جيشنا الأبيض إلى زوال... التمريض قطاعٌ مُنهكٌ إضافي بمنهجيةٍ حكومية متعمدة!
سارة حبيب سارة حبيب

جيشنا الأبيض إلى زوال... التمريض قطاعٌ مُنهكٌ إضافي بمنهجيةٍ حكومية متعمدة!

انهيارٌ عام، ربما يكون هذا التعبير أصدق وصفٍ للمرحلة الحالية التي تمر بها البلد، ودون مبالغة نستطيع الجزم أننا على مشارف كارثةٍ صحية قُرعت لها الطبول منذ أكثر من سنوات ودون أدنى فائدة!

فالجهات الحكومية المعنية غير مكترثةٍ بهول ما نحن عليه اليوم وما سيؤول إليه الوضع مستقبلاً، وماضيةٌ بسياساتها التطفيشية المفقرة تحت شعار ليذهب من يذهب!
قطاعٌ حيويٌ جديد على مشارف التهلُكة يتأرجح من بقي فيه على شفير الموت تعباً أو جوعاً دون أدنى حسٍ بالرحمة أو الإنسانية، قبل أن نقول حسّ بالمسؤولية!
قطاع التمريض الهام الذي يعد بمثابة العمود الفقري للقطاع الصحي بات الآن منهكاً، وذليلاً ومن منسيات الحكومة، حاله حال العديد من القطاعات الهامة!
فهل تتعمد الحكومة هذا الإهمال؟ ولماذا؟
وهل تنوي أن تحذو حذو بعض الدول باستيراد الممرضين من الفليبين مثلاً...؟!

ملائكة الرحمة تحت وطأة اللا رحمة!

لطالما ترافقت مهنة التمريض عبر العصور بالكثير من وصوف الإنسانية والرحمة، فمن ملائكة الرحمة إلى حمائم السلام وغيرها، دون تسليط الضوء على واقع هذه المهنة المتعب والخطير بآن معاً!
فالعاملون بهذا القطاع هم الساعد الأيمن للأطباء، سواء في المستشفيات أو المراكز الصحية، ونستطيع القول بأنهم عصب القطاع الصحي دون مبالغة، مما يفرض عليهم واقع عملٍ مجهد، من العمليات إلى متابعة المرضى والتحاليل والضمادات والأدوية والمراقبة، ونظام مناوبات قاسٍ!
فلا أعياد ولا عطلاً رسمية، والكثير الكثير من الجهد المضني والشاق، إضافة إلى أنهم الفئة الأكثر عرضة للأخطار المهنية، على اعتبار أنهم الأكثر احتكاكاً بالمرضى وفي مواجهة مباشرة ومتواصلة ودائمة مع الأمراض المعدية والفتاكة!
وبالتأكيد أمام هذا الكم الهائل من العمل الملقى على عاتقهم، لا بد من إنصافهم بأبسط حقوقهم، التي وللأسف باتت من منسيات الجهات المعنية، التي تعتبر مهنة التمريض خارج سلم أولوياتها!
فلا يوجد توصيف وظيفي لمهنة التمريض، ولم يتم تشميلهم بالوجبة الغذائية الوقائية، رغم قيامهم بأعمال مجهدة، ولا حوافز، بالإضافة إلى طبيعة عمل خجولة لا تتعدى نسبة 4%، في حين أن فئات أخرى من العاملين في قطاع الصحة، كالأطباء وفنيي الأشعة والتخدير والصيادلة تصل طبيعة عملهم إلى 100% شهرياً!
إضافة إلى رواتبهم الهزيلة التي لا تسد الرمق، حالها كحال كل رواتب القطاع العام التي لا تغطي حاجة المواطن من طعامٍ وشراب وسكن!
كذلك عدم وجود تمثيلٍ نقابي فاعل على الأرض، فوزارة الصحة لم تقم حتى اليوم بتفعيل نقابة التمريض، وفق ما نص عليه المرسوم رقم 38 لعام 2012، ولم يتم إقرار نظامها الداخلي والمالي، ولا حتى انتخاب نقيب للتمريض، ولا استحداث صندوق تقاعد للممرضين!
إضافة إلى كل البؤس أعلاه تأتي القرارات الحكومية الفذة لتزيد من معاناة هذه الفئة المنهكة والمستعبدة، وخير مثالٍ على ذلك قرار وزارة التعليم العالي برفع الغرامة المفروضة على الممرضة الخريجة في حال عدم التحاقها بالعمل في المستشفيات العامة، إلى 7 ملايين ليرة، مع ملاحقة قضائية، كذلك شروط قبول الاستقالة أو النقل للمحافظة الأم!
إلى جانب ذلك تمّ إيقاف قانون الأعمال المجهدة رقم ٣٤٦ لعام ٢٠٠٦ أي اعتبار السنة بالخدمة بسنة ونصف!
أمام هذا الواقع الشنيع والحالك، وفي ضوء السياسات الحكومية التطفيشية والمورثة للموبقات، ومع غيابٍ كامل لأبسط الحقوق آلا وهو التقدير بالحد الأدنى، بات الممرض يعيش أياماً سوداء مسدودة الأفق، يحاول جاهداً الهروب من واقعه القاتم الذي فرضته الحكومة، فأي جهدٍ يبذله لا يسدّ الرمق!

