نماذج فاقعة عن الفرز الطبقي الممنهج والتشوّه المنظم!
قامت محافظة دمشق مجدداً، بذريعة البحث عن الموارد وتحت غطاء الاستثمار، بتأجير مدينة المعارض القديمة، المفرغة والمهملة منذ سنين، لاستثمارها بمشروع «شارع الأكل»، متناسية الملكية العامة لهذه المساحة، ومتجاهلةً حق السوريين بالاستفادة منها، فهي مغلقة بوجههم دائماً، باستثناء تلك الفترات التي توضع فيها بالاستثمار، ولقاء رسوم دخول مرتفعة أيضاً!
فبعد قيام المحافظة بنسف معرض دمشق الدولي بكل جماليته وتاريخه من هذه المساحة الكبيرة، تركتها فارغة ومهملة لتقوم بتأجيرها في كل مناسبة بمبالغ هائلة لبعض الشركات الاستثمارية الخاصة، لتقوم بدورها بتأجير زواياها وأركانها لإقامة الأكشاك والأكواخ والمطاعم، ولمحال وماركات معينة، وبأسعار هائلة أيضاً، وليقوم هؤلاء الباعة، كمستثمرين جانبيين، بدورهم ببيع الطعام والشراب للزوار والوافدين بمبالغ خيالية من كوكب آخر!
من كريسماس ماركت لشارع الأكل طبقية فجة واستغلال واضح!
بعد أن زينت ضحكات أطفال الطبقات المخملية أجواء أعياد الميلاد ورأس السنة الصاخبة والبراقة بـ «الكريسماس ماركت» نهاية العام الماضي، العنوان الاستثماري الجذاب الذي تفتقت عنه ذهنية المستثمر المحظي بحينه، مع أضوائه الساطعة ببريقها، مقابل شوارع المدينة المظلمة والموحشة، تاركةً أصوات نحيب أطفال الشعب المفقر، بالقرب منه تحت جسر الرئيس، العاجزين عن دخوله والاستمتاع بأضوائه وصخبه، تتكرر التجربة المأساوية مرة جديدة بمهرجانات شارع الأكل، كعنوان استثماري مستقطب لشريحة المترفين بدوراته المتكررة!
وكالعادة تحت رعاية رسمية وتوصيات جمة تم افتتاح «مهرجان شارع الأكل» في مدينة المعارض القديمة بدمشق، بأضوائه وصخبه، فعوضاً عن نشر روح البهجة والفرحة العامة، جاء هذا المهرجان كشكلٍ من أشكال التشوّه الفج الذي أورثته المنهجية الحكومية ليرسخ التفاوت الطبقي مجدداً، وليعمق المشاعر السلبية التي سيطرت على قلوب غالبية السوريين المفقرين، الذين باتوا يشعرون أن مقومات الحياة في بلادهم باتت حكراً فقط على أبناء الطبقة المخملية!
فرسم الدخول وحده إلى هذا المهرجان يعمق ذاك الإحساس بالطبقية وعدم الانتماء، وبأن هذه الاحتفاليات والمهرجانات ليست للشريحة العظمى من السوريين!
فسعر بطاقة الدخول إلى مهرجان الطعام المسمى بشارع الأكل هو 60 ألف ليرة، تنقسم إلى 20 ألف ليرة رسم دخول، و40 ألف ليرة يجبر على تسديدها الزوار والوافدون، يسمح لهم الشراء بقيمتها مما هو معروض في سوق الأطعمة والمشروبات بداخل شارع الأكل، كأسلوب توريطي نهبوي مستجد، وفق مبدأ «الخورفة»، وبحال عدم شراء أي شيء خلال جولة الزائر، من الممكن أن يتم إعادة هذا المبلغ له أثناء خروجه!
ومن المفروغ منه، أن هذا المهرجان غير مخصص للأسر المفقرة، فرسم الدخول لوحده البالغ 20 ألف ليرة هو مبلغ كبير على أسرة بتعداد أفراد 5 فقط، أي مبلغ 100 ألف ليرة، ومع مبلغ التوريط يصبح إجمالي المبلغ المستحق للتسديد هو 300 ألف ليرة، لذلك فإن هذا المهرجان فعلاً مخصص للنخبة والمترفين فقط، وهؤلاء لن يقفوا عند ضخامة المبلغ من كل بد، ولن يعتبروا جزءاً منه كتوريطة، بل غالباً سيبذخون في الإنفاق داخل المهرجان، وهو المطلوب من كل بد من قبل المستثمر!
