الخطف من أجل الفدية ظاهرة سلبية متفاقمة تحتاج الحل الجذري!
ضجت وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الماضي، وما زالت، بالأخبار المتداولة عن اختطاف الشابة كريستينا إبراهيم الحسن، والشاب محمد أحمد الفضلي، وعمّا تعرضوا له من تعذيب موثق بالصور على أيدي الخاطفين المجرمين، والتي تم إرسالها إلى ذويهم من أجل الضغط عليهم لدفع الفدية المطلوبة لتحرير كل منهم، حيث طُلب من ذويهم مبالغ مرقومة بعشرات آلاف الدولارات فديةً!
وقد نقل عن والد المختطفة كريستينا، بحسب شام إف إم بتاريخ 27/7/2024، قوله: «كريسيتنا اختطفت أثناء عودتها من طرطوس إلى قرية بيت المرج في صافيتا، وفُقد الاتصال معها، وتواصل معنا الخاطفون بعد ساعات من ذلك، وأخبرونا أنهم يريدون مبلغ 60 ألف دولار مقابل عودتها... أرسل الخاطفون لنا العديد من الصور ومقاطع الفيديو وهي موثقة الأيدي، وتتعرض للتعذيب، وأخبرنا الجهات الأمنية في اليوم ذاته، وعمليات البحث ما زالت مستمرة، وحتى الآن لم نحصل على أي معلومة».
حادثتا الخطف أعلاه أعادت التذكير بحوادث شبيهة كثيرة أخرى ماثلة في الأذهان، عن مختطفين ومفقودين ومختفين، ما زال ذووهم بانتظارهم رغم مرور السنين على غيابهم!
ليست الأولى ولا الأخيرة!
حادثتا الخطف أعلاه لم تكن الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة على ما يبدو!
فقد سبق أن تم تسجيل الكثير من عمليات الخطف من أجل الفدية، أو لغايات وأهداف أخرى خلال السنوات الماضية، بعضها سلطت عليها الأضواء الإعلامية، والكثير غيرها كانت غائبة أو مغيبة وبعيدة عن الأضواء، وغالبيتها كانت تنتهي بتحرير المختطف بعد دفع الفدية المطلوبة من ذويه، وبعضها كانت تنتهي بمأساة فقدان الاتصال مع المختطفين والمختطف، أو بقتل المختطف فعلاً، والقليل جداً كانت تتم عملية تحرير هؤلاء من خلال التفاوض، أو من خلال بعض الإجراءات الأمنية، وأحياناً تكون ذات طابع عسكري يتم خلالها تبادل لإطلاق النار!
ظاهرة مستفحلة ولم تنكفئ!
استفحلت ظاهرة الخطف خلال سنوات الحرب والأزمة وتفاقمت واتسعت رقعتها، بما في ذلك عمليات الخطف المتبادل لغايات وأهداف عسكرية وأمنية في حينه، مع عدم تغييب الاستثمار السياسي بهذا الملف من قبل القوى المتصارعة ورعاتهم، ومن قبل الأطراف الدولية المختلفة تحت عناوين الإنسانية، بما في ذلك بعض المنظمات الدولية المعنية بالشؤون الإنسانية أحياناً، بالإضافة إلى الجانب المالي والنفعي في كثير من الأحيان، مما ساهم وعزز من توسع انتشار الظاهرة، مع كل تداعياتها ونتائجها الكارثية!
فعلى كل خطوط التماس بين القوى المتصارعة على الأرض، بغض النظر عن أسمائها وتبعيتها وغطائها، كانت تجري عمليات الخطف المتبادل، سواء لعناصر هذه القوى المتصارعة فيما بينها، أو للمواطنين فيما بين خطوط التماس خلال تنقلهم عبرها، كضحايا وقرابين على مذبح الصراع!
