ضعف الإمكانات ذريعة رسمية لتبديد ما تبقى منها!

ضعف الإمكانات ذريعة رسمية لتبديد ما تبقى منها!

في كل مرة يتم الحديث بها رسمياً عن الإيرادات لتغطية النفقات المطلوبة في الموازنات العامة للدولة يتم التذرع بالعقوبات والحصار، وبضعف الإمكانات، وبالمناطق خارج السيطرة وما فيها من حقول نفط أو إنتاج زراعي، وخاصة القمح، وليتم اللجوء بالنتيجة إلى تغطية الإنفاق العام من جيوب المفقرين وعلى حساب معيشتهم وخدماتهم، من خلال سياسات خفض الإنفاق العام وتخفيض الدعم وزيادة الأسعار وفرض المزيد من الرسوم والضرائب!

فهل تفتقد سورية فعلاً الإمكانات والموارد كما يسعى بعض الرسميين للترويج، من أجل خلق حالة تيئيسية تغلق الآفاق أمام السوريين من أجل تحسين واقعهم بمعاشهم وخدماتهم؟!
فبغض النظر عن الثروات الباطنية وأهميتها طبعاً، تعتبر سورية بلداً زراعياً بامتياز، مع تنوع كبير بالمنتجات الزراعية، النباتية والحيوانية، الكافية لسد الاحتياجات المحلية، بالإضافة إلى فائض تصديري منها يؤمن قطعاً أجنبياً قادراً على تغطية تكاليف بعض الاحتياجات المستوردة أيضاً!
فالمحاصيل الزراعية النباتية كثيرة ومتنوعة، مع إمكانية الاستفادة القصوى من دورات الإنتاج خلال المواسم المتعاقبة، من خلال الخبرات المتراكمة لدى الفلاحين والمزارعين بحسب كل منطقة وظروفها المناخية وطبيعة تربتها، اعتباراً من المحاصيل الاستراتيجية (القمح- القطن- الشوندر)، مروراً بالحبوب والبقوليات والأشجار المثمرة بتنوعها، وليس انتهاءً بالخضار والحشائش، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكثير من المنتجات الزراعية النباتية تعتبر من مدخلات في التصنيع الزراعي، الغذائي وغير الغذائي، والذي يغطي جزءاً هاماً من الاحتياجات المحلية أيضاً، مع فائض تصديري منه كذلك.
والإنتاج الحيواني لا يقل أهمية عن الإنتاج النباتي، اعتباراً من اللحوم (أغنام- عجول- أبقار- جمال- دجاج) مروراً بالحليب ومشتقاته الكثيرة، وليس انتهاءً بالصناعات الغذائية وغير الغذائية المرتبطة بهذا الإنتاج، وهي جميعها تغطي الاحتياجات المحلية مع فائض تصديري منها أيضاً.