مزيد من الاستغلال وانعدام الرقابة!
المهرجان عبارة عن ساحات شاسعة مملؤة بالمقاعد والطاولات المنتشرة أمام أكشاك خشبية، جل ما تقدمه هو الطعام والشراب بأسعار غير منطقية، حيث تبدأ أسعار الوجبات من 50 ألف ليرة للشخص الواحد، أما السندويش فيبدأ من سعر 30 ألف ليرة، وطبعاً ليس هناك أي تقارب ما بين الأسعار والحجم، فالوجبة تكاد لا تشبع الطفل الصغير، أما السندويش فنستطيع اعتباره تسكيتة جوع ليس إلا، رغم ارتفاع الأسعار ضمن المهرجان بالمقارنة مع مثيلاتها خارجه، فالاستغلال السعري كبير وغير مسقوف!
الأسوأ، أنه رغم ارتفاع أسعار الأطعمة والأشربة إلا أن جودتها ليست كما ينبغي أيضاً، خاصة مع درجات الحرارة المرتفعة وطبيعة المنطقة المفتوحة، بالإضافة لطبيعة الأماكن التي تُحضّر فيها هذه المأكولات، والتي هي عبارة عن أكواخ غير مجهزة وفقاً لمعايير الصحة والسلامة والنظافة، فكيف يتم إعداد الطعام، وكيف يجهز ويقدم، لا أحد يدري، ولك أن تتوقع؟!
وطبعاً هذا كله في ضوء غياب الرقابة الصحية والتموينية!
تزامن مقصود!
يتزامن هذا النموذج المشوّه من الاحتفاليات الترفية والباذخة مع قدوم عيد الأضحى المبارك، لاستقطاب الشريحة المخملية والمترفة لتسرف بذخاً فيها، مقابل تعميق الشعور بالحاجة والحرمان أكثر فأكثر لدى العديد من الأسر السورية المفقرة، التي استقبل أطفالها العيد بثياب رثة مجددة، دون حلويات ولا سيران ولا وجبة غداء دسمة، فكل هذه المظاهر التقليدية التي كانت تصاحب قدوم العيد كطقوس محببة باتت من المنسيات بالنسبة اليها!
تكريس التفاوت الطبقي ممنهج!
كل ما في هذا المكان بات يرسخ مفهوم «الناس يلي فوق والناس يلي تحت»، فكل ما فيه يثبت أن الاحتفالية أعدت لتستقطب فئة محدودة من المترفين، أما أصحاب الدخل المحدود والمفقرين فلهم عجزهم وحسرتهم، في تناقض فج يعبر خير تعبير عما وصلت إليه الحال من تفاوت طبقي ممنهج يتم تكريسه برعاية رسمية منقطعة النظير!
فمحافظة دمشق، التي خصصت المكان للاستثمار، وبدأت بتأجيره للشركات المنظمة والمستثمرين لاستقطاب شريحة الأثرياء والمترفين، مع كل مترتبات هذا الاستثمار من بذخٍ وترفٍ، رغم أنه يعتبر من الملكيات العامة افتراضاً أي لكل السوريين ولهم الحق بالتمتع به، تعتبر مساهمة مباشرة بتعزيز الفرز الطبقي، وبالحد الأدنى من خلال رسم الدخول المرتفع الذي تحدده بالتعاون وبالشراكة مع المستثمرين!
ولا شك أن المحافظة ليست شاذة بهذا الشكل من الاستثمار ومبرراته وبنتائجه وموبقاته، وخاصة على مستوى تعزيز الفرز الطبقي!
فالحكومة سبقتها بأشواط بهذا المجال من خلال سياساتها التمييزية والطبقية التي تدهس المفقرين وتعمق أحزانهم، وصولاً لدفن فرحتهم بالعيد، التي تحولت مع مرور السنوات إلى مأساة مضافة إلى كوارثهم المعاشة يومياً ولحظياً، بسببها وعلى أيديها!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1179