ومع تكاثر هذه الخطوط وتعدد القوى المتصارعة تكاثرت عمليات الخطف، وتكاثر معها أعداد المفقودين والمغيبين، لدرجة عدم إمكانية معرفة الجهات الخاطفة في كثير من الأحيان، وصولاً إلى الاستثمار السياسي المستمر في ملف المفقودين، المفتوح حتى تاريخه كجرح نازف لم ولن يندمل بسهولة!
وبعد تراجع العمليات العسكرية انكفأت وتراجعت نسبياً عمليات الخطف لغايات عسكرية وأمنية، حيث أصبحت محصورة على بعض الأماكن وعلى بعض خطوط التماس برغم الهدوء النسبي فيها، مثل المنطقة الجنوبية والشمالية والشمالية الغربية، لتحل مكانها عمليات الخطف من أجل الفدية، أو من أجل الإتجار بالبشر أو بالأعضاء البشرية، التي لم تتراجع ولم تنكفئ، بل ازدادت واتسعت بكل أسف!
مناطق سيطرة الدولة خارج السيطرة!
اللافت أن عمليات الخطف من أجل الفدية تزايدت في مناطق سيطرة الدولة ولم تنكفئ، وخاصة المنطقة الوسطى (حمص وحماة)، وفي المناطق الحدودية مع لبنان، وخاصة في مناطق طرطوس الحدودية!
فالكثير من عمليات الخطف من أجل الفدية كانت هذه المناطق مسرحاً عملياتياً لها، وخاصة المناطق الحدودية مع لبنان، والحادثتان أعلاه غيض من فيض كأمثلة عنها!
ولم لا؟ فعصابات الخطف وشبكاتها العاملة تسرح وتمرح وترتكب فظائعها بكل أريحية في هذه المناطق، تخطيطاً وتنفيذاً، مع كل مستلزمات عمليات الخطف التي تقوم بها، اعتباراً من توفر الأسلحة ووسائط النقل لديها، مروراً بتوفر أماكن الاحتجاز وعناصر حراستها، وليس انتهاء بانتقاء المستهدفين، وغالباً ما يكون هؤلاء من المواطنين العاديين، بل والمفقرين ممن تقطعت بهم السبل داخلاً، والباحثين عن فرصة للهرب خارج البلاد بحثاً عن حياة أفضل!
فالخاطفون يطمعون بالحصول على ما يحمله هؤلاء بداية من مبالغ مالية (دولارية غالباً) تعينهم خلال فترة ترحالهم، بالإضافة إلى الضغوط على ذويهم لتحصيل مبالغ دولارية إضافية كبيرة، فديةً من أجل تحريرهم!
حادثة خطف وتحرير مستجدة كاستثناء يثبت القاعدة!
في حادثة خطف جرت في الآونة الأخيرة «تمكّن فرع الأمن الجنائي في ريف دمشق من تحرير مخـطوف من إحدى المناطق الحدودية بعد الاشتباك بالسـلاح مع الخـاطفين»، وذلك بتاريخ 27/7/2024 بحسب وزارة الداخلية.
وبحسب صفحة وزارة الداخلية فقد ادعى أحد المواطنين إلى فرع الأمن الجنائي في ريف دمشق بتعرض والده للخطف أثناء زيارته إلى إحدى مناطق ريف دمشق الحدودية بقصد السياحة، وقيام الخـاطفين بالتواصل معه عبر برنامج (الواتس آب) وطلب فدية مالية وقدرها 70 ألف دولار أمريكي، وتهـديده بقـتل والده المخطوف في حال عدم دفع الفدية، وإرسال صورة لوالده وهو مكبل اليدين ومعصوب العينين للضغط عليه لدفع الفدية. ومن خلال المتابعة والتنسيق مع ابن المخـطوف قام فرع الأمن الجنائي في ريف دمشق بمداهمة أحد المخابئ في البلدة الحدودية التي يتواجد فيها الخـاطفون، حيث حصل تبادل إطـلاق نـار ولاذ الخاطفون بالفرار بعد رمي ثلاثة قنابل باتجاه الدوريات، وتم تحرير المخطوف ولم يتعرض أحد عناصر الدوريات لأي ضرر. تم تسليم المخطوف إلى ذويه أصولاً، وما زالت الأبحاث مستمرة عن الخـاطفين حتى إلقاء القبض عليهم واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم.
