النهج التفريطي الرسمي يطال القطاع الصحي العام هذه المرة!
يقف غالبية المواطنين اليوم على مشارف كارثة حقيقية قادمة، فبعد الإصرار الحكومي على المضي قدماً بسياسات الإفقار، وبنهج إضعاف القطاع العام وتقويض الإنتاج، من خلال تخفيض الإنفاق العام ورفع الدعم تدريجياً عن العديد من المواد والسلع والخدمات الأساسية، سيراً نحو إنهائه كلياً، مع تكريس تراجع دور الدولة عن الكثير من مهامها المفترضة والتفريط بها، وعلى الرغم من النتائج الكارثية لذلك على المستويات كافة، إلا أن القادم لا يشي إلا بالأسوأ!
فها هي صافرة الخطر من موجة جديدة من تخفيض الدعم والخصخصة المبطنة تدوي مجدداً، والضحية هذه المرة بالقطاع الصحي العام، وخدماته العامة المجانية افتراضاً!
توجه رسمي واضح!
ورد على الموقع الرسمي للحكومة بتاريخ 18/3/2024 ما يلي: «تحت عنوان (الاستثمار في القطاع الصحي، الإمكانات والغايات...)، نظمت جامعة دمشق اليوم ندوة حوارية بمشاركة ممثلين عن الكليات والوزارات المختصة، بهدف تبادل الأفكار والآراء من أجل الوصول إلى توصيات ومقترحات تسهم برسم خطة طريق لمشروع الاستثمار في هذا المجال. وناقش المشاركون في الندوة محاور شملت الدور الحكومي المستقبلي وآليات تنفيذه، والتشاركية بين القطاعين العام والخاص في إدارة المنشآت الطبية... وتقييم واقع الخدمة الطبية المجانية وتعزيز دور المؤسسات التأمينية الصحية والاستثمار الجيد والموجه لرأس المال البشري».
وقد شكّلت تصريحات وزير الصحة الصادمة في الندوة الحوارية أعلاه إعلاناً رسمياً عن التوجه الحكومي باستكمال التفريط بالقطاع الصحي العام، ليصبح بعهدة الاستثمار الخاص، مع ترك رقاب المفقرين تحت رحمة الناهبين والفاسدين!
حيث بيّن الوزير بحسب الموقع الحكومي أن: «وزارة الصحة بدأت بتنفيذ الكثير من الأمور المطروحة في الندوة، منها العمل على تحويل المشافي جميعها إلى هيئات عامة ومستقلة لها خصوصيتها الإدارية والمالية... والتأكيد على أن الخدمة الطبية المجانية بالمطلق بمكان معين واجب، ولكن أيضاً لها الكثير من المساوئ، انطلاقاً من أن الخدمة المجانية يجب أن يستحقها من يستحقها، وضرورة تعديل بعض التشريعات الأساسية التي لها علاقة بهذا الموضوع».
ونقلت صحيفة الوطن بتاريخ 18/3/2024 عن وزير الصحة قوله عن الخدمات المجانية خلال الندوة أيضاً: «لها العديد من السلبيات ويمكن أن تستغل من المقتدرين على تلقي الخدمة بشكل مدفوع جزئياً أو في القطاع الخاص، إلا أنهم يفضلون الحصول على الخدمة المجانية وبالتالي يأخذون دور وفرصة من يستحق الخدمة المجانية» مشيراً إلى تكاليفها الباهظة على الدولة.
وأشار الوزير بحسب الصحيفة إلى أن: «الوزارة لا تهدف من خلال التشاركية مع القطاع الخاص إلى بيع القطاع العام أو إلغاء الخدمات المجانية بالمطلق، إنما توجيه الدعم والخدمات المجانية إلى مستحقيها ولا يعني تمليك القطاع الخاص لأي جزء من المشفى، مضيفاً: إنما نهدف إلى تشاركية ضمن شروط وضوابط تضعها الوزارة لمدة محددة وفق آلية معينة ويبقى القطاع العام هو المشرف والمراقب وذلك ليس انتقاصاً من القطاع الخاص».
