المصرف المركزي.. انفصال عن الواقع أم تكريس له؟!
ورد في تقرير الأسواق اليومي الصادر عن مديرية الأبحاث الاقتصادية والإحصاءات العامة والتخطيط في مصرف سورية المركزي بتاريخ 21/12/2023 فقرة بعنوان: «التأثير المغاير للتضخم على ميزانيات الأسر»!
فقد اعتبر مصرف سورية المركزي في تقريره: أن «التضخم يؤثر على كل القطاعات والأسر، ويشمل مختلف القنوات الاقتصادية ومصادر الدخل المتنوعة، ولكن ليس بذات الطريقة للجميع، وتؤدي الاختلافات في تكوين الثروة أو الرواتب أو أنماط الاستهلاك إلى نتائج مختلفة تماماً بالنسبة للأفراد المختلفين أساساً».
الفقرة أعلاه، تظهر المركزي بحال من الحياد السلبي على أقل تقدير، وكأنه ليس جزءاً من أجهزة الحكومة ومنفذاً لسياساتها، وفي العمق، يُظهر المركزي نوعاً من القفز على الواقع، بتجاهله لدور السياسات الرسمية نفسها على مستوى تكوين الثروة وزيادتها، وعلى مستوى أنماط الاستهلاك ومعدلاتها، بتراجعها لدى الغالبية المفقرة من أصحاب الدخول المحدودة، مقابل زيادتها لدى القلة المحظية من أصحاب الأرباح الكبيرة، وبحيث تبدو مفردة «الاختلافات» في المضمون أعلاه تكريساً لكل موبقات هذه السياسات، بما في ذلك التضخم بنتائجه الكارثية التي يتم حصادها فقط من قبل المفقرين كشريحة منهوبة، بينما تستفيد منه شريحة الناهبين!
الورقة خاصة بإسبانيا!
الفقرة من التقرير أعلاه، هي مقدمة عامة لجزء من ورقة أُعدت بحسب المصرف المركزي لصالح بنك التسويات الدولية، بهدف إلقاء الضوء على القنوات المختلفة التي يؤثر التضخم خلالها على عدم المساواة في الثروة ضمن ميزانيات الأسر!
وقد أشار المركزي إلى أن الورقة تدرس ثلاث قنوات رئيسية تحدد عن طريقها كيفية تأثير التضخم على عدم المساواة في الثروة، وهي: قناة الثروة- قناة الدخل- قناة الاستهلاك، ولتقيس الورقة هذه القنوات خلال فترة ارتفاع التضخم لعام 2021 في إسبانيا!
وتبيّن، أن الطبيعة غير المتوقعة والتصور المؤقت لصدمة التضخم في هذه الفترة بالذات، يتوافق بشكل وثيق مع الافتراضات الكامنة في تحليلات الورقة، وأظهرت النتائج، أن قنوات الثروة والدخل أكبر بدرجة واحدة من قناة الاستهلاك ولم يتأثر الأفراد البالغون منتصف العمر تقريباً إلى حد كبير بالتضخم، باعتبار أنهم في العادة يتوجهون ليكونوا مقترضين اسميين بكفالة الرهون العقارية غالباً. كما بينت الورقة، أن كبار السن هم أكثر المعانين نتيجة التضخم الحاصل، حيث فقدت معاشاتهم التقاعدية وودائعهم ومدخراتهم النقدية قيمتها.
ما سبق، كان رؤية المصرف المركزي بما يخص تأثير التضخم على إسبانيا بحسب الورقة المعدة، مع العلم أن المفقرين وأصحاب الدخل المحدود والمتقاعدين متشابهون، من حيث التأثر كشريحة بالتضخم أكثر من غيرهم من الشرائح، بغض النظر عن مكان وجود هؤلاء!