لكن بسبب السياسات المتبعة خلال العقود الماضية، وخاصة تخفيض الإنفاق العام وتخفيض الدعم، إضافة إلى تداعيات الحرب والأزمة، وبذريعة العقوبات والحصار، تراجع الإنتاج الزراعي بشكل كبير، وصولاً إلى عدم الاكتفاء الذاتي حتى من المحاصيل الاستراتيجية كالقمح، مع التخلي الرسمي عن المحاصيل الاستراتيجية الأخرى (الشوندر والقطن)، حيث تم الإجهاز على هذه المحاصيل بشكل شبه كلي خلال السنوات الماضية، وما بقي منها هو لذر الرماد في العيون ليس إلا، مع تسجيل تراجع بالمساحات الزراعية ومحاصيلها عاماً بعد آخر، سيراً نحو الإجهاز على بقية الإنتاج الزراعي النباتي، وكل ذلك أدى إلى زيادة عمليات الاستيراد وزيادة حصتها عاماً بعد آخر لسد الاحتياجات المحلية من المنتجات الزراعية، والأمر لم يقف عند حدود القمح فقط، بل وصل الأمر إلى البصل والبطاطا والثوم وبعض البقوليات وغيرها أيضاً!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإنتاج الزراعي المحلي، بشقيه النباتي والحيواني، يعتبر منافساً في أسواق التصدير، وجزء هام منه يحمل قيمة مضافة من خلال تصنيعه محلياً، وكذلك تجدر الإشارة إلى أن بعض هذا الإنتاج يحمل ميزة مطلقة غير مستثمرة كما يجب أن يكون عليه الحال!
فالقمح والقطن والحمضيات وزيت الزيتون والفستق الحلبي والأعشاب الدوائية، وغيرها الكثير من المنتجات النباتية، منافسة وتحمل قيمة مضافة بتصنيعها، كما أن بعضها يحمل ميزة مطلقة!
وأغنام العواس والماعز والبقر الشامي لا تقل أهمية من حيث إنها تحمل ميزة مطلقة، بالإضافة إلى منتجاتها التي تحمل قيمة مضافة من خلال تصنيعها!
ولا يمكن أن نغفل أيضاً المياه المعدنية بهذا الصدد، فالكثير من الينابيع المحلية تمتاز مياهها بالكثير من المواصفات الفنية الممتازة، ومع ذلك تذهب هدراً من دون أي استثمار، بل حتى لا يتم استثمارها على مستوى تزويد شبكات مياه الشرب بها، لمزيد من حرمان المواطنين والإجحاف بحقهم!
أما على مستوى الإنتاج الصناعي ومنشآته فحدّث بلا حرج عمّا تملكه من إمكانات متراكمة ورساميل كبيرة مستثمرة فيها، سواء عام أو خاص، وخاصة قطاع النسيج وصناعاته العريقة، مع سلاسل إنتاجه المتتابعة، وما تحققه من تغطية للاحتياجات المحلية مع الفائض التصديري الكبير منها، وكذلك الصناعات الغذائية والهندسية والكيميائية وغيرها، التي تغطي جزءاً هاماً من الاحتياجات المحلية مع كم تصديري معتبر منها أيضاً!
لكن ما أصاب الإنتاج الزراعي أصاب الإنتاج الصناعي أيضاً، حيث شهدت السنوات الماضية تراجعاً كبيراً بالإنتاج الصناعي، عام وخاص، وصولاً إلى إغلاق الكثير من منشآته ومعامله، والسبب الرئيسي في ذلك هي السياسات الرسمية المجحفة تجاهه، وخاصة على مستوى تأمين مستلزمات إنتاجه، والأهم بذلك هي حوامل الطاقة (كهرباء- مشتقات نفطية) التي تم تحرير أسعارها مع عدم تأمينها للمنشآت الصناعية، الأمر الذي أدى إلى زيادة تكاليف الإنتاج، وبالتالي زيادة الأسعار، وصولاً إلى انعدام التنافسية في أسواق التصدير!
وما يمكن إضافته في هذا السياق على مستوى الإمكانات المتاحة غير المستثمرة كما يجب، هو الإشارة إلى صناعة البرمجيات الناشئة والعاملين الأكفاء والمؤهلين فيها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن جزءاً هاماً منها تصديري، بالإضافة إلى صناعة السياحة العلاجية (أسنان وتجميل)، وكذلك صناعة السياحة الدينية المهملة، ناهيك عن إهمال الكثير من الأماكن الأثرية التي لا تخلو أية مدينة أو منطقة منها، كإمكانات متاحة وكبيرة مهدورة بكل لا مبالاة!
ولا ننسى طبعاً الأهم من كل ما سبق وهو الإمكانات البشرية نفسها كموارد غير مستثمرة، وخاصة المؤهلة والمدربة، والتي لم تكن بعيدة عن الاستهداف الرسمي من خلال جملة السياسات المتبعة تجاهها، وصولاً إلى تطفيش ما يمكن تطفيشه منها تباعاً، فموجات الهجرة مستمرة هرباً من الواقع الظالم معيشياً وخدمياً، وخاصة الفئة العمرية الشابة، في ظل قلة وانعدام فرص العمل، وبسبب الأجور الهزيلة!
فمن الواضح أن الحكومة غير معنية بكل الإمكانات والممكنات المتاحة التي ورد بعضها أعلاه فقط، وهي مصرة على تجاهلها، إن لم نقل إنها مصرة على استكمال السير نحو إنهائها، وخاصة الإنتاج الحقيقي (الزراعي- الصناعي، العام- الخاص) المولد للثروة والمشغل لليد العاملة، والكافي لسد الاحتياجات المحلية منه!
فهل بعد ما سبق يمكن قبول الحديث الرسمي عن قلة الإمكانات وضعفها، أم إن هذا الحديث هو ذريعة لتقويض وتبديد ما تبقى منها، ولتبرير المضي بسياسات الظلم والإجحاف، وبما يحقق ويضمن مصالح البعض من كبار الناهبين والفاسدين وأصحاب الأرباح فقط لا غير، على حساب مقدرات البلاد والعباد ومستقبلهم؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1184