الندوة بعنوانها الاستثماري ومحاورها وضحت التوجه الرسمي نحو الخصخصة المبطنة للقطاع العام الصحي عبر التشاركية مع القطاع الخاص، مع نوايا واضحة لعزم الحكومة على استكمال إجراءات تخفيض الدعم على هذا القطاع، وتحديداً على مستوى الخدمات المجانية، مستخدمة العبارة المستهلكة نفسها تبريراً لهذا الإجراء على لسان الوزير، وهي: «توجيه الدعم والخدمات المجانية إلى مستحقيها»!
فجوهر الطروحات أعلاه هو تعزيز لتكريس انسحاب الدولة من مهامها وواجباتها وأدوارها المفترضة، مع تخلٍّ إضافي عن هذه المهام لمصلحة القطاع الاستثماري الريعي، وهذه المرة على حساب القطاع الصحي العام وصحة المفقرين!
وربما لا يهم بهذا الصدد التأكيد الرسمي على عدم التخلي عن الملكية حالياً، طالما النتيجة واحدة وهي التكسب من هذا القطاع الحيوي والهام!
استكمال الجوقة!
قال نقيب الأطباء، الدكتور غسان فندي لبرنامج «المختار» عبر إذاعة المدينة إف إم بتاريخ 13/5/2024: «يعيب المشافي العامة، ولا سيما الأقسام المجانية، سرعة وصول المقتدرين وأصحاب العلاقات أكثر من المرضى الذين يفتقدون هذه الميزات، رغم التأكيد أن القسم الأكبر من خدمات هذه المشافي تذهب إلى الأشخاص الأكثر حاجةً».
وتابع النقيب: «هناك دراسة بدأت منذ شهر تتجه نحو تحديد بعض الأسعار ليس بهدف الربح وإنما تخفيف خسارة هذه الهيئات، وذلك ضمن الأقسام المدفوعة منها، مع ضمان أن تبقى التسعيرات أقل من تكاليف الخدمة المُقدمة في سبيل استمرار تقديم الخدمات وتحسين جودتها».
وعندما سُئل عن موضوع رفع الدعم عن القطاع الصحي أجاب بالآتي: «لا يوجد طب مجاني على مستوى العالم بل هناك جهات تمول هذا الأمر سواء حكومية أو جمعيات خيرية، والتوجه اليوم هو في البحث عن الفئة الأكثر حاجة لهذا الدعم وتوجيهه إليهم، وما تبقى من فئات يدفعون بحسب إمكانياتهم بشكل شخصي أو عبر النقابات وغيرها».
حديث نقيب الأطباء أعلاه يساير التوجهات الرسمية أعلاه حيال القطاع العام الصحي، على مستوى الدعم والخدمات المجانية، وعلى مستوى المقابل المادي للخدمات، وعلى مستوى الخصخصة المبطنة!
فهل معالجة مشكلة وصول «المقتدرين» للخدمات المجانية تكون من خلال المزيد من إجراءات تخفيض الدعم سيراً نحو إنهائه، أم بمعالجة جذور المشكلة الكامنة بانتشار المحسوبيات وتفشي الوساطة واستشراء الفساد؟
وهل سيتم تزويد المواطن المستحق «غير المقتدر» ببطاقات ذكية جديدة فريدة من نوعها، تتيح له دخول المشافي العامة مجاناً أو بتكاليف رمزية؟
وما هو المقياس لتصنيف «المقتدرين» هذه المرة، هذه المفردة الفضفاضة المبهمة التي سبق أن دفعنا ضريبة ظلمها عبر آليات إنهاء الدعم «لغير المستحقين»، على الخبز والغاز المنزلي ومازوت التدفئة والسكر والرز؟
أم إن النوايا الرسمية التعسفية غايتها إيصال الخدمات الصحية عبر المشافي العامة لاحقاً إلى فئة ضيقة جداً، من المقتدرين والقادرين والواصلين، بما يتماشى مع مصالح الاستثمار الخاص وتضخيم أرباحه، بينما سيفرض على المفقرين لاحقاً استجداء التداوي والعلاج والاستشفاء من الجهات الممولة؟!
المقدمات المبيتة الباردة والنتائج الكاوية!
الطروحات التفريطية أعلاه هي نتيجة لمقدمات سبق أن تم العمل عليها رسمياً خلال السنين الماضية!
فالقطاع الصحي العام وضعه من سيئ إلى أسوأ، إمكانات محدودة وكوادر قليلة، ومستلزمات مسقوفة، وخدمات متراجعة، كواقع كارثي أورثته الحكومة لمواطنيها، تزامناً مع قرعها طبول الانسحاب من الأدوار المفترضة للدولة على هذا المستوى وفي هذا القطاع!
