مسيرة الدمج تستكمل مهامها لتصفية ما تبقى من شركات منتجة في القطاع العام!

مسيرة الدمج تستكمل مهامها لتصفية ما تبقى من شركات منتجة في القطاع العام!

مازالت الحكومة تبدع في العزف على أوتار إعادة الهيكلة عبر آليات الدمج المقترحة من قبلها للمؤسسات والشركات العامة، مع غيرها من الآليات الأخرى التي لا تقل عنها سوءاً!

فمن عمليات الدمج المنجزة سابقاً، إلى اقتراح دمج بعض المصارف المطروح مؤخراً، والذي سبق لنا تناوله بتاريخ 12/11/2023 بمادة تحت عنوان: «دمج المؤسسات...أول خطوات التنمية الإدارية أم مؤامرة لتصفية القطاع العام ولصالح من؟؟»، وصولاً الآن إلى الحديث عن دمج مؤسسة عمران مع شركات الإسمنت ومواد البناء، مسيرة مستمرة ببطء ودون توقف، تقضم مهام الدولة بجهاتها العامة تباعاً، مقابل المزيد من التغول المشوه والمشبوه على حساب القطاع العام والاقتصاد الوطني لمصلحة كبار أصحاب الأرباح فقط لا غير!

الشركة العامة لصناعة وتسويق الإسمنت ومواد البناء الوليدة!

فكرة دمج المؤسسة العامة للإسمنت بمؤسسة عمران ليست جديدة، فهي قديمة مستجدة، حيث سبق وأن تم طرح الموضوع بشكل جدي مطلع عام 2011 من خلال تبني اللجنة الاقتصادية بحينه لهذا المشروع عبر إحداث شركة قابضة من حاصل دمج المؤسستين، لكن هذه الفكرة لم تر النور في حينه، رغم كل التهليل بالمبررات والذرائع والغايات بوقتها!
لكن الحديث الرسمي الآن تجاوز حدود دمج المؤسسة العامة للإسمنت بمؤسسة عمران ليشمل على ما يبدو جميع الشركات العاملة المتخصصة بإنتاج مواد البناء على اختلافها، وهذا ما يثير الحيرة بالعنوان العريض المطروح!
فقد ناقش مجلس الوزراء خلال جلسته الأسبوعية بتاريخ 21/11/2023 مشروع الصك التشريعي الخاص بإحداث «الشركة العامة لصناعة وتسويق الإسمنت ومواد البناء»، وذلك ضمن توجه الحكومة لدمج وإعادة هيكلة المؤسسات ذات الاختصاص المتشابه، بما يساهم في رفع كفاءة العمل وتعزيز النشاط الاقتصادي وزيادة الإنتاج والإنتاجية كماً ونوعاً، وتحسين واقع تسويق المنتجات وإدخال التقانات الحديثة في عمليات إدارة مراكز البيع وتلبية احتياجات السوق المحلية، إضافة إلى تأمين احتياطي إستراتيجي من المادة وتدريب اليد العاملة ورفع مستواها المهني!
فإذا كانت المؤسسة العامة للإسمنت معنية عبر شركاتها التابعة بإنتاج مادة الإسمنت بشكل رئيسي بالإضافة إلى بعض المنتجات الأخرى، فإن مؤسسة عمران معنية بتسويق منتجات هذه المؤسسة، بالإضافة إلى منتجات شركات أخرى متخصصة بإنتاج مواد البناء، بالإضافة إلى السماح لها بتسويق المستورد من هذه المواد ضمن اختصاصها!

الجهات العامة المستهدفة بالدمج!

