاحين والتقليل من الصعوبات بالنسبة إليهم!
حديث رسمي متفائل!
في حديث مثير للتفاؤل للمدير العام للمؤسسة العامة لحلج وتسويق الأقطان عبر صحيفة الوطن بتاريخ 20/8/2024 أنه «وفق تقديرات وزارة الزراعة تصل الكمية المتوقع استلامها خلال الموسم القادم 2024-2025 إلى نحو 25500 طن تقريباً، أي بزيادة 10 آلاف طن تقريباً عن الموسم السابق».
وعن الموسم الحالي قال: «المؤسسة اتخذت كل الإجراءات اللازمة لتسويق محصول القطن المحبوب لموسم 2023-2024، موضحاً أن كمية الأقطان المحبوبة المستلمة من الفلاحين خلال الموسم بلغت (15890) طناً»!
فهل التفاؤل الرسمي أعلاه في مكانه؟!
الإنتاج يغطي نسبة 6,4٪ من الاحتياج!
بالمقابل وحول احتياج سورية من القطن قال المدير العام للمؤسسة العامة لحلج وتسويق الأقطان: «الاحتياج نحو 250 ألف طن من الأقطان المحبوبة، تنتج ما كميته (88) ألف طن من القطن المحلوج تلبي منها احتياجات السوق من الأقطان المحلوجة والغزول والأقمشة المنسوجة، إضافة إلى الوصول إلى التشغيل الاقتصادي لكل خطوط الإنتاج العاملة، التي سوف تتم إعادة تأهيلها بموجب إحداث الشركة العامة للصناعات النسيجية».
من الواضح أن الحديث المثير للتفاؤل عن الزيادة الإنتاجية للقطن في الموسم القادم تبقي فجوة كبيرة بالمقارنة مع الاحتياج!
فالمؤسسة وبعد كل استعداداتها لاستلام محصول القطن لهذا العام استطاعت تأمين ما يقارب 16 ألف طن فقط، والذي يشكل نسبة 6,4٪ من إجمالي الحاجة!
فأين الحكومة وسياساتها الزراعية من هذه الفجوة لتردمها؟!
الموازنة المائية عائق إضافي!
بحسب صفحة الاعلام الزراعي بتاريخ 19/8/2024 بين مدير الإنتاج النباتي في وزارة الزراعة المهندس أحمد حيدر أن التخطيط لمحصول القطن يتم بالتنسيق مع وزارة الصناعة لتلبية حاجة مؤسسات القطاع العام للصناعات النسيجية، وذلك بناء على الموارد المائية المتاحة في الموازنة المائية المقرة من قبل وزارة الموارد المائية على مصادر المياه مثل الينابيع والأنهار ومشاريع الري الحكومية، حيث تمنع زراعته على الآبار.
وأوضح حيدر أنه تم التخطيط لهذا الموسم لزراعة 14019 هكتاراً في المناطق الآمنة، حيث زرع منها فقط 8670 هكتاراً من قبل الفلاحين على الرغم من السعر المجزي الذي تم اعتماده بهامش ربح كبير من قبل الحكومة في الموسم السابق والذي بلغ 10000 ليرة للكغ بهدف تشجيع الفلاحين على زراعة المساحات المخططة.
الحديث الرسمي أعلاه يعني أن زيادة المساحات المزروعة بالقطن رهن بالموازنة المائية التي تحددها وزارة الموارد المائية، وبالتالي فإن زيادة الإنتاجية مقوضة ومسقوفة سلفاً وفقاً لهذا السياق، وهو ما أكده مدير الإنتاج النباتي بإشارته إلى وجود عوامل عديدة تحول دون الوصول إلى إنتاج كامل الاحتياج من محصول القطن أهمها وجود أغلب المساحات المنتجة للقطن في المناطق غير الآمنة حيث تشكل المساحات المخططة في المناطق الآمنة 28% فقط من إجمالي المساحة المخططة الكلية، إضافة إلى عدم إمكانية التوسع بالمساحات المزروعة بالقطن في المناطق الآمنة بسبب محدودية الموارد المائية اللازمة لزراعته وفق الموازنة المائية المعتمدة.
