القرارات الحكومية لمصلحة من؟ أرباح تصدير زيت الزيتون 22 مليون دولار فقط لا غير!
هل الإنتاج الوفير من زيت الزيتون هو الذي دفع الحكومة لفتح باب تصديره بعد إغلاقه؟
وهل قرار التصدير لصالح الفلاح أم المستهلك أم التاجر؟
وهل أصبحت القرارات الحكومية أداة دائمة لتمرير مصالح السماسرة والتجار فقط؟
تساؤلات كثيرة تطرحها التناقضات الشكلية الكبيرة في القرارات الحكومية بهذا الشأن!
بعد موافقة مجلس الوزراء بتاريخ 23 آب 2023 على توصية اللجنة الاقتصادية، المتضمنة تكليف وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية بإصدار القرار اللازم لإيقاف تصدير مادة زيت الزيتون، اعتباراً من 1 أيلول 2023، تراجعت الحكومة عن قرارها في 6 كانون الأول 2023، أي بعد شهرين فقط على وضع القرار السابق حيز التنفيذ، لتسمح بتصدير زيت الزيتون بشروط!
فما سبب هذه التناقضات الشكلية؟
وأين مصلحة المواطن- مزارع أو مستهلك- من كل هذا؟
تبادل تهم وتخبط بالقرارات!
تبدأ الحكاية بتاريخ 23 آب 2023 حيث وافق رئيس مجلس الوزراء حسين عرنوس على توصية اللجنة الاقتصادية المتضمنة تكليف وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية بإصدار القرار اللازم لإيقاف تصدير مادة زيت الزيتون، اعتباراً من 1/9/2023.
وجاء هذا القرار «في سياق الإجراءات المتخذة لتلبية احتياجات السوق المحلي من مادة زيت الزيتون بأسعار مناسبة، ونتيجة دراسة واقع الإنتاج والكميات المتوقع إنتاجها مقارنة مع الاحتياج الفعلي»، كما جاء في القرار!
وحسب ما أوضحت مديرة مكتب الزيتون في وزارة الزراعة، عبير جوهر لصحيفة الوطن حينها: «شرحنا لرئاسة مجلس الوزراء حول كميات زيت الزيتون المقدر إنتاجها وكفايتها للاستهلاك المحلي فقط فأوقف التصدير».
ليبدو أن قرار وقف التصدير كانت غايته تلبية احتياجات السوق المحلية بأسعار مناسبة!
بينما واقع الحال يقول: إن الاحتياجات المحلية لم يتم تأمينها، والسبب الرئيسي بذلك هو الارتفاع الجنوني لسعر زيت الزيتون في الأسواق!
فبعد شهرين فقط على إيقاف التصدير كثرت خلالها الأقاويل وتبادلت فيها وزارة الاقتصاد واتحاد الفلاحين التهم حول رفع مقترح للتصدير، ومما أوردناه حينها في مادة بتاريخ 12/11/2023 تحت عنوان: «زيت الزيتون ما بين القيل والقال.. الحكومة تصرح واتحاد الفلاحين يكذب»: «أكد رئيس اتحاد الفلاحين في سورية أحمد صالح إبراهيم، بأنه لم يتم رفع أي مقترح على الإطلاق سواء للجنة الاقتصادية أو لوزارة الاقتصاد لفتح باب تصدير زيت الزيتون، وأن ما يتم تداوله حول هذا الموضوع مجرد أحاديث وإشاعات تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي..».
فبتاريخ 6 كانون الأول من العام نفسه، وافق رئيس مجلس الوزراء حسين عرنوس على توصية اللجنة الاقتصادية بالسماح بتصدير مادة زيت الزيتون المفلترة والمعبأة بعبوات لا تزيد عن حجم (5) لتر أو كغ وبكمية لا تزيد عن /5000/ طن، على أن يعاد النظر بزيادة هذه الكميات وفق تطورات سعر وكمية المادة في السوق المحلية.
وحسب ما نشرته صحيفة الوطن بتاريخ 7/1/2024، عن لسان وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية محمد سامر الخليل، الذي أوضح: «آلية السماح بتصدير مادة زيت الزيتون المفلترة والمعبأة في عبوات لا تزيد عن حجم خمسة لترات أو كيلو غرامات وبكمية لا تزيد على 5000 طن، حيث يسمح لكل الراغبين بتصدير زيت الزيتون بالتقدم بطلبات يومية إلى مديريات الاقتصاد والتجارة الخارجية في المحافظات، بحيث يكون سقف طلب المصدّر 25 طناً فقط، على أن ترفع الطلبات اليومية في المحافظات إلى مديرية التجارة الخارجية لمنح الموافقات وتجميع الكميات الموافق عليها».
