الفقر يتغلغل في جلودنا... وندوبنا تصِمنا بالعار!
يدخل «سمير» إلى الصيدلية، يتنحنح بينما يفكر ملياً بإيجاد الكلمات المناسبة التي سيخاطب بها الصيدلاني، يهمس بصوت منخفض: «بدي دوا للجرب!».
لم يكن سمير وحده «جربان» كما يخجل أن يقول، بحسب الصيدلاني، فمثله الكثيرون لم يكونوا محظوظين بحمام ساخن أو مياه نظيفة منذ أيام طويلة، وبالتأكيد ليس وحده من يعاني من أمراض عديدة سبّبها الفقر وفاقمها الجوع!
حرفياً.. الفقر يتغلغل في جلودنا!
تبين طبيبة الأمراض الجلدية، د. صفاء خزام، أنها تشخّص بشكل متزايد حالات «عث الجرب»، الذي أكلنا حرفياً، فهو مرض تحدثه طفيليات تخترق الجلد وتضع بيضها فيه لتتكاثر!
يسبب الجرب حكة شديدة وسحجات وطفحاً، وقد يعاني المريض من نزيف ناجم عن خدش الجلد، لكن أسوأ أعراضه، بحسب وصف المرضى، الحكة الليلية التي تمنع المريض من النوم. وعادةً ما يتسبب هذا المرض بحرج للمصاب به، ولا سيّما مع ما يشاع عن ارتباطه بقلة النظافة الشخصية!
تقول د. خزام في حديثها لـ «قاسيون»: (لا يخلو يومي من معاينة العديد من المرضى المصابين بالجرب، وألاحظ ارتفاعاً واضحاً في أعداد المصابين بالتزامن مع تدهور الظروف المعيشية في المجتمع).
نتشارك مأساتنا وأمراضنا!
عرّفت منظمة الصحة العالمية الجرب واحداً من الأمراض المرتبطة بشكل وثيق مع تدني الوضع المعيشي مجتمعياً!
وتوضح د. خزام أن تدهور الوضع المعيشي، الذي يطغى على المجتمع السوري، يعد أحد العوامل الرئيسة لضعف صحة الأفراد بسبب الافتقار إلى مستوى معيشة لائق، وعلى وجه الخصوص تتعدد أسباب الإصابة بالجرب وانتشاره في معظم البيئات السورية، بدءاً من الجوع، الذي تسببه قلة الوارد الغذائي، وتأثيره على إضعاف المناعة في أجسادنا!
فالفقر أحد الأسباب الرئيسة لتفشي المرض، فالعائلة التي لا تمتلك القدرة على تأمين ملابس وأدوات شخصية لكل فرد تعمد إلى مشاركتها، وعدم توفر القدرة على تدفئة المنزل أيضاً، يدفع بأفراد الأسرة إلى التشارك في الأسرّة والأغطية والوسائد في محاولة لنيل بعض الدفء، ما يسبب تفشي العدوى لدى كل أفراد العائلة!
فتدني الدخل والفقر يعتبر عاملاً مهماً في انتشار الجرب، فتكلفة المعاينة للطبيب التخصّصي تبدأ من 30 ألف ليرة في الأرياف وأطراف المدن، وعدم القدرة على تأمين العلاج أيضاً - بسبب تكلفته - تحوّل المرض إلى مزمن وتزيد من صعوبة الشفاء!
التراجع والتردي الخدمي يلعب دوراً محورياً في تفشي المرض، كعدم توفر مياه نظيفة وساخنة، وعدم توفر شبكة صرف صحي سليمة، وعدم وجود نظام مدروس للتخلص من القمامة والنفايات المتراكمة لترحيلها دورياً، ولا سيّما في الأرياف، بالإضافة إلى تراجع القطاع الصحي، ليضاف إلى كل ما سبق عدم الإحاطة بأساسيات النظافة الشخصية، والجهل بها، ولا ننسى عامل الاكتظاظ السكاني في بعض المناطق التي استقطبت موجات النزوح خلال سني الحرب وبسببها، وكذلك الاكتظاظ المدرسي في الشعب الصفية!
الفقر يدفع إلى علاجات تقليدية تزيد الوضع سوءاً!
تُبيِّنُ د. خزام أن العديد من المرضى يفضلون التوجه إلى العلاجات المنزلية والبحث عبر الإنترنت أو إلى وصفات شعبية تقدمها محلات العطارة، بسبب عدم قدرتهم على دفع أجرة معاينة الطبيب المتخصص، أو عدم قدرتهم على تحمل تكلفة الدواء، الذي يؤكد العديد من المرضى محدودية فعاليته!