قطاعٌ صحي بلا ممرضين!

نتيجة الواقع السيء الذي يعاني منه الممرضون، والذي دفعهم نحو التوجه باتجاه القطاع الخاص بدايةً، وحتى الاستقالة والهجرة خارج البلد بحثاً عن فرصة عمل أفضل، الأمر الذي انعكس سلباً على القطاع الصحي، حيث شهدت السنوات الأخيرة هجرة واستقالة ما لا يقل عن 35 ألف ممرض وممرضة من أصحاب الكفاءات، حسب التصريحات الرسمية، الذي كان آخرها حديث رئيس مكتب نقابة عمال الصحة باتحاد عمال دمشق سامي حامد لصحيفة «الثورة» بتاريخ 26/7/2024، حيث قال :«إن عدد العمال المسجلين في سجلات النقابة تراجع كثيراً خلال الأعوام القليلة الماضية من 26 ألف منتسب من ممرضين وفنيين وإداريين وغيرهم من العاملين بالقطاع الصحي، إلى حوالي 10 آلاف منتسب إلى النقابة، وذلك إما بسبب الاستقالات أو ترك العمل أو الوصول إلى سن التقاعد، دون أن يتم تعيين كوادر جديدة بديلة عن تلك التي تركت العمل، الأمر الذي أدى إلى زيادة حجم الأعباء الملقاة على الكوادر التي لا تزال على رأس عملها، وبات على الممرض مثلاً أن يتابع 20 مريضاً في وقت واحد، وهذا فوق طاقته وقدرته التي يجب ألا تتعدى 7 مرضى بالأحوال العادية.»
علماً أنه وفق المقاييس العالمية يجب آلا تتجاوز مسؤولية الممرض خمسة مرضى، وعلى الرغم من ذلك فإن النسبة المحلية أعلاه 7 مرضى، نحن بعيدين عنها حتى قبل سني الأزمة!
والجدول أدناه يبين نسبة عدد الممرضين لعدد المشافي العامة والخاصة والمراكز الصحية بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء:

1188a

نلاحظ أن عدد الممرضين انخفض منذ عام 2010 وحتى عام 2022 بنسبة 16,4٪ في حين ازداد عدد المشافي بنسبة 3٪ والمراكز الصحية بنسبة 22,6٪.

أرقامٌ كارثية تفضي إلى مقاييس غير طبيعية ولا منطقية!

وفق البيانات الرسمية أعلاه وصلنا إلى عام 2022 بأحد عشر ممرضاً للمنشأة الصحية وسطياً!
فهل يعقل أن يضم مشفى، بورديات عملها المستمرة 24/24، وبأقسامه واختصاصاته المختلفة، 11 ممرضاً فقط!
كل هذه الكوارث والحكومة ماضية بسياساتها التطفيشية دون رادع ولا مانع، هذه السياسات التي انعكست بكم الاستقالات الكبير والتسرب الواضح الذي عانى ويعاني منه هذا القطاع، والذي يؤدي إلى الكثير من التداعيات السلبية، بدءاً بانخفاض العناية التمريضية بسبب ضغط العمل الناتج عن نقص اليد العاملة، مروراً بالخطر على حياة المرضى وانخفاض حالات الإنقاذ، وبالتالي ازدياد معدل الوفيات، وانتهاءً بزيادة تردي وتراجع الخدمات الصحية، والقطاع الصحي عموماً!
في السياق ذاته نستذكر مطالب الأطباء والمختصين من الجهات المعنية بإيجاد حل جذري لمعالجة التسرب الكبير والنقص الشديد الحاصل في قطاع التمريض.
ففي حديث لصحيفة «الوطن» بتاريخ 28/3/2024 أكد المدير العام لمشفى الجلدية بجامعة دمشق علي عمار: «أن تأمين احتياجات المشافي من الممرضات بالشكل المطلوب سنوياً يخفف الضغط أيضاً على الموجودين في المشافي، في ظل الضغط الكبير الحاصل، مؤكداً أنه تم في العام الماضي رفد مشفى الجلدية بـ4 ممرضات فقط، لم يلتحق منهن سوى ممرضة واحدة لأسباب باتت معروفة.»!
كذلك صرح مدير مشفى صلخد لـصحيفة «الوطن» بتاريخ 31/3/2024: «دمجنا أقسام الجراحة لنقص الكادر الطبي والتمريضي ولتخفيف الأعباء»!

