متحورات مستجدة.. وقطاع صحي متهالك.. وتباهٍ رسمي!
جملة من التحذيرات أطلقتها منظمة الصحة العالمية مع نهاية العام الحالي حول المتحور الجديد لفيروس كورونا”JN.1” ، مصنفة إياه بالمثير للاهتمام، فهو شديد العدوى وسريع الانتشار. وناشدت المنظمة المواطنين باتخاذ التدابير الوقائية اللازمة وعلى رأسها الكمامات الطبية. حيث أكد الخبراء أن هذا المتحور الجديد يحمل طفرات جينية يمكن أن تجعله أكثر قابلية للانتقال وأكثر كفاءة وسرعة، كما أن لديه القدرة على مراوغة جهاز المناعة.
علماً أن المتحور أعلاه هو أحد المتحورات الفرعية المنتشرة من فيروس كورونا، حيث سبق لمنظمة الصحة العالمية أن أعلنت عن رصد متحور باسم “EG.5” في شهر آب الماضي!
فماذا عن دور وزارة الصحة وفقاً لسياق تحذيرات منظمة الصحة العالمية أعلاه؟
وكيف هو واقع وحال القطاع الصحي، بعيداً عن المبالغات الرسمية في الإنجازات؟!
تقرير إعلامي لا يرقى إلى حدود التحذير!
لن نضخم أو نهول من مفاعيل المتحور الجديد أو المتحورات التي سبقته، لكن تجدر الإشارة إلى أن وزارة الصحة لم تعر موضوع هذا المتحور وتحذيرات منظمة الصحة العالمية أي اهتمام، بل ولم تنشرها من باب التوعية بالحد الأدنى!
فجل ما هناك أنها أوردت على صفحة مكتبها الإعلامي بتاريخ 21/12/2023 ما يلي: «من خلال الترصد والمتابعة عبر مخابر الصحة العامة لم يتم رصد ارتفاع كبير بحالات كوفيد 19 والمنحنى الوبائي في استقرار والحالات المؤكدة مخبرياً هي حالات بسيطة تلقت علاجها بالمنزل ولم يتم تسجيل أي حالة وفاة. فيما يخص حالات الإنفلونزا فهي ضمن الحدود الطبيعية كما يتم الترصد والتحري عن الحالات المشتبهة بالطرق المرجعية المعتمدة من قبل منظمة الصحة العالمية.. أبرز الأمراض/الفيروسات الأكثر انتشاراً في هذا الوقت من العام هي: الإنفلونزا- الفيروس المخلوي التنفسي- فيروس كورونا- الفيروسات الغدية- الالتهابات الرئوية- التهاب الجيوب.. أبرز الأعراض المشتركة للأمراض الأكثر انتشارا في هذا الوقت من العام هي: الحمى- الصداع- السعال الجاف- وهن عام- انسداد واحتقان الأنف- بحة الصوت».
وقد ختم التقرير، بعد عرض العوامل التي قد تسبب الإصابة، والإجراءات الوقائية، بما يلي: «تحرص وزارة الصحة كل الحرص على اتخاذ وتنفيذ كافة الإجراءات الوقائية والاحترازية في حال أي تغير بالمنحنى الوبائي لأي مرض كان، وزيادة الاستعدادات لتعزيز الاستجابة لأي مستجدات صحية مرتبطة بالأمراض السارية كما تحرص على متابعة كافة المستجدات والتطورات التي تتعلق بالترصد والتقصي الوبائي والتصدي لمكافحة الأمراض السارية وتطوراتها عالمياً».
الرهان على صحة المواطن ومناعته!
من الواضح أن فيروس كورونا، بمتحوراته المختلفة والمتزايدة، أصبح كغيره من الفيروسات الممرضة والمنتشرة خلال هذا الوقت من العام بحسب وزارة الصحة، وليس هناك من متغيرات بالمنحنيات الوبائية تستدعي زيادة الاحترازات!
لكن ما لم يتم ذكره حول المتحورات الجديدة أنها غير قابلة للكشف عبر فحص “PCR” الخاص بفيروس كورونا، وهو ما سبق أن أكده الدكتور نبوغ العوا- اختصاصي أمراض الأنف والأذن والحنجرة وجراحتها، والعميد السابق لكلية الطب- لإذاعة أرابيسك بتاريخ 10/12/2023 حول متحور”EG.5” قائلاً: «لا يوجد مسحة للتأكد من الإصابة بالفايروس لأن “PCR” المعتاد لا يكشف المتحور الجديد لكن نقوم بتشخيصه استناداً إلى الأعراض والتقارير التي تنشرها منظمة الصحة العالمية، وفي الوقت الحالي معظم حالات «الرشح والكريب» ليست إنفلونزا عادية إنما «كورونا» ونعالجه بأدوية غير اعتيادية حتى تؤثر في المتحور الجديد».
