جهات تسعيرية رسمية عديدة ساهمت بفوضى الأسعار وسياسات تسعير مُجيّرة لمصلحة كبار أصحاب الأرباح!

جهات تسعيرية رسمية عديدة ساهمت بفوضى الأسعار وسياسات تسعير مُجيّرة لمصلحة كبار أصحاب الأرباح!

السياسات السعرية والأسعار هي إحدى أدوات التحكم المركزية على المستوى الاقتصادي، والتي من المفترض أن يتم استخدامها من أجل إشباع الحاجات المتنامية للمواطنين، لا الأساسية فقط، بل ارتباطاً بأجورهم والقدرة الشرائية لها في السوق!

فإذا كان الاقتصاد المحرك الأساسي للمجتمع، فإن الأسعار هي محصلته بتأثيرها المباشر على مستوى تأمين الاحتياجات والضرورات، وصولاً إلى الرفاه وإشباع الحاجات إن أمكن ذلك، فمن خلالها تجري عمليات توزيع الثروة وإعادة توزيعها، حيث لا يمكن إنكار هامش الربح الذي يتضمنه السعر، ومن البديهي أنه لا يمكن إغفال الأجور بهذه المعادلة، فالعلاقة بين الأجور والأسعار هي علاقة جدلية لا يمكن فصلها بحال من الأحوال!

تساؤل مشروع!

من المفروغ منه أنه كلما تراجعت القوة الشرائية وارتفعت معدلات التضخم، وفي ظل ثبات نسبي في معدلات الأجور، ازدادت صعوبات حياة الغالبية من المفقرين، وواقعنا المعاش منذ عقود خير دليل!
على ذلك فإن التساؤل عن تباينات الأسعار وفوضاها في السوق، وعن سياسات وآليات التسعير وجهاتها العديدة المسؤولة عنها، هو تساؤل مشروع، ليس من أجل ضبط الأسواق بما يضمن حقوق المستهلكين بسلع وخدمات ذات مواصفة وجودة مقبولة فقط، كما يحلو لبعض الرسميين أن يروجوا، بل من أجل معرفة أنه لمصلحة مَن تُجير السياسات السعرية وفوضى الأسعار السائدة بمحصلتها على مستوى عمليات توزيع وإعادة توزيعها؟!

جهات تسعير رسمية عديدة!

هل تعلم عزيزي المواطن أن هناك عشرات الجهات الرسمية التي تعتبر جهات مسؤولة عن التسعير في البلد، وغالباً لا يوجد أي تنسيق بين هذه الجهات، حيث تصدر كل منها أسعارها الخاصة لسلعها وخدماتها بمعزل عن بعضها البعض، وكذلك تضرب بعرض الحائط الدور الاجتماعي المفترض للتسعير كمهمة مناطة بها رسمياً، وقد باتت من منسياتها!

وفيما يلي تعداد لجهات التسعير الرسمية:

وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، وعبر مديرية الأسعار فيها، تقوم بتسعير مستوردات ومنتجات القطاع الخاص من مادة (الرز– السكر– الزيوت والسمون الجاهزة للاستهلاك المحلي(عدا زيت الزيتون)- المتة- الشاي- معلبات الطون والسردين– الأعلاف المنتجة محلياً- الحليب المجفف والسائل ومشتقاته بأنواعه المستوردة)، وذلك استناداً إلى التكاليف المقدمة إليها، بعد إضافة هوامش الربح المحددة كنسب لحلقات الوساطة التجارية كافة، وكذلك تقوم بتسعير الأدوية المستوردة من قبل مستودعات الأدوية بالتنسيق مع وزارة الصحة ونقابة الصيادلة، بالإضافة إلى دراسة تكاليف وأسعار تشغيل وسائط نقل الركاب المحدثة على قانون الاستثمار والمحالة من مديرياتها في المحافظات، وكذلك دراسة وضع الأسس العامة لتعرفات الركوب في الشاحنات والبرادات والصهاريج والباصات العامة والعادية العاملة بين المحافظات في ضوء تطور وتغير أسعار المشتقات النفطية (مازوت– بنزين)، وإعداد التعريفات الخاصة لوسائط النقل العاملة بين المحافظات كافة في ضوء التعديلات الجارية لمادة المحروقات بأنواعها (مازوت– بنزين) وكذلك التبدلات التي طرأت على التكاليف المتغيرة (قطع تبديل– إطارات– زيوت وشحوم معدنية...).
مديريات التجارة الداخلية وحماية المستهلك في المحافظات تمارس دور التسعير المكاني لبعض السلع والمواد، وخاصة الخضار والفواكه واللحوم على مستوى كل محافظة.
السورية للتجارة تسعر السلع والبضائع المسوقة من خلال منافذها استناداً إلى التكاليف وهوامش الربح المعتمدة من قبلها.
السورية للمخابز تعد دراسة بتكاليف رغيف الخبز، وتقترح السعر المدعوم وغير المدعوم استناداً إلى ذلك بالتوافق مع التوجهات الرسمية، وتصدر الأسعار مركزياً من قبل الوزارة.
وزارة الصناعة تقوم بتسعير منتجات معامل ومنشآت القطاع العام التابعة لها، عشرات المعامل والمنشآت، استناداً إلى التكاليف المرفوعة إليها من قبل المعامل مع هوامش الربح المبوّبة بالتعليمات الناظمة لكل منها، وتصدر قرارات التسعير إما من قبلها، أو من قبل معامل وشركات القطاع العام مباشرة.
وزارة الصحة تقوم بتسعير الأدوية المنتجة محلياً من قبل معامل القطاع العام والخاص، استناداً إلى التكاليف وهوامش الربح المقرّة، وكذلك تحدد تعرفة الخدمات الصحية المقدمة في مشافي القطاع العام والخاص.
وزارة الزراعة تقوم بتسعير بعض مستلزمات الإنتاج الزراعي الموزعة للمزارعين عبر المصرف الزراعي (بذار- أسمدة- أدوية زراعية...).
وزارة النفط والثروة المعنية- شركة محروقات- تسعر المشتقات النفطية- (بنزين- مازوت- غاز منزلي وصناعي- غاز للمنشآت الصناعية- فيول للمنشآت الصناعية) استناداً إلى التكاليف، وتصدر القرارات بذلك إما من قبل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، أو من قبل شركة محروقات مباشرة.
وزارة الاتصالات والتقانة- الهيئة الناظمة للاتصالات- تقوم بتحديد تعرفة خدمات الهاتف الأرضي والاشتراك بالإنترنت، وكذلك تعرفة الاتصالات الخليوية وخدماتها بالتنسيق مع شركتي الخليوي المشغّلين للشبكة، واستناداً إلى دراسات تكاليفها المقدمة!
وزارة الكهرباء تقوم بتحديد تعرفة الطاقة الكهربائية لمختلف قطاعات الاستهلاك، وفق شرائح تعرفة تصاعدية استناداً إلى تكاليفها.
وزارة الموارد المائية والصرف الصحي تقوم بتحديد تعرفة استهلاك المياه بحسب الغرض منها.
وزارة الدفاع- المؤسسة الاجتماعية العسكرية- تقوم بتسعير السلع والمواد المباعة من قبلها استناداً إلى التكاليف وهوامش الربح وتصدر القرارات اللازمة بشأنها.
وزارة التربية تحدد رسوم المدارس والمعاهد الخاصة وتصدر القرارات اللازمة بشأنها.
وزارة التعليم العالي تحدد رسوم التسجيل في الجامعات العامة والخاصة وتصدر القرارات اللازمة بشأنها.
وزارة السياحة تحدد التعرفة للسلع والخدمات في المنشآت المصنفة سياحياً وتصدر القرارات اللازمة بشأنها.
كل محافظة تعتبر جهة تسعير للمأكولات الشعبية وللخبز السياحي والكعك وغيرها، بالتنسيق مع مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك فيها، وكذلك تصدر التعرفات الخاصة لوسائل المواصلات على الخطوط المحددة من قبها بالتنسيق مع مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك، ومع بقية الجهات الرسمية المعنية.
اللجنة الاقتصادية في الحكومة مرجع تسعيري مركزي لإسباغ المشروعية الرسمية على بعض الأسعار المرفوعة إليها من قبل الوزارات المعنية استناداً لتكاليفها، وبما يتوافق مع التوجهات العامة الرسمية.
ولا ننسى وزارة المالية- مديرية الجمارك العامة- التي تحدد السعر التأشيري للمستوردات والصادرات، وكذلك دور الوزارة المؤثر على تسعير العقارات من خلال ضريبة البيوع التي اعتمدت على السعر الرائج الذي تحدده مديريات المالية التابعة لها، وكذلك دورها بما يخص الضرائب والرسوم.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن جميع الجهات الرسمية أعلاه، وغيرها مما لم يتم ذكره، تعمل بموجب قوانين وتشريعات نافذة، تحدد صلاحيات كل منها بما يخص التسعير.