فبعد أن أُهملت المستشفيات العامة وتراجع دورها مع الوقت، وانحصرت خدماتها في العمليات الجراحية الإسعافية والباردة، وبعض خدمات التصوير الشعاعي والتحليل المخبري، وذلك بسبب سياسات تخفيض الإنفاق العام وتراجع الدعم الحكومي على هذا القطاع الهام في توفير المعدّات الطبية والأدوية المجانية والأجور العادلة والمجزية للكوادر الطبية، مما تسبّب في أزمة حادّة انعكست بشكل سلبي على الخدمات الطبية المقدمة للمرضى والمراجعين من ناحية، ومن ناحية أخرى على الكوادر الطبية والتمريضية وصولاً إلى تطفيشها، أتت النتيجة بالتوجه التفريطي الذي طبخ على نار البرود الرسمي بكل هدوء، مع غض الطرف عن انعكاساته الكاوية على المرضى المفقرين، بالتزامن مع تردي المستوى المعيشي للغالبية المفقرة!
فالخدمات الطبية التي كانت تقدَّم للمواطنين في المشافي العامة بشكل مجاني أو شبه مجاني لن تعود كذلك وفقاً للتوجه أعلاه، أي إن العديد من الأسر المعدمة ستفقد حقها بالحصول على طبابة شبه مجانية وضمن الحدود الدنيا في القريب العاجل على ما يبدو، بانتظار التشريعات التي سيتم تعديلها بما يتناسب مع وضع هذا التوجه بالتنفيذ، وطبعاً بما يحقق مصلحة مستثمري القطاع الخاص!
أخطار تتعدى التضحية بصحة المفقرين!
مروحة التوجه التفريطي الرسمي المزمع واسعة جداً، فهي لا شك ستطال المشافي التابعة لوزارة الصحة، وكذلك المشافي التابعة لوزارة التعليم العالي، وربما المستوصفات والمراكز الصحية الأخرى التابعة للوزارتين أيضاً على طول البلاد وعرضها، وبشكل انتقائي طبعاً بما يتناسب مع حجم العائد الاستثماري من كل منها لمصلحة البعض المحظي من المستثمرين!
فإعادة هيكلة الخدمات الصحية «المجانية افتراضاً» في القطاع الصحي العام، تحت عنوان التشاركية مع القطاع الخاص الاستثماري، أو إيصال الدعم لمستحقيه، من خلال الفرز الجديد بين مقتدر وغير مقتدر هذه المرة، وشرعنة ذلك بذريعة التكاليف المرتفعة وبعدم وجود طب مجاني، وغيرها من الذرائع، وصولاً إلى تعديل بعض التشريعات بما يضمن تنفيذ ذلك، ستؤدي حكماً إلى تقليص تلك الخدمات كماً ونوعاً، وإلى رفع أسعارها بحيث تصبح حكراً على من يملك المال، المقتدر عملياً، مقابل عجز من لا يملك المال عن تلقي الخدمات الصحية، غير المقتدر فعلاً، أي الدفع بالمفقرين إلى جحيم الأمراض، وصولاً إلى الفتك بصحتهم والتضحية بها وبهم!
فالحكومة ماضية بتصدير موبقات سياساتها لتجيرها على حساب المفقرين كما درجت العادة، ومن خلال التخلي عن جزء إضافي من مهام الدولة الأساسية على المستوى الاجتماعي!
وفي ظل الوضع الراهن فإن هذا النهج لن يشكل خطراً على المستوى الصحي للغالبية المفقرة وعلى حياتهم فقط، بل ربما على مستوى تهديد عوامل الأمن الاقتصادي والاجتماعي أيضاً!
فإنهاء الدعم عن القطاع الصحي العام، وصولاً إلى زيادة أجور خدماته وتكريس الفرز الطبقي فيها، لا ينعكس سلباً على صحة المواطنين المفقرين فقط، بل على القطاعات والفعاليات الاقتصادية والخدمية كافة في البلاد، وكذلك على الكثير من الظواهر والآفات الاجتماعية السلبية التي ستتفاقم وتتعمق أكثر فأكثر!
فهل من عسف وظلم وتفريط أكبر من ذلك؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1176