بذريعةِ تجميل المدينة... قطع أرزاق الآلاف!
أطلقت محافظة دمشق أضخم حملة لإزالة البسطات والتعديات على الأملاك من أحياء المدينة مع بداية الشهر الحالي، لتتبعها محافظة ريف دمشق ومحافظة حلب بذلك أيضاً!
الحملات أتت بذريعة تجميل المدن، وبأن البسطات مخالفة وتسبب ازدحاماً ومضايقات لحركة المشاة ومرور السيارات ومختلف الآليات، إضافة إلى التشوه البصري والسمعي الذي تسببه، وغيرها من المبررات!
وقد أنتجت تلك الحملات شوارع وأرصفة خاليةً نسبياً من الباعة والبسطات حالياً، لكنها بالمقابل أفرزت الآلاف المؤلفة من العاطلين عن العمل، مع أسرهم التي باتت جائعة وبلا مورد رزق!
فالبسطات بالنسبة للعاملين بها هي فرصة العمل الوحيدة المتاحة أمامهم، وهي سبيل العيش الوحيد لأسرهم المفقرة معدومة الحال!
فما هو مصير أصحاب البسطات في ظل انعدام فرص العمل البديلة، ومن سيعيل أسرهم بعد فقدانهم مورد رزقهم؟!
حزم وجدّية وسقف زمني!
حملات المحافظة على البسطات ليست جديدة، فهي تتكرر بين الحين والآخر، حيث تعود البسطات لافتراش الأرصفة والطرقات بعد كل حملة!
لكن يبدو أن الحملة المنظمة التي تستهدف البسطات والتعديات على الأملاك هذه المرة ليست كسابقاتها من حيث كثافة الجولات، وتباين مواعيد تنفيذها خلال فترات اليوم من الصباح وحتى المساء، والأماكن والمناطق المستهدفة منها!
فقد كشفت مديرة دوائر الخدمات في محافظة دمشق المهندسة ريما جورية عن «انطلاق حملة لإزالة البسطات والتعديات على الأملاك العامة كافة وفي قطاعات دمشق كافة، بالتعاون مع شرطة المحافظة، وذلك للحفاظ على جمالية المدينة من التشوهات التي تسببها البسطات وتمهيداً لتفعيل الساحات التفاعلية»، وقالت جورية إنه «مع نهاية الشهر السادس ستزال الأكشاك كافة من مدينة دمشق، وخلال الشهر المقبل ستفعّل الساحات التفاعلية». وأكدت أن «الساحات التفاعلية مخصصة لذوي الشهداء والجرحى، والتقديم عليها من خلال مديرية الأملاك في المحافظة».
كما أكد عضو المكتب التنفيذي لقطاع الأملاك في المحافظة، مجد الحلاق على «عدم عودة البسطات لافتراش الأرصفة»، وقال إن الحملة الأخيرة التي أجرتها محافظة دمشق لإزالة البسـطات استهدفت كل البسطات الموجودة على الأرصفة، مشيراً إلى أن «المحافظة تستقبل الطلبات لإشغال الساحات التفاعلية».
وأكد عضو المكتب التنفيذي لشؤون الخدمات في محافظة دمشق المهندس عبد الغني عثمان «إنّ هناك توجهاً بإزالة الأكشاك والبسطات كافة عن شوارع وأحياء العاصمة»، لافتاً إلى أن «المحافظة جادة كل الجد بذلك». موضحاً أنه كأقصى حد في نهاية 31/7/2024 ستتم إزالة كل الأكشاك والبسطات، ونقلها إلى الساحات التفاعلية المخصصة في كل منطقة، مشيراً إلى أن «منظر هذه البسطات غير لائق وغير حضاري»، مؤكداً أن «المحافظة تعمل بالتعاون مع جميع الجهات وخصوصاً شرطة المحافظة لحل مشكلة التعدي على الأرصفة وبما يضمن حقوق الجميع».
مزيد من البطالة والعاطلين عن العمل!
التصريحات أعلاه، على اختلاف مواقع مسؤولية أصحابها، بالتوازي مع كثافة الحملات المنفذة من المحافظة، مع وضع سقف زمني لاستكمالها مع نهاية الشهر القادم، موعد إطلاق عمل الساحات التفاعلية، تفرض التساؤل المشروع التالي:
هل تكفي الساحات التفاعلية المزمعة لاستيعاب الآلاف من أصحاب البسطات كي يستمروا بعملهم ويتمكنوا من إعالة أسرهم؟!
الجواب عن ذلك بسيط جداً، فالساحات التفاعلية مخصصة لذوي الشهداء والجرحى بحسب التصريحات أعلاه، وهي أصلاً محدودة الأماكن والمساحة!