الوزارة معنية أكثر من غيرها!

دور وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، باعتبارها مسؤولة عن تسعير الكثير من السلع والبضائع كما ورد أعلاه، بالإضافة إلى دورها على مستوى الرقابة، تم إنهائه خلال السنوات الماضية بشكل شبه كلي، وكذلك أدوار بقية جهات التسعير الرسمية الأخرى أعلاه!
فدور وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك على مستوى التسعير المركزي لبعض السلع والخدمات في الأسواق بات محدوداً وشكلياً، حيث يتم الاكتفاء بإصدار النشرات السعرية المركزية من قبلها لبعض السلع والمواد استناداً إلى التكاليف المقدمة لها من قبل الفعاليات الاقتصادية (منتجين ومستوردين) مع إضافة هوامش الربح المحددة لكل حلقة من حلقات البيع في السوق!
وبذريعة الحصار والعقوبات تم التخلي الرسمي عن عمليات الاستيراد المباشرة، للكثير من السلع والمواد الأساسية لصالح الجهات العامة، وذلك لمصلحة مستوردي القطاع الخاص، حيث كرّس ذلك ممارسات الاحتكار، مع عدم الاعتراف بها!

التسعير شكلي ومرتبط بالسعر التحوطي!

تجدر الإشارة إلى أن كل ما يتعلق بالتسعير المركزي للسلع والخدمات المرتبطة بالقطاع الخاص (منتج- مستورد- سياحة- نقل- خدمي...) هو تسعير شكلي لمنح المشروعية اللازمة للأسعار المدروسة من قبله استناداً إلى تكاليفه المبوّبة بدراساته الخاصة، ومع ذلك لا يتم التقيّد بهذه الأسعار غالباً، حيث تشهد الأسواق انزياحاً بالأسعار عن الأسعار الرسمية المعتمدة والمعلنة، حسب المكان والتوقيت وحدود الجشع ومستويات الاستغلال!
أما عن أسعار منتجات وبضائع معامل ومنشآت القطاع العام، أو تعرفة خدمات بعض الجهات العامة، فهي مرهقة بالتكاليف المضافة والمرتفعة، الناجم بعضها عن هوامش الهدر والنهب والفساد المعتادة، لذلك تكون مرتفعة عن شبيهاتها في السوق من إنتاج أو استيراد القطاع الخاص، وغير منافسة لها لا بالسعر ولا بالجودة والمواصفة!
أما الأكثر سوءاً بهذا الصدد فهو ارتباط التكاليف والأسعار بسعر الصرف المتذبذب بمسيرته التصاعدية انتقالاً من عتبة سعرية إلى عتبة أعلى، وصولاً إلى تبني سعر صرف تحوطي مرتفع من قبل الفعاليات الاقتصادية تحسب على أساسه التكاليف والأسعار!

بين المفترض والواقع!