كما وأشارت الوزارة في الآلية التي أصدرتها، إلى أن «عملية التصدير يجب أن تتم خلال مدة 15 يوماً من تاريخ الموافقة التي تمنحها مديرية التجارة الخارجية، على ألّا يتم منح موافقة تصدير جديدة، إلا بعد قيام المصدر الحاصل على موافقة سابقة بتقديم كتاب من الأمانة الجمركية المعنية بقيامه بعملية التصدير بشكل فعلي.»
وقد بين رئيس الاتحاد العام للفلاحين، أحمد إبراهيم لصحيفة الوطن بأنه: «ليس مع قرار السماح بتصدير مادة زيت الزيتون في هذا التوقيت بالذات، وذلك بالتوازي مع قلة إنتاج المادة لهذا العام، لافتاً إلى أنه لم يتم التشاور ومناقشة اتحاد الفلاحين بموضوع السماح بتصدير المادة بالمطلق، وأكد أنه لا يعلم إن كانت هناك مبررات للحكومة للسماح بتصدير المادة بعد إيقاف تصديرها، وهل سيتم تصديرها مقابل استيراد مواد زراعية أخرى، أو الحصول على القطع الأجنبي؟ موضحاً، أن المشكلة هذا العام أن الإنتاج قليل جداً، والفلاح يعتبر منتجاً ومستهلكاً في الوقت نفسه لمادة زيت الزيتون، وفي ظل ضعف القوة الشرائية، فإن المستهلك سيتضرر حتماً من القرار».
فماهي الأسس التي اعتمدت عليها الحكومة عند إصدار كلا القرارين بتناقضهما الشكلي، ولمصلحة من؟
ومن المتضرر الأكبر من كل هذه القرارات، سواء ما بدا إيجابياً منها أو ما بدا سلبياً؟
خاصة، وأن إنتاج الزيتون هذا العام أقل بنحو 28% مقارنة مع العام الماضي، بحسب تصريح مديرة مكتب الزيتون في وزارة الزراعة، نتيجة ظاهرة المعاومة، أي التبدل في المواسم بين موسم وفير يليه آخر أقل وفرة!
الإجابة عن التساؤلات أعلاه، بيّنها رئيس جمعية حماية المستهلك عبد العزيز المعقالي بقوله: «إن المستفيد الأول من قرار السماح بتصدير المادة هو التاجر فقط، وليس الفلاح، ولا أصحاب المعاصر، والمتضرر الأكبر منه هو المستهلك، مطالباً بدراسة حاجة السوق من المادة قبل صدور القرار وتصدير الفائض في حال وجود فائض، وليس السماح بتصدير مادة لا تغطي الحاجة في ظل قلة الإنتاج لهذا العام»!
تداعيات وإيضاحات تكشف نوايا المفسدين!
القرار الحكومي السابق، المتمثل بإيقاف تصدير زيت الزيتون بغية ضبط سعره في الأسواق المحلية، لم يكن كافياً للحد من ارتفاع سعر المادة عملياً، حيث لاحظنا عدم تأثر الأسواق بالقرار، خاصة في ظل استمرار عمليات تهريب المادة، والتي تزايدت مع وقف التصدير، إضافة لضغط التجار المتحكمين على المزارعين، بغاية تخفيض سعر الشراء تحت ذريعة إيقاف التصدير، ووضع الأسواق المحلية المزري بسبب تراجع معدلات الاستهلاك!
فمن جهته، اعتبر رئيس مكتب الشؤون الزراعية في الاتحاد العام للفلاحين محمد الخليف، بتصريح لصحيفة الوطن بتاريخ 7/1/2024 أن: «القرار لم يكن صائباً، باعتباره أدى إلى رفع سعر صفيحة الزيتون في السوق مباشرة بعد السماح بالتصدير، موضحاً بأن سعر صفيحة الزيت سعة 16 كيلو وصل في السوق اليوم لحدود 1,8 مليون ليرة، مشيراً إلى أنه من المفترض أن تتم دعوتنا لحضور اجتماعات كهذه، باعتبار أننا ممثلون في كل اللجان». كما وأكد في التصريح: أن «التاجر هو المستفيد الأكبر من قرار السماح بالتصدير»!