حادثة الخطف أعلاه، بنهايتها التي أسفرت عن تحرير المختطف بعد التدخل الأمني، يمكن اعتبارها الاستثناء الذي يثبت القاعدة التي تقول إن بعض عمليات الخطف يتم فيها تحرير المختطف من خلال التدخل الأمني مع تبادل إطلاق النار!
فماذا عن بقية عمليات الخطف الأخرى، بما في ذلك الحادثتان أعلاه!
وأين هي سيطرة الدولة في ظل استمرار عمليات الخطف من أجل الفدية وزيادتها في مناطق السيطرة المفترضة؟!
وأين هي أدوار ومهام الأجهزة الأمنية المعنية، التي لا تخفى عنها الخافية، في ظل هذا الانفلات الأمني؟!
دوافع لا يمكن إغفالها وشبكات دولية منظمة تديرها!
تفاقمت ظاهرة الخطف من أجل الفدية خلال سني الحرب والأزمة، كغيرها من الظواهر السلبية الكثيرة الأخرى، بعد أن كانت قبل ذلك حالات جرمية يغلب عليها الطابع الفردي، وغالباً كان المستهدف بها الأطفال، لكنها اتسعت خلالها لتشمل الفتية، وخاصة الفتيات، والشباب والرجال والنساء، وكذلك لم تعد محصورة من أجل طلب الفدية من ذوي المختطف، بل لتدخل ضمن إطار الإتجار بالبشر، وتجارة الأعضاء أيضاً!
ومن جملة الدوافع لدى الخاطفين يمكن اعتبار الدافع الاقتصادي هو العامل الأساس في زيادة وتوسع الظاهرة، ويضاف إليها الخلافات الشخصية والانتقام، كعوامل ودوافع لارتكاب هذه الجريمة في بعض الأحيان!
وما يعزز هذه الظاهرة السلبية اتساع ظاهرة العنف، التي تفاقمت وتعمقت أيضاً خلال سني الحرب والأزمة، بالإضافة إلى حال الفلتان الأمني وفوضى السلاح، كظواهر سلبية لا تقل سوءاً عن بقية الظواهر السلبية التي تفشت خلال السنوات الماضية!
بالمقابل تجدر الإشارة إلى أن الظاهرة، التي لم تعد مستجدة، تعمل بها وتديرها شبكات منظمة انتشرت على طول الخارطة السورية، بما في ذلك مناطق سيطرة الدولة، ويبدو أن لها ارتباطات وتشابكات إقليمية ودولية أيضاً، خاصة ما يتعلق بالإتجار بالبشر وتجارة الأعضاء، كتجارات سوداء تديرها شبكات دولية منظمة وتنتفع بها!
أسباب عميقة تعزز تفاقم كل الظواهر السلبية!
الدوافع التي تم ذكرها أعلاه لا تكفي وحدها لتبرير تعمق الظواهر السلبية في المجتمع، بما في ذلك ظاهرة الخطف من أجل الفدية، فهناك أسباب جامعة وعميقة، تكاتفت وتكاملت فيما بينها بحيث شكلت المناخ والبيئة المناسبة لتفاقم كل الظواهر السلبية، وبحيث ساهمت في تعمقها واتساع رقعتها أيضاً، مع خلق ظواهر سلبية مستجدة لم تكن موجودة سابقاً، كظاهرة الخطف من أجل الفدية أو من أجل تجارة الأعضاء والإتجار بالبشر!
ويمكن تلخيص الأسباب بالتالي:
المفرزات والتداعيات الكارثية للحرب والأزمة، بما في ذلك الحصار والعقوبات!
أسباب عامة (اقتصادية اجتماعية سياسية ثقافية علمية...) كرستها جملة السياسات الرسمية الظالمة!