وعلى العكس مما ورد في التقرير الإعلامي أعلاه أيضاً فقد أكد الدكتور نبوغ العوا أنه: «توفي شخصان بمتحور “إي جي.5»، من فايروس كورونا الذي ظهر منذ شهرين، والوفيتان لأشخاص مدخنين أحدهما عمره 70 عاماً وآخر شاب مريض ربو».
وكذلك فقد سبق للدكتور العوا أن حذر بتاريخ 15/6/2023 عبر موقع أثر بقوله: «إن إصابات الطرق التنفسية التي انتشرت مؤخراً في سورية هي نتيجة الإصابة بفيروس مشتق من فيروس كوفيد 19. ونصح بالابتعاد عن الأماكن المزدحمة وارتداء الكمامة والبقاء في المنزل خلال فترة الإصابة للحد من انتشار العدوى لكون هذا النوع من الفيروسات ينتقل عبر الهواء من خلال عطاس أو سعال المصاب وهو سريع العدوى. وختم د. العوا كلامه مشدداً على ضرورة عدم إهمال أي أعراض للرشح أو السعال ومراجعة الطبيب فوراً».
فعلى الرغم من تحذيرات منظمة الصحة العالمية، ومما تم رصده عبر الأطباء الأخصائيين محلياً وتحذيراتهم، فإن وزارة الصحة لم تقم بأية إجراءات، سواء توعوية أو تدابير وقائية، مكتفية بالتقرير الإعلامي أعلاه فقط لا غير!
فعلى ماذا تراهن الجهات المعنية رسمياً تحديداً، على صحتنا ومناعتنا كمواطنين، أم على القطاع الصحي المتراجع والمترهل؟!
ألا يكفينا ما عانيناه في السابق عندما كانت ممرات مشفى المواساة بدمشق، كمثال عن واقع بقية المشافي العامة، تعج بالمرضى المنهكين الذين ينتظرون موت أحدهم لأخد مكانه على المنفسة، بكل أسف!
تباهي في غير مكانه!
مقابل ما سبق أعلاه طالعتنا صفحة الحكومة بتاريخ 25/12/2023 بعرض بانورامي للقطاع الصحي عن عام 2023، متضمناً بعض العناوين «كإنجازات» مسجلة خلال العام (المراكز والأقسام والشعب المفتتحة- الاستجابة لكارثة الزلزال- توفير الأدوية- الكشف المبكر عن الأمراض- التوعية والتلقيح)!
وعند قراءة العرض البانورامي المطول نجده بمعظمه عبارة عن جزء من الواجبات المفترضة بوزارة الصحة والحكومة ليس إلا، مع تسجيل المزيد من التراجع بالكثير من الواجبات والمهام بالواقع الفعلي!
فعلى سبيل المثال فإن الاستجابة لكارثة الزلزال من الناحية العملية تعتبر جزءاً من واجبات ومهام الحكومة المفترضة بكل وزاراتها وجهاتها التابعة، بالإضافة إلى المهام والواجبات المجتمعية والأهلية التي كان لها الأثر الإيجابي الكبير عند وقوع الكارثة، ورغم ذلك فقد كانت المهام والواجبات الرسمية بنتائجها دون المستوى المطلوب، فتداعياتها وآثارها ما زالت مستمرة حتى تاريخه، وكذلك فقد تم تسجيل الكثير من السلبيات فيها، وخاصة تلك المرتبطة بعوامل النهب والفساد!
وبحسب مقدمة العرض البانورامي الرسمي «تركزت جهود القطاع الصحي في سورية لهذا العام حول التوعية بأهمية وضرورة الكشف المبكر عن الأمراض، وذلك عبر إطلاق برامج وحملات متخصصة بذلك، إلى جانب تأهيل وافتتاح أقسام جديدة في عدد من المشافي والمراكز الصحية وتأمين أجهزة نوعية ومتطورة، إضافة إلى حملات التلقيح الوطنية والتوعية الصحية».
والسؤال عن أية حملات توعية يجري الحديث، والدليل عن متحورات فيروس كورونا، وتحذيرات منظمة الصحة العالمية أعلاه، مثال عن عدم القيام بهذه المهمة كحد أدني!
وبعيداً عن التباهي بالحديث عن تأهيل وافتتاح أقسام جديدة في عدد من المشافي والمراكز الصحية، تجدر الإشارة إلى أن معظم المراكز الصحية والمستوصفات متوقفة عن العمل جزئياً بسبب قلة الكادر الطبي وعدم توفر الأدوية الإسعافية اللازمة فيها!
