شريك المي ما بيخسر... والمستهلك خاسر دائم!
تتعالى صيحات الباعة بعبارة «ثلج للبيع»، تزامناً مع قدوم فصل الصيف بِحرّه الشديد، وخاصة في الأحياء الشعبية والفقيرة معدومة الخدمات، حيث ألف ساكنو هذه الأحياء سماع هذه العبارة، لكنهم لم يعودوا يألفوا سعر الثلج المرتفع!
فتكاليف شراء الثلج من الباعة باتت تستهلك جزءاً إضافياً ليس بقليل من المدخول الشهري الهزيل سلفاً، بالنسبة لأصحاب الدخل المحدود والمفقرين بغالبيتهم الساحقة، لكن مع ازدياد ارتفاع درجات الحرارة، وبظل غياب الكهرباء شبه الدائم، فإن شراء قطعة ثلج أصبح شر لا بد منه، ليس لذاتها ولضرورتها، وخاصة من أجل أن يشرب الأطفال مياه باردة بدلاً من المياه الساخنة، بل بسبب سعرها المرتفع!
وقد كان من اللافت أن هذا الصيف اختلف عن مثيلاته، فعدد باعة الثلج زاد أضعافاً مضاعفة عما كان عليه في الصيف الماضي أو الذي قبله، إذ بتنا نلاحظ وجود قوالب ثلج كبيرة مرمية على قطع خيش فوق عربات جوالة غير صحية، موزعة ومنتشرة بكثرة، وخاصة في الأحياء الشعبية والفقيرة، إضافة للعديد من البسطات والأكشاك والباعة الجوالين بسياراتهم!
ولعل السبب الرئيسي لزيادة العاملين في مهنة بيع الثلج هذا الصيف هو شدة الحرارة وغياب الكهرباء عن البيوت، بالإضافة طبعاً إلى أنها فرصة عمل موسمية للبعض، بدلاً من التعطل عن العمل، والأهم أنها تجارة رابحة دخلت حيز التحكم والسيطرة والاستغلال!
تجارة رابحة مقابل مواطن خاسر!
في ظل غياب الكهرباء شبه الدائم وارتفاع أسعار منظومات الطاقة البديلة، سواء ألواح الطاقة الشمسية أو الأمبيرات، ومع ارتفاع درجات الحرارة الشديد، بات المواطن المفقر مجبراً على اللجوء لباعة الثلج بغية شرب ماء بارد، أو حفظ المونة بطريقةٍ بدائية عبر وضع قطع الثلج عليها، مما أدى لازدهار هذه المهنة التي باتت تحقق أرباحاً كبيرة، وبات لها تجارها وحيتانها، وكل هذا وسط تغيّبٍ متعمد للجهات المعنية والمسؤولة عن مراقبة الأسواق وضبط الأسعار!
حيث تراوح سعر قطعة الثلج متوسطة الحجم بين 5000 إلى 6000 ليرة عند البائعين المتجولين (قالب الثلج يقطع إلى 4 أو 6 قطع حسب حجمه، وتكلفته على البائع لا تتجاوز 2000-3000 ليرة كأقصى حد)، أما سعر كيس الثلج من المحال فتراوح بين 3500 ليرة وصولاً إلى 6000 ليرة، حسب الوزن والمكان والتوقيت، كمعايير لدرجة الاستغلال السعري!
وبالمقارنة مع الصيف الماضي، فقد ارتفعت أسعار الثلج بما يعادل نسبة 100-150%!
وفي الأحياء المفقرة ومعدومة الخدمات، فإن الضرورات تفرض استهلاك قطعتي ثلج يومياً بالحد الأدنى خلال فصل الصيف لكل أسرة، بغض النظر عن تعداد أفرادها، فسرعة ذوبان الثلج لا علاقة لها بعدد المستهلكين بقدر ارتباطها بدرجات الحرارة!
على ذلك، فإن التكلفة اليومية لقاء شراء قطعتي ثلج فقط هي 10 آلاف ليرة، أي ما يعادل 300 ألف ليرة خلال الشهر، وهو الحد الأدنى للأجور الشهرية، التي يضطر المفقر لتكبدها كي يشرب ماءً بارداً مع أفراد أسرته خلال حر الصيف، مع التقنين!