فالنتيجة التي يستخلصها القارئ مما بين السطور أعلاه: أن التضخم يزيد من حدة عدم المساواة في توزيع الثروة، بالتالي، ينعكس سلباً على ميزانيات الأسر، وخاصة المفقرة!
فماذا عن وضع التضخم في سورية وتأثيره على مستوى الثروة وميزانيات الأسر فيها؟!
قفز على التفاوت والفرز الطبقي!
لم يغفل تقرير المركزي الوضع في سورية، فقد أورد فقرة خاصة عن سورية تقول التالي:
«في سورية تفاوت تأثير التضخم ومستويات الأسعار المرتفعة بين الأفراد والشركات والمؤسسات، إلا أن الجميع في سورية تأثر بذلك بشكل كبير، وإن كان بنسب متباينة، ولاسيما أصحاب الدخل المحدود (القائمين على رأس عملهم والمتقاعدين)، وأصحاب الإيداعات والمدخرات، فانخفضت القيم النقدية لأموالهم، وتعتبر قناة الدخل أكثر القنوات المتضررة في الاقتصاد السوري، باعتبار أن الدخل الحقيقي، وخاصة لشريحة العاملين، قد انخفض إلى مستويات متدنية على الرغم من الارتفاعات الاسمية عليه، وتليها قناة الاستهلاك، حيث ارتفعت أسعار السلع بمعدلات غير مسبوقة، وغير متجانسة، على إثر التضخم القائم وتوقعات التضخم المستقبلية، وتأثرت السلع الأساسية بدرجة كبيرة، مما جعل جميع الأفراد خاضعين لنتائج التضخم السلبية على مستوى هذه القناة، باعتبار أن سلل الاستهلاك متشابهة بنسبة كبيرة بين الأسر، مع وجود بعض المميزات المتعلقة بنمط كل أسرة والمتوسط العمري لأفرادها، فالأسر الشاملة على كبار السن والأطفال تعتبر أكثر معاناة نتيجة المرحلة الاقتصادية الراهنة، وكذلك ممن يعتبر أفرادها من أصحاب الدخل المحدود، مع عدم وجود مصدر آخر للدخل أو الثروة»!
ما سبق أعلاه، وعلى الرغم من خلوه من أية ارقام ومؤشرات، يؤكد ما قلناه أعلاه، حول تجاهل المركزي لدور السياسات الرسمية نفسها على مستوى تكوين الثروة وزيادتها، وعلى مستوى أنماط الاستهلاك ومعدلاتها!
فعلى الرغم من الاعتراف باعتبار قناة الدخل أكثر القنوات المتضررة في الاقتصاد السوري من التضخم، وخاصة أصحاب الدخل المحدود، لتتبعها في ذلك التضرر قناة الاستهلاك، لكن الحديث عن أن «سلل الاستهلاك متشابهة بنسبة كبيرة بين الأسر» فيه الكثير من القفز على الواقع، مع التجاهل الشديد لواقع الفرز الطبقي المستمر بالتعمق بسبب سياسات الإفقار، والذي لا تغلفه مفردة «تباين» الواردة في المتن، أو مفردة «المميزات» المعممة فيه!
فتعميق الفرز الطبقي يكرس الشذوذ بتوزيع الثروة غير العادل لمصلحة الناهبين الكبار، مروراً بتكبيد المفقرين والمنهوبين وحدهم كل الآثار السلبية للسياسات الظالمة المتبعة، وصولاً إلى تكريس انعدام وجود ميزانيات للأسر المفقرة نفسها!
أما الأكثر فجاجة، فهو الحديث عن «توقعات التضخم المستقبلية» في السياق أعلاه، والتي تعيد لتُظهر المصرف المركزي بموقع الحياد السلبي مجدداً، وكأنه لا علاقة له بالسياسات الرسمية المتبعة، ولا دور له على المستوى التنفيذي لها، وهذا ليس انفصالاً عن الواقع من كل بد، بل دور مرسوم ومنفذ بكل دقة!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1155