نقصٌ في الكوادر وسوء إدارةٍ وتخطيط!

لا تكمن مشكلة هذا القطاع المنكوب بالنزيف الدائم ونقص الأعداد الكبير، بل أيضاً بسوء توزيع الكوادر الموجودة بسبب سوء التخطيط الحكومي ضمن سياسات التطفيش المتعمدة، وهذا مايوضحه الجدول أدناه الذي يبين وسطي الممرضين إلى عدد المشافي والمراكز الصحية في كل منطقة في عام 2022 بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء:

1188b

بدايةً نلاحظ التباين الشديد بين المناطق، ففي حين بلغ عدد الممرضين إلى عدد المشافي والمراكز الصحية في المنطقة الشمالية 7 ممرضين فقط، فقد بلغ في المنطقة الساحلية 17 ممرضاً، كما ونلاحظ تبايناً أشد في المنطقة نفسها، ففي المنطقة الساحلية على سبيل المثال نجد بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء أن وسطي عدد الممرضين في محافظة طرطوس هو 8 في حين بلغ في جارتها اللاذقية 28 ممرضاً!

ضعف استقطاب أم سياسة تطفيش ممنهجة؟!

رغم أعداد المقبولين الكبيرة في مختلف معاهد ومدارس وكليات التمريض، وأعداد الخريجين المتزايدة، إلا أن الأعداد التي تتخرج وتعمل في المشافي سواء العامة أم الخاصة تبقى خجولة، وذلك نتيجة ظروف العمل السيئة، فساعات العمل طويلة ونظام المناوبات لا يتوافق مع الأجور، فنجد الطالب وقد تخرج وهو مؤهل أكاديمياً وذو كفاءة، ومتقن للعمل، إلا أنه يفضل السفر والهجرة على العمل في إحدى المشافي العامة أو الخاصة أو المراكز الصحية، والجدول أدناه يبين ذلك:

1188c

هذا يدفعنا نحو تساؤل محق أين هؤلاء الخريجون المتزايدون عاماً بعد آخر، مقابل التراجع بأعداد القائمين على رأس عملهم؟
ولماذا تقف الحكومة كما الأصنام دون أي محاولة لاستقطاب جيل الشباب المؤهل هذا؟ بل على العكس هي من تدفعهم نحو السفر والهجرة!
ونختم مع حديث نقيبة التمريض والمهن الطبية والصحية يسرى ماليل لـموقع «أثر برس» في شهر آذار من العام الحالي: «إن هناك نقصاً كبيراً في الملاكات الموجودة في المشافي وتسرب عدد كبير من الكادر التمريضي والمهن الصحية من المشافي الحكومية.... إن تسرب الكادر التمريضي سببه قلة الدخل من جهة، وتالياً لا توجد حماية للممرض.... لدينا 12 مدرسة تمريض وخمس كليات تمريض ويتخرج كل عام ما يقارب 1000 ممرض وممرضة باختصاصات مختلفة للتمريض والقبالة؛ إضافة إلى خريجي الجامعات من كليات التمريض الذين لا يوجد لهم أي ملاك لتعيينهم في المشافي؛ لذلك فإن من أهم مطالبنا توسيع الملاكات واستيعاب خريجي الجامعات من كليات التمريض، فالسبب الأول لنقص الممرضين في المشافي هو عدم الإعلان عن مسابقات بتعيينهم علماً بأنه منذ أكثر من عشر سنوات لم يعلن عن مسابقة لتعيينهم.»

معلومات إضافية

العدد رقم:
1188