فهل من المعقول أن يكدح المواطن المفقر طيلة أيام الشهر ليشرب ماءً بارداً خلال فصل الصيف، أم غدت المياه الباردة أيضاً من المحرمات عليه؟
وربما لا داعي للخوض في الأرباح الكبيرة المحققة من التجارة بقطع الثلج المصنعة في المعامل، فشريك المي ما بيخسر كما يقال، والتكلفة بالنسبة لمعامل تصنيع ألواح الثلج الكبيرة ليست بسعر المياه بل بقيمة الكهرباء، لكن على الرغم من ارتفاع تكلفة الكهرباء إلا أن الأرباح المحققة من تصنيع قوالب الثلج وبيعها كبيرة بما لا يقاس بالمقارنة مع تكلفتها!
فالبائع الجوال يبيع قالب الثلج، الذي يكلفه 3000 ليرة بالحد الأعلى، بمبلغ لا يقل عن 20 ألف ليرة، محققاً ربحاً صافياً من كل قالب ثلج مبلغ وقدره 17 ألف ليرة، وهو عمل موسمي غير مستمر بالنسبة لهؤلاء، فنشاطهم مرتبط بفصل الصيف فقط، وهم يتعبون ويكدون متجولين على أقدامهم لقاء جني هذه المرابح، التي لا تغنيهم عن جوع بالواقع العملي، أما معامل الثلج كمشروع استثماري فهي أمر آخر، فإنتاجها وعملها مستمر لتؤمن احتياجات الكثير من المطاعم والمحال والفنادق والكافتيريات وغيرها، صيفاً وشتاءً، وأرباحها كبيرة ومضمونة، وترتفع خلال فصل الصيف، وفي المناسبات والأعياد مع ازدياد الطلب على الثلج، مستغلين الباعة الجوالين كعمال موسميين والمستهلكين بآن معاً!
الجانب الصحي أكثر سوءاً وكارثية!
بتاريخ 10/6/2024، نقلاً عن موقع «أثر برس»، أكد مدير الشؤون الصحية في محافظة دمشق قحطان إبراهيم: «أن جميع معامل الثلج المرخصة تتم مراقبتها وتؤخذ عينات منها بشكل دائم، أما المعامل غير المرخصة فمن الممكن أنها تستخدم مياه غير نظيفة، ولا تضيف لها الكلور لتنقيتها من الشوائب، لافتاً إلى أنه لا يفضل شراء العصائر التي تحوي ثلـج من القوالب الكبيرة في الشارع لأنها غالباً غير نظيفة، بينما قطع الثلـج الصغيرة المغلفة أفضل».
من الحديث الرسمي أعلاه، نستطيع الجزم أن الجهات المعنية على دراية بعدم نظافة مصادر المياه في بعض المعامل غير المرخصة، لكننا لم نلاحظ أي إجراء حقيقي لحماية المواطن المفقر!
وفي حال اعتبرنا مصدر المياه في معامل تصنيع الثلج المرخصة وغير المرخصة هو مصدر مياه نقية وعقيمة ومعالجة وصالحة للاستهلاك البشري، رغم أن الواقع يخبرنا عكس ذلك، فهل نستطيع التغاضي عن آلية نقلها وعرضها وبيعها؟!
فنحن نرى قطع الثلج المعروضة للبيع مرمية في السيارات، أو على العربات تحت أشعة الشمس، وفي الطرقات دون مراعاة لأدنى معايير الصحة والنظافة، يضاف إليها الأيدي المتسخة التي تحملها وتقطعها وتبيعها، وقطع الخيش البالية التي توضع عليها وتغلف بها!
فأين هي الجهات المعنية في ضوء ما يحدث؟
فها هي بسطات بيع الثلج تكثر وترفع أسعارها تزامناً مع حر الصيف وموسم العيد، وسط غياب رسمي مترافق مع استهتار بصحة المواطن!
فالموضوع لم يعد يقتصر على انتشار لمهنة موسمية بشروط غير صحية، ولا على غياب الرقابة عن الأسعار، وارتفاع معدلات الاستغلال الكبيرة ارتباطاً بزيادة الحاجة للثلج بسبب غياب الكهرباء، بل بات استهتاراً رسمياً بصحة المواطن وسلامته أيضاً!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1179