فتحت عنوان توفير الأدوية «قامت الوزارة بتأمين شحنة أدوية نوعية لعلاج مرضى السرطان مقدمة من الحكومة الهندية»، أي إغاثات وإعانات، وكما يقال باللغة المحكية «شحدوا علينا»، فهل يعتبر التسول إنجازاً؟
فالمشافي العامة أصبحت توكل إلى المرضى وذويهم غالباً مهمة تأمين الأدوية من الصيدليات، بغض النظر عن نوعيتها وأهميتها، ومخابرها غالباً لا تؤمن كافة التحاليل المطلوبة للتشخيص، ما يضطر المريض لإجراء هذه التحاليل في المخابر الخاصة، بل وتأمين كل المستلزمات الطبية اللازمة للمريض داخل المشفى، بما في ذلك بعض مستلزمات الأعمال الجراحية!
شهادة رسمية من أهل الاختصاص!
على مبدأ «أهل مكة أدرى بشعابها» ننقل ما تحدث به الدكتور نادر عيد-أخصائي حديثي الولادة في مشفى الأطفال- لـصحيفة «الوطن» وضح فيه «آلية استجرار الأدوية من وزارة الصحة بالتنسيق مع المؤسسة العامة للتجارة الخارجية فارمكس، مع الالتزام بحصرية الطلب عن طريق فارمكس إضافة إلى الدعم من بعض الجمعيات التي تسعى إلى تأمين بعض المستلزمات الطبية مرتفعة الثمن والأدوية الإسعافية- عوضاً عن وزارة الصحة»!
وفي المقال نفسه لصحيفة الوطن بتاريخ 25/12/2023 أكدت بعض المصادر الطبية في المشفى أن «هناك نقصاً في الأدوية نتيجة الوضع الاقتصادي، وضعف الموازنة الموضوعة مقارنةً بالاحتياجات الطبية المطلوب توفيرها، وخاصةً الأدوية الإسعافية التي غالباً ما تكون مرتفعة الثمن، وأوضح المصدر أنه من غير المسموح للمشفى بالشراء المباشر للأدوية وهذا يعود إلى قرار الاستجرار المركزي للأدوية، وبيّن أن من لديه مريض في المشافي الحكومية يتحمل أعباء كبيرة وخاصة في توفير الأدوية الإسعافية التي غالباً ما تكون أسعارها بالملايين».
نقص في التجهيزات وإنجاز وحيد!
أما عن الأجهزة والتجهيزات والمستلزمات فحدّث بلا حرج عن واقع التردي والتراجع بهذه المهمة المفترضة بعهدة وزارة الصحة والحكومة!
فالتقصير الحكومي تعدى تأمين الأدوية ليشمل أيضاً عدم تصليح الأجهزة الطبية في المشافي الحكومية، حيث وبتاريخ 11/12/2023 أكد مقال عبر صحيفة «الوطن» «تعطل جهاز المرنان في مشفى الأطفال، إضافة إلى عدم وجود أجهزة مرنان في كل من مشفيي جراحة القلب والتوليد وأمراض النساء».
ولعل الإنجاز الوحيد الذي لم يتم ذكره في العرض البانورامي الصحي هو النشرات السعرية التي حملت زيادات على أسعار الأدوية خلال عام 2023، لثلاث مرات متتالية، وبنسبة 100٪ في كل منها تقريباً، أي بزيادة وقدرها 300%!
قطاع متهالك بفعل السياسات!
ما سبق من تكثيف عن واقع التراجع والترهل في القطاع الصحي، بما في ذلك التعامل الرسمي السلبي مع تحذيرات منظمة الصحة العالمية بما يخص متحورات كورونا، هي مؤشرات محدودة عن تهالكه وانهياره تباعاً!
فبدل سعي الجهات الرسمية للنهوض بهذا القطاع الهام تستمر السياسات الحكومية بزيادة المشكلات فيه وتفاقمها، بدءاً من سياسات تخفيض الإنفاق العام الجائرة والظالمة، مروراً بسياسات تطفيش ونبذ الكادر الطبي بسبب السياسات الأجرية بشكل رئيسي، وليس انتهاء بالاستعراضات الإعلامية المبالغ فيها كإنجازات، للتعمية عن حجم الترهل والتراجع فيه!
والنتيجة هي مزيد من التردي والتراجع في القطاع الصحي عموماً، والذي يدفع ضريبته الغالبية المفقرة بشكل خاص، على حساب تراجع صحتهم وزيادة أمراضهم وتدني مناعتهم، وعلى حساب عدادات أعمارهم، وكل ذلك بدفع مباشر من خلال جملة السياسات الرسمية المتبعة!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1155