فبحسب عضو المكتب التنفيذي لشؤون الخدمات في محافظة دمشق المهندس عبد الغني عثمان «حددت المحافظة مواقع الساحات التفاعلية في الزبلطاني وركن الدين وجانب مشفى ابن النفيس وحديقة ابن عساكر وحي الزهور خلف الحديقة بالزاهرة وسوق الخضر بمساكن برزة وسوق التضامن جانب مركز التضامن الصحي، وهناك خطة لزيادة مساحات الساحات التفاعلية لتتسع لأكبر عدد».
وللتذكير تجدر الإشارة إلى أنه بتاريخ 20/6/2023 صرحت عضو المكتب التنفيذي لقطاع الخدمات والمرافق في محافظة دمشق ملك حمشو لـموقع «أثر برس» بقولها: «بعد عطلة عيد الأضحى المبارك الساحات التفاعلية في الخدمة؛ لأننا انتهينا من تجهيزها كاملة».
عبارة «انتهينا من تجهيزها» أعلاه استغرقت حتى تاريخه سنة كاملة!
فما هو الوضع اليوم وفقاً للحديث عن الساحات التفاعلية؟
وهل فعلاً سيستلم كل أصحاب البسطات أماكنهم ضمنها، أم إن كل الوعود والأحاديث مجرد ذر للرماد في العيون؟
والأهم، هل الجهات المعنية في المحافظة على دراية بأن كل يوم يمر دون أن يعمل هؤلاء المسحوقون هو يوم جوع إضافي لأُسرهم وأطفالهم؟!
فالأماكن المخصصة للساحات التفاعلية على مستوى المحافظة محدودة العدد والمساحات، وهي سلفاً مشغولة ومكتظة ولا تستوعب المزيد من البسطات فيها، وما سيجري بأحسن الحالات هو إعادة هيكلة المستفيدين منها على ضوء أعداد المتقدمين لإشغالها، مع أولوية ذوي الشهداء والجرحى!
والنتيجة أن الآلاف من أصحاب البسطات سيجدون أنفسهم عاطلين عن العمل، وعاجزين عن تلبية احتياجات أسرهم، وما قد ينجم عن ذلك من ظواهر وآفات لا تقف عند حدود زيادة الفقر والجوع فقط، بل قد تتعداها إلى آفات وظواهر اجتماعية أكبر وأعمق، بل وأخطر!
معالجة التشوه بتشوه أكبر وأعمق!
لن نبرر مخالفات البسطات وما تخلفه من تشوهات طبعاً، ولكن التشوه الحقيقي هو الفقر المترافق مع قلّة فرص العمل، والذي دفع بالكثيرين إلى اللجوء إلى العمل بالبسطات، بما في ذلك بعض الخريجين الجامعيين، بل وخريجي الدراسات العليا، الذين أغلقت أمامهم السبل بالحصول على فرصة عمل باختصاصهم تكفيهم شرور العوز!!
فغالبية أصحاب البسطات والعاملين عليها هم من معدمي الحال الذين لم يستطيعوا تأمين عمل يؤمن لهم ولأسرهم حدود الاكتفاء، بالإضافة إلى البعض من ذوي الدخل المحدود، بما في ذلك بعض المتقاعدين من المسنّين، الذين لجأوا إلى العمل على بسطة بعد ساعات الدوام بغية زيادة دخلهم لتأمين مستلزمات حياتهم وضروراتهم!
فما الذي يدفع إنساناً إلى العمل في ظروف شديدة القساوة، منتصباً لساعات طويلة في لهيب الصيف أو صقيع الشتاء في الشارع، حيث انعدام النظافة والمرافق والظروف الصحية، عدا العوز والفقر والحاجة؟
فالسبب الرئيسي لانتشار البسطات وزيادة أعدادها، وإن كانت مخالفة بحسب توصيفات المحافظة، هو عدم وجود البديل عنها كفرصة عمل شريف في ظل الأوضاع المعيشية السيئة التي يعاني منها معظم السوريين بغالبيتهم المفقرة!
فاستمرار الجهات الرسمية بملاحقة وتقييد عمل أصحاب البسطات، دون إيجاد حلول جذرية لمشكلتهم، قد يوصل البعض من هؤلاء إلى ما هو أكثر سوءاً من خلال الدفع بهم نحو بوابات الأعمال الهامشية وغير المشروعة، وما أكثرها، وصولاً إلى الوقوع في براثن مَن لا يرحم من كبار مشغلي ومستثمري هذه الأعمال وشبكاتها، اعتباراً من العمل في شبكات السوق السوداء، وليس انتهاءً بشبكات المخدرات والدعارة والسلب والابتزاز والسرقة!