أما عن السعر المجزي الذي تحدث عنه فقد أثبت عدم فاعليته بدليل الفارق بين المخطط والمنفذ على مستوى المساحات المزروعة بالقطن، وبنسبة 62% منها فقط!
على ذلك يتبين أن التفاؤل بزيادة محصول القطن خلال المواسم القادمة في غير مكانه، سواء بسبب الموازنة المائية المحدودة والمسقوفة، أو بسبب التسعير غير المجزي للفلاح، مع إضافة الكثير من العوامل الأخرى النابذة لزراعة القطن!
أضرار وتداعيات!
التداعيات السلبية للتعامل الرسمي مع محصول القطن لا تقف عند خسائر الفلاح الذي يمتنع عن الزراعة ويستبدلها بأخرى ذات جدوى اقتصادية أفضل بالنسبة إليه، بل باستمرار تراجع إنتاج هذا المحصول وبتأثيره المباشر على القطاع الصناعي الذي يعتمد عليه كمادة أولية، وهذا الأمر لا يقتصر على منشآت القطاع العام التابعة للشركة العامة للصناعات النسيجية فقط، بل على الكثير من المنشآت والمعامل التابعة للقطاع الخاص، مع ملحقاتها من الورش الكبيرة والمتوسطة والصغيرة أيضاً!
والحديث هنا أيضاً لا يقف عند حدود التوقف الجزئي أو الكلي لبعض المنشآت العاملة في القطاع النسيجي بسبب قلة وتراجع إنتاج القطن، بل وأيضاً بآلاف العاملين في هذا القطاع الذين يتأثرون بشكل مباشر بتراجع العملية الإنتاجية في منشآتهم وورشهم، بالإضافة إلى الأيدي العاملة الإضافية في سلاسل التوريد والتسويق، وصولاً إلى الأسواق والسلع والبضائع المعدة للاستهلاك النهائي من قبل المواطنين!
الحل السحري بزيادة فاتورة الاستيراد!
تراجع إنتاج القطن عاماً بعد آخر فسح المجال لاستيراد القطن المحلوج بذريعة تأمينه لمنشآت القطاع النسيجي، كحل سحري بسيط وسريع، وقد سبق للجنة الاقتصادية أن وافقت على ذلك لردم الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاحتياج!
وقد صرح المدير العام للمؤسسة العامة لحلج وتسويق الأقطان لصحيفة الوطن بتاريخ 20/8/2024 بما يلي: «السماح باستيراد الأقطان المحلوجة يحتاج إلى توصية من اللجنة الاقتصادية وضمن فترة زمنية محددة بما ينسجم مع الشروط الموضوعة من وزارة الزراعة»!
ومن المفروغ منه أن عمليات الاستيراد سينتفع منها القلة من المستوردين لتحقيق أرباح سهلة وسريعة، وهؤلاء من كل بد ليس من مصلحتهم استعادة إنتاج القطن على ما كان عليه، بل من مصلحتهم استمرار التراجع بهذا المحصول وصولاً إلى وأده بشكل نهائي، ولو كان ذلك على حساب زيادة فاتورة الاستيراد عاماً بعد آخر!
لكن الأمر بهذا الصدد لن يقف عند موافقة اللجنة الاقتصادية على فسح المجال للاستيراد، ولا عند الأرباح التي سيجنيها المستوردون، بل الأهم في زيادة كلف الإنتاج على المنشآت الصناعية، مع ما يعنيه ذلك من زيادة على أسعار المنتجات والبضائع والسلع المنتجة، وما يتبع ذلك من تراجع في معدلات استهلاكها محلياً، وعدم التنافسية في أسواق التصدير وصولاً إلى خسارتها، وهو ما يؤدي أيضاً إلى تسجيل المزيد من التراجع في الإنتاج وصولاً إلى الإغلاق الجزئي أو الكلي، في حلقة مفرغة تسير من التراجع إلى المزيد منه على المستويات كافة!
ومن المفروغ منه أن الاستمرار بالآلية والمنهج ذاتيهما سيحولنا إلى بلد مستعبد من قبل قلة من كبار المستوردين والناهبين والنافذين الفاسدين، وسيؤدي بنهاية المطاف إلى إنهاء الإنتاج وتدمير الصناعة المحلية، على حساب المنتجين والمستهلكين والاقتصاد الوطني ككل!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1189