من واجبات ومهام التسعير المركزي افتراضاً خلق حالة من الاستقرار السعري، والمساهمة في تحسين جودة السلع والخدمات، وصولاً إلى تحقيق بعض التوازن والتناسب بين فروع الاقتصاد بحسب التوجهات العامة المخططة والمبوّبة بمشاريع معتمدة لكل قطاع حسب الضرورة والحاجة، بما في ذلك آليات التسعير الحمائية الضرورية في بعض الأحيان، سواء لمصلحة المنتج أو لمصلحة المستهلك، بالإضافة إلى التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، وبما يخدم بالنتيجة الوصول إلى التنمية الاقتصادية ومعدلات النمو المنشودة.
لكن ما جرى ويجري في ظل فوضى التسعير وسياساته أنه لم يتم تحقيق أي من مهام التسعير المركزي المفترضة أعلاه، بل الذي ساد هو سياسة سعرية احتكارية استفاد منها كبار أصحاب الأرباح (كبار المستوردين والمصدرين والناهبين والفاسدين والمهربين والمتحكمين بالسوق السوداء)!
فقد تبنت الحكومة سياسات التحرير السعري مع سياسات الانفتاح الاقتصادي منذ عقود، وهي ماضية فيها على قدم وساق، مقابل تبنيها سياسات تجميد الأجور بالتوازي مع سياسات تخفيض الإنفاق العام وسياسات تخفيض الدعم، وفي ظل تراجع الإنتاج والإنتاجية، بنتيجة جملة السياسات الاقتصادية المتبعة، كان من الطبيعي أن تزداد معدلات التضخم، التي انعكست بدورها سلباً على الإنتاج وعلى الأسعار وعلى القدرة الشرائية للأجور!
فعلى الرغم من استمرار الحديث عن سياسات التسعير المركزية، إلا أنها لم تؤدِّ الغاية المطلوبة منها افتراضاً، بل على العكس، حيث ساهمت آليات التسعير المتبعة من قبل الجهات العديدة المسؤولة عن التسعير، وبسبب اعتماد سعر تحوّطي مرتفع للتكاليف من قبل الفعاليات الاقتصادية في البلاد، في خلق فوضى الأسعار، وصولاً إلى زيادة نشاط السوق السوداء على الكثير من السلع، والأهم بهذا الصدد هي المشتقات النفطية، حيث ساهم ذلك في زيادة تكاليف الإنتاج بشكل كبير، بالإضافة إلى زيادة تكاليف النقل والخدمات الأخرى، مما أدى إلى زيادة مطردة على الأسعار دون توقف!

مزيد من التشوه لمصلحة كبار أصحاب الأرباح!

تحرير الأسعار، وفق النموذج الشكلي المتبع من قبل جهات التسعير الرسمية، ووفق السعر التحوطي المرتفع المعتمد في التكاليف، لم يكرس التشوه في سوق السلع والخدمات فقط، بل كرس المزيد من التشوه على سعر الصرف والقيمة الشرائية لليرة، وبما يتجاوز الدولرة وتعويم سعر الصرف بأشواط!
فإذا كانت الجهات الرسمية أعلاه، بما تمارسه من مهام على مستوى التسعير، تعبر عن السياسات السعرية المتبعة، تحت عنوان المركزية الشكلية بحسب ما ورد أعلاه، فلنا أن نعرف بالمحصلة أنه لمصلحة من يتم تجيير هذه السياسات بالواقع العملي!
والأهم لنا أن نعرف كيف تتم عملية توزيع الثروة وإعادة توزيعها من خلال هذه السياسات المشوهة، حيث تزداد ثروة كبار أصحاب الأرباح مع كل ساعة، مقابل المزيد من الفقر والعوز الذي تعاني منه الغالبية المفقرة من أصحاب الأجور الهزيلة، سواء كانوا عاملين في الدولة أو لدى جهات القطاع الخاص!
خلاصة القول أنّ سياسات التسعير المتبعة منذ عقود، بآلياتها المتعددة بحسب تعدد جهاتها الرسمية المسؤولة عنها، هي سياسات طبقية ومنحازة بكل جور وصلف لمصلحة كبار أصحاب الأرباح، على حساب الغالبية المفقرة والاقتصاد الوطني والمصلحة الوطنية!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1184