أي ببساطة، ما حصل هو استغلال التجار وحيتان السوق لقرار وقف التصدير، مع التهويل به وبتداعياته، من خلال شراء الزيت من الفلاح والمعاصر بأسعار منخفضة استغلالاً، لتخزينها بكميات كبيرة في مستودعاتهم، والتحكم بسعرها في السوق، بانتظار صدور قرار التصدير!
لمصلحة فئة بعينها!
بحسب تصريح آخر لمديرة مكتب الزيتون في وزارة الزراعة عبير جوهر، أوضحت فيه أن: «مقترح السماح بتصدير زيت الزيتون لم يكن مقدماً من وزارة الزراعة، وإنما جاءت هذه التوصية استناداً للاجتماعات المنعقدة مع مجلس الأعمال السوري الصيني، واتحاد غرف الصناعة السورية، واتحاد غرف التجارة السورية، ووزارة الخارجية والمغتربين، لتحديد المواد القابلة للتصدير، واقتراح السماح بتصدير مادة زيت الزيتون إلى الصين بعبوات صغيرة، وبناء على طلبات الشركات المنتجة لعبوات مادة زيت الزيتون لإعادة النظر بقرار منع تصدير زيت الزيتون والسماح بتصديره بعبوات وكميات محددة، كون منع تصدير زيت الزيتون يؤدي إلى خسارة الأسواق الخارجية، وفقدان أحد أكبر موارد القطع الأجنبي»!
وقد صدر القرار وآلية تنفيذه، وفتح باب التصدير ضمن شروط تعبئة محددة، وبوزن معين، وكمية مسقوفة الآن قد تفتح لاحقاً لكمية اضافية!
أي، إن القرار بشكله الحالي ينطبق على مصدرين بعينهم، يمتلكون إمكانية تنفيذ شروط التعبئة دون سواهم، ووفق الآلية التي حددتها وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية!
أما الغريب هنا، فهو الكمية المحددة والمقدرة بـ 5 آلاف طن، وتأثيرها الضئيل على مستوى الأسواق الخارجية التي تم التذرع بعدم خسارتها، أو بفقدان مواردها من القطع!
وربما لا غرابة في ذلك، فمن المعروف أن هناك محظيين تصدر القرارات لمصلحتهم، إن لم يكونوا هم خلف القرارات بشكل مباشر!
فالإفادة بالنسبة لشريحة التجار لن تقتصر على أرباح عائدات التصدير، أو التهريب الدولارية فقط، بل الأهم، هي الفائدة من خلال زيادة سعر المادة في السوق المحلي، بعد أن استحوذوا على كميات كبيرة منها، وخزنوها في مستودعاتهم!
ليتبين بالنتيجة، أن سيناريو منع التصدير ثم السماح به عبارة عن مسرحية أبطالها بعض المحظيين من التجار، وضحاياها الفلاح المفقر والمواطن المعدم، ومخرجها الحكومة!
أما الأكثر اضحاكاً بكل ما سبق أعلاه، فهو اقتراح السماح بتصدير مادة زيت الزيتون إلى الصين بعبوات صغيرة، وبهذه الكمية المحدودة (5000) طن التي لا يمكن أن يتم الحديث عنها بأي شكل من الأشكال على مستوى المقارنة مع احتياجات هذا البلد العملاق، سكاناً واقتصاداً ومعدلات استهلاك، كفقرة كوميدية إضافية في السيناريو الذرائعي المرسوم!
حسبة بسيطة!
سعر طن الزيت عالمياً يتجاوز وسطياً حدود 9000 دولار الآن، وهو قابل للزيادة بسبب تراجع الإنتاج العالمي منه في بلدان الإنتاج الرئيسية المصدرة له، وخاصة إسبانيا، بحسب بعض البيانات الرسمية العالمية لهذا المنتج الزراعي، أي، إن كمية تصديرية قدرها 5000 طن من الإنتاج المحلي تبلغ قيمتها الإجمالية في أسواق التصدير ما يعادل 45 مليون دولار، ووفقاً للسعر الرسمي للدولار البالغ 13 ألف ليرة، فإن هذا المبلغ الدولاري يعادل 585 مليار ليرة!