أسباب فردية خاصة (خلافات شخصية وعوامل انتقام وعوامل نفسية...)، كرستها وفاقمتها سنوات الحرب والأزمة وتداعياتها!
حال الانفلات الأمني وفوضى السلاح، الناجمة أساساً عن التراخي واللا مبالاة الرسمية تجاهها!
زيادة معدلات البطالة وتعميم الفقر والجوع بسبب جملة السياسات الاقتصادية المطبقة!
تعميق الفرز الطبقي وغياب تكافؤ الفرص وانعدام العدالة والمساواة، بسبب السياسات المتبعة، وتغول المحسوبية والوساطة والولاءات!
تراجع دور الدولة وضعف مؤسساتها، بما في ذلك المؤسسات الأمنية، مقابل تغول قوى السوق والسوء، التي ابتلعت جزءاً هاماً من مهام وأدوار الدولة تباعاً خلال العقود والسنوات الماضية، وما زالت مستمرة بابتلاع المزيد منها حتى تاريخه!
انتشار وتفشي ظاهرة الفساد، وصولاً إلى الاستخفاف بالعقوبات المنصوص عليها قانوناً، والتي بات من السهل التملص منها عبر قنوات الفساد وشبكاته!
ولا يغيب عن الذهن طبعاً استمرار تقسيم الجغرافيا السورية بكل أسف، مع تناغم مصالح قوى السيطرة والنفوذ، التي تتقاسم المغانم كما تقاسمت الجغرافيا!
تمادٍ بالإجرام لترهيب المجتمع!
الخاطفون في مناطق سيطرة الدولة تمادوا بالإجرام، حيث إنهم لم يكتفوا بتعذيب المختطفين وتصويرهم وإرسال الصور لذويهم كعامل ضغط نفسي من أجل الإسراع بدفع الفدية المطلوبة، بل مع تهديدات بقتل المختطفين والإتجار بأعضائهم أيضاً!
فعمليات الخطف مع صور العنف والتعذيب التي يتم توثيقها وتداولها، ومع التهديدات بقتل المختطف والإتجار بأعضائه، تجاوزت غايات إرهاب الضحية وذويها من أجل الحصول على الفدية المطلوبة، إلى إرهاب المجتمع ككل، ربما بغاية تكريس حال الخوف والذعر والقلق من انعدام الأمان!
فهل ذلك من غايات وأهداف الخاطفين أنفسهم، أم هي غايات وأهداف من يؤمنون لهم غطاء الحماية واللوجستيات اللازمة، والمستفيدين عملياً من كل الظواهر السلبية التي تفشت وانتشرت واتسعت وتعمقت، عبر تجيير مكتسباتها لمصلحتهم؟!
فقوى النهب والفساد والنفوذ في البلاد هي المتحكمة بكل شاردة وواردة فيها ومستفيدة منها، بما في ذلك استفادتها من الظواهر السلبية وشبكاتها العاملة بإدارتها، بشكل مباشر أو غير مباشر!
لا خلاص إلا بالحل السياسي والتغيير الشامل!
كل ما سبق يعيدنا إلى الحديث عن الحل السياسي، وتأكيد الإصرار عليه، عبر تنفيذ القرار الدولي 2254 كلاً وتفصيلاً، كبوابة وحيدة متاحة للبدء بالتغيير الجذري والشامل المطلوب، ليس من أجل استعادة وحدة البلاد وضمان سيادتها فقط، بل من أجل ضمان تقرير مصير السوريين بأيديهم ولمصلحتهم، وضمناً إمكانية الخلاص من كل الموبقات والكوارث التي تراكمت خلال سني الحرب والأزمة وما قبلها، وكذلك الخلاص من قوى السوق والسوء والنهب والفساد المستفيدة منها، بما في ذلك إمكانية معالجة كل الظواهر السلبية التي تفاقمت وتعمقت خلالها، عبر تجفيف مسبباتها ودوافعها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1185