أليس اختيار العمل بشرف على بسطة مخالفة من قبل هؤلاء أفضل من لجوئهم إلى التسول مثلاً، أو ربما إلى الأكثر سوءاً مما ورد أعلاه من خيارات مأساوية وكارثية على المستوى الفردي والمجتمعي؟!
فمعالجة التشوه البصري والمحافظة على جمالية المدن، وفقاً للنمط والإجراءات المتبعة من قبل المحافظة، لن ينتج إلا المزيد من التشوهات الأكبر والأعمق والأخطر!
مسؤولية الدولة وعهدة الحكومة الافتراضية!
لا شك أن معالجة مشكلة البطالة والفقر ليست من مسؤولية المحافظة، لكنها من مسؤولية الدولة وبعهدة الحكومة افتراضاً، لكن في ظل استمرار سياسات الإفقار يبدو أن معدلات البطالة ستزداد، وكذلك معدلات الفقر بنتائجه وموبقاته!
فمن المعروف أن حل أي قضية يستدعي البحث بمسبباتها وتحليل العوامل المحيطة بها، وانطلاقاً من هذا المنظور نستطيع الجزم بأن جوهر المشكلة هو البطالة، وبالعمق هو انعدام العدالة بتوزيع الثروة!
فمن دون حل مشكلة البطالة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة والفرص، لن نصل إلى إنهاء ظاهرة البسطات المخالفة، ولا أية ظاهرة سلبية أخرى، على اختلاف درجات انتشارها وعمقها!
فالحل الحقيقي والوحيد الذي يجب العمل الجدي عليه من قبل الحكومة والرسميين، بحال توفر النوايا والقرار بذلك، هو بخلق جبهات عمل حقيقي توفر فرص عمل مناسبة تستقطب وتستثمر قوة عمل فئات المجتمع جميعها، كل باختصاصه وبحسب إمكاناته ومقدراته، عندها لن يجد الطفل والشاب والمرأة والموظف المعدم والمسن المتقاعد أنفسهم مجبرين على العمل أمام البسطات والأكشاك، أو غيرها من الأعمال الهامشية المتكاثرة، وفي ظروف قاهرة!
والوصول إلى ذلك لا يمكن إلا من خلال نظام توزيع عادل للثروة، يضع مصالح القوى المنتجة والعاملة في المقدمة، ويقضي على مسارب النهب والفساد الكبيرة والصغيرة!
وهذا الحل، وإن كان ليس سريعاً بنتائجه، لكنه ليس من المستحيلات طبعاً، لكنه مشروط كما أسلفنا بالنوايا الجادة والقرار، وهنا المشكلة الحقيقية!
فمثل هذه الحلول مغيبة عن خارطة العمل الرسمي، بل إن جملة السياسات المتبعة تكرس المزيد من التردي والسوء على المستويات كافة، وخاصة على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، معيشياً وخدمياً، وبما يضمن مصالح القلة المحدودة من كبار أصحاب الأرباح، تجاراً وناهبين وفاسدين ونافذين!
ماذا عن التعديات المشرعنة على الأملاك العامة!
المحافظة التي بدأت حملتها المكثفة على أصحاب البسطات، باعتبارهم الحلقة الأضعف، بذريعة الحفاظ على جمالية المدينة ومنع التعدي على الأملاك العامة، هي نفسها أول المعتدين على هذه الأملاك، والمشرعنة لها!
فالتعدي على الأرصفة مشرعن من قبل المحافظة لمصلحة أصحاب بعض المطاعم والكافيهات المحظيين، لقاء فرض رسوم إشغال مقترنة بعدد الطاولات والكراسي والمساحة، حيث أصبحت بعض الأرصفة عبارة عن مساحات مضافة إلى هذه المطاعم على حساب حق المواطنين بها، ناهيك عن التعديات المسكوت عنها على الوجائب، وخاصة تلك التي تشغلها بعض المولات الكبيرة في العاصمة، والتعدي على الأرصفة والاستئثار بالشوارع من قبل أصحاب مكاتب السيارات المنتشرة داخل العاصمة!
والتعدي الأكبر من قبل المحافظة هو شرعنة منح مساحات داخل الحدائق العامة لإقامة منشآت إطعام وكافتيريات بداخلها لبعض المستثمرين المحظيين على حساب حقوق المواطنين بالحدائق العامة كمتنفَّسات تتقلص يوماً بعد آخر على أيدي المحافظة!
مع العلم أن هذه التعديات المشرعنة من قبل المحافظة لا تقل سوءاً بنتائجها على المستوى الجمالي للمدينة بشوارعها وأرصفتها وحدائقها، وعلى مستوى التشوه البصري والسمعي أيضاً!
لكن الحملات التي تنفذها المحافظة اقتصرت على أصحاب البسطات من المفقرين فقط، بينما تركت كل التعديات الأخرى الخاصة بالمترفين والمحظيين!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1178