سعر الطن محلياً، عندما بدأ التجار يستحوذون على كميات الإنتاج الكبيرة، من الفلاحين مباشرة أو من المعاصر، خلال فترة منع التصدير وقبل قرار السماح به، لم يتجاوز 60 مليون ليرة، بواقع 60 ألف ليرة للكيلو، وبالتالي فإن قيمة 5 آلاف طن مسقوفة حالياً للتصدير تصل إلى 300 مليار ليرة بحسابات المُصدر كتكلفة!
على ذلك، فإن الأرباح المحققة من تصدير كمية 5000 طن فقط تقارب 285 مليار ليرة فقط لا غير، وما يعادل 22 مليون دولار بحسب السعر الرسمي، والتي من الممكن أن تتزايد مع استمرار ارتفاعات الأسعار العالمية للزيت!
وبحال تم تقسيم كميات التصدير المسموحة بواقع 25 طناً فقط للمصدر الواحد بحسب التعليمات الرسمية، فإن أرباح هذا المُصدر «الصغير» لن تقل عن 110 آلاف دولار بصفقته المحدودة والسريعة ومضمونة الربح، ومجموع هؤلاء الصغار لن يتجاوز 200 مُصدر «مسكين» محظي على أبعد تقدير، علماً أن هذا العدد من المصدرين كسقف، ارتباطاً بالكمية المسموح تصديرها، فسح المجال لتقليصه رسمياً بحسب التعليمات أيضاً، شريطة إنهاء كل صفقة تصدير قبل الشروع بغيرها من قبل المُصدر نفسه!
فكم هي المبالغ المحققة كأرباح (دولارية) من الكميات المهربة التي تتجاوز الكمية التي تم السماح بتصديرها بكميات أكبر بكثير من خلال المهربين الكبار؟!
وكم هي الأرباح التي تم ضمانها من السوق المحلي لمصلحة كبار التجار الذين استحوذوا على كميات كبيرة من الإنتاج خلال الفترة القريبة الماضية، بذريعة التصدير وبسببه، حيث وصل سعر الكيلو في السوق إلى ما يتجاوز 100 ألف ليرة الآن، وهو قابل للزيادة خلال الفترة القريبة القادمة؟!
الكوميديا السوداء!
من الجلي، أن قرارات وقف تصدير زيت الزيتون ثم السماح بالتصدير لاحقاً، فُصلت وصُممت على مقاس بعض كبار التجار المحظيين (مصدرين ومهربين ومتحكمين بالسوق الداخلي) ممن لهم صلات نافذة وقوية، على حساب المزارعين والاحتياجات المحلية، وعلى حساب زيادة الأسعار على المستهلك، ولمصلحة كبار أصحاب الأرباح فقط لا غير!
فجميع ذرائع الحكومة ومبرراتها (تأمين احتياجات السوق المحلي- الأسعار المناسبة- الحفاظ على أسواق التصدير- العائدات الدولارية من التصدير) هي ذرائع واهية ومفضوحة كجزء من السيناريو المرسوم والمعد مسبقاً لهذه المسرحية الهزلية بالإخراج الرسمي، ولعل أكثر ما تستطيع فعله هو بث روح التهكم لدى السوريين، برغم واقعهم السوداوي المفروض عليهم من جملة السياسات الحكومية الظالمة، ومع الأسف، فإن «شر البلية ما يضحك»!
فقد دخل زيت الزيتون قائمة مقننات الاستهلاك الأسري بسبب قفزات سعره الجنونية خلال الأشهر القريبة الماضية، لتنخفض معدلات استهلاكه بشكل كبير وصولاً لوضعه في قائمة ممنوعات الاستهلاك الأسري لدى غالبية العائلات المفقرة، كحال الكثير من سلع الاستهلاك الغذائي، علماً أنه منتج محلي صرف، كان يكفي احتياجات الاستهلاك المحلي، مع فائض تصديري سنوي منه، لكن ارتفاع تكاليف إنتاجه، وتحكم التجار بها، وبأسعار تسويقه وبيعه، مع الكثير من الموبقات الرسمية وغير الرسمية التي أثرت على هذه المادة، جعلت منها سلعة بعيدة عن متناول المفقرين!
فهل من كوميديا سوداء بإخراج رسمي أكثر ظلماً وجوراً من ذلك؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1157