ويعمد البعض إلى تطبيق مواد مختلفة للعلاج، كالخل الأبيض الذي غالباً ما يزيد الوضع سوءاً، فهو يعزز أي عدوى بكتيرية ثانوية، أو قد يسبب الإصابة بالأكزيما، ويسبب للمريض حكة شديدة تليها خدوش تسبب نزيفاً!
الرؤوس لم تسلم أيضاً!
احتفاظنا برؤوسنا أعلى أكتافنا لا يعني أنها بخير، وهنا لا نتحدث عن الأمراض العقلية والنفسية، التي سَبَبُها سياسات الإفقار والتجويع الممنهج، والإهمال الحكومي المتعمد لكل ما يحدث حولنا من كوارث فقط، بل نتحدث عن التأثيرات التي طالت الشعر وفروته أيضاً!
تقول أخصائية الأمراض الجلدية إنها تلاحظ انتشاراً واسعاً لحالات الإصابة بقمل الرأس، مشيرةً إلى أن أبرز أسباب تفشيه هو إهمال النظافة الشخصية، والتي غالباً ما يكون سببها عدم توفر ظروف مناسبة لأساسيات النظافة الشخصية، وخاصة الخدمات العامة، كغياب الكهرباء والمياه الساخنة، وغلاء مستحضرات التنظيف وأدوية العلاج!
تقول د. خزام إن لتدني الوارد الغذائي، وعدم الحصول على كم كافٍ من البروتينات والفيتامينات والمعادن التي يحتاجها الفرد، آثاراً سلبيةً واسعة!
فيلاحظ ازدياد في أعداد المرضى الذين يعانون من حالات تساقط شعر، متوسطة إلى شديدة، بسبب عدم الحصول على كفايتهم من الأغذية الداعمة أو الفيتامينات المكملة!
وتتابع: (يمكن أيضاً أن يؤدي التوتر والضغط النفسي الشديد الذي نعيشه يومياً إلى شيب الشعر قبل الأوان، عن طريق التأثير على الخلايا الجذعية المسؤولة عن تجديد صبغة الشعر)!
ندب العار!
تؤكد د. خزام أن التأثير النفسي للأمراض الجلدية غير مرئي، لكن آثاره دائمة وترافق المريض مدى الحياة، بدءاً من الإيحاء الدوني اجتماعياً والذي تحمله أمراض كالجرب والقمل، والتي عادةً ما تدفع المريض إلى العزلة وعدم الرغبة في الخروج من منزله.
تشير الطبيبة إلى أن الجرب مثلاً لا يترك ندبات دائمة إلا في حال تعرض المنطقة المصابة للخدوش والعدوى، لكن بطبيعة الحال تبقى ندبة العار التي ترافق كلمة «جربان» داخل المريض دائماً، خصوصاً عند الأطفال!
يزيد الأمر سوءاً عدم وجود وعي اجتماعي - لغياب دور الجهات الصحية التوعوية - لخصوصية هذه الأمراض وضرورة التعامل معها كأي مرض آخر يمكن أن يصيب المرء!
فالأمراض الجلدية ليست أمراضاً مميتة، لكنها تترك ندوباً لا تمحى في أعماقنا، ندوباً لا تقتصر على عارٍ تحمله كلمة «جربان» أو «مقمّل»، بل ندوباً تمثل رغبةً وأفعالاً موجهة لتكرّس شعورنا بالدونية واستحقاقنا للخزي والعار، وسعياً إلى أن تكون أمراضنا مخجلةً تشبه واقعنا، فنجابهها بالصمت على استحياء، حتى تصبح مزمنة وعصية على العلاج!
الحكومة وسياساتها الظالمة!
فلنعتذر - نحن الذين شارفنا على الموت - من الحكومة ومجتمعها المخملي الذي تمثله بسبب مناظرنا المزرية، وأشكالنا التي تعكر مشاهد صباحاتهم، في حال كنا مرئيين بالنسبة إليهم أصلاً!
فالجوع الذي تسببت به سياساتها الظالمة والمجحفة قد ترك شحوبه على وجوهنا، والفقر قد تغلغل في جلودنا، أما ندوبنا؛ فوصمَتنا بمزيد من العار بسببها!
فمع كل مطلع شمس، نغادر بيوتنا الفقيرة الخاوية من كل ما يسد الرمق، نحمل همومنا باشمئزاز، كمن يحمل أكداساً من القاذورات، ننضح بروائح العرق والملابس غير المغسولة التي أكلها العث... وأكلنا أيضاً!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1163