المؤسسة العامة للإسمنت ومواد البناء يتبع لها الشركات التالية، وعددها 10 جهات، بغض النظر عن واقعها الراهن الآن:
شركة عدرا لصناعة الإسمنت ومواد البناء بدمشق- شركة الرستن لصناعة الإسمنت ومواد البناء بحمص- الشركة السورية لصنع الإسمنت ومواد البناء بحماة- شركة الشهباء للإسمنت ومواد البناء بحلب- الشركة العربية لصناعة الإسمنت ومواد البناء بحلب- شركة طرطوس لصناعة الإسمنت ومواد البناء بطرطوس- شركة حلب لصناعة منتجات الإسمنت الاميانتي بحلب- الشركة الوطنية لصنع الشمينتو ومواد البناء بدمشق- الشركة العربية لصناعة البورسلان والأدوات الصحية بحماة- الوحدة الاقتصادية لتصنيع القطع التبديلية بحلب.
فواقع حال الشركات أعلاه يقول، إن بعضها متوقف بشكل جزئي أو كلي، وبعضها يعمل بطاقة إنتاجية منخفضة، وجميعها تعاني من جملة من المشكلات والصعوبات المتراكبة والمستمرة منذ أعوام، وخاصة على مستوى تأمين مستلزمات إنتاجها، وتحديداً حوامل الطاقة، وارتفاع تكاليفها بالنتيجة!
أما مؤسسة عمران فهي إحدى مؤسسات التجارة الداخلية التي تقوم بتأمين مختلف مواد البناء لكافة المواطنين عن طريق مراكز البيع المنتشرة في محافظات القطر كافة والبالغة /154/ مركزاً، والمواد التي تتعامل معها المؤسسة لتسويقها هي: (الإسمنت- الحديد- الأخشاب- مواد العزل- مواد صحية)، ومن مهامها، - تسويق مواد البناء المنتجة محلياً والمستوردة- ممارسة تجارة الجملة والمفرق لكافة مواد البناء والمحصور توزيعها بالمؤسسة- تحقيق الاستقرار في عرض وتداول مواد البناء والمحافظة على استقرار أسعار تلك المواد والحيلولة دون احتكارها- تأمين احتياطي دائم للمواد.
وقد اقتصر عمل المؤسسة خلال السنين الماضية على توزيع وتسويق مادة الإسمنت المنتجة من جهات القطاع العام، لكن ذلك لا ينفي إمكاناتها بحكم الانتشار الجغرافي بتوزيع وتسويق بقية مواد البناء المنصوص عليها من ضمن مهامها (الحديد- الأخشاب- مواد العزل- مواد صحية) المنتجة محلياً أو المستوردة!

الحديث الرسمي عن الجزء وليس الكل!

الحديث الرسمي عن عملية الدمج يشير فقط إلى مادة الإسمنت إنتاجاً وتسويقاً وتوزيعاً، مع غض الطرف عن بقية مواد البناء، علماً أن العنوان العريض للمؤسسة المزمعة تحمل هذه المهمة ضمناً!
فماذا عن بقية مواد البناء التي تم استبعادها رسمياً؟!
وكيف ستتمكن المؤسسة المحدثة بعد الدمج من ممارسة مهامها في ظل استبعاد الحديد والخشب ومواد العزل والمواد الصحية والسيراميك وغيرها من مواد بناء من هذه المهام؟!
وبعهدة ولمصلحة من تم هذا الاستبعاد؟!

التبريرات الرسمية والإستراتيجية المرسومة!

بحسب وزير الصناعة خلال تصريح لصحيفة الوطن بتاريخ 22/11/2023 قال: «بالتنسيق مع وزارتي التنمية والتجارة الداخلية وحماية المستهلك تمت مناقشة أول مشروع لدمج المؤسسات التابعة لوزارة الصناعة ذات النشاط المتشابه، مبيناً أن البداية كانت بمؤسسة الإسمنت التابعة للوزارة ومؤسسة عمران المسؤولة عن توزيع الإسمنت ومواد البناء التابعة لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، وبناء عليه تم إجراء العديد من الدراسات والمناقشات التي تم التوصل من خلالها إلى إحداث مشروع «الشركة العامة لصناعة وتسويق الإسمنت ومواد البناء»، أي بدل أن يكون هناك مؤسسة للإسمنت سيكون هناك الشركة العامة، والشركات الموجودة بالمؤسسة سوف تتحول إلى أفرع للشركة العامة لصناعة وتسويق الإسمنت ومواد البناء، والمقترح هو أن يكون هناك أربعة أفرع موزعة حسب التوزع الجغرافي للشركات ومراكز توزيع لمادة الإسمنت في المنطقة الجنوبية والمنطقة الوسطى والساحلية والشمالية». وأضاف، «الهدف من إحداث هذه الشركة هو تكامل نشاط لإدارة حلقة الإنتاج بدءاً من المقالع الموجودة في شركات الإنتاج لمادة الكلينكر والمواد الأخرى، وتأمين المواد الخام وإنتاجها وتطوير صناعة الإسمنت ومواد البناء، مؤكداً أنه لدى الوزارة خطة للتوسع أفقياً لإحداث معامل وشركات أخرى تابعة بحيث يصبح لدينا منتج بجودة عالية وبأسعار مناسبة، لافتاً إلى أن الهدف الأهم من موضوع الدمج هو تحسين الأداء وإعادة هندسة الأنشطة وتوطينها بما يعزز الإنتاجية الإجمالية، الأمر الذي يساهم في خلق فرص عمل جديدة في صناعة الإسمنت ومواد البناء إضافة إلى ذلك يتم السعي إلى أن تكون هذه الصناعات صديقة للبيئة أي هناك توجه نحو الصناعة الخضراء». وأشار الوزير إلى أن «لدى الوزارة خطة لتسويق الإسمنت من خلال منصات إلكترونية يستطيع من خلالها أن يتقدم المتعهدون وأصحاب مشاريع البناء باستمارات وتحديد مواعيد وأماكن استلام هذه المادة».
حديث الوزير أعلاه يبين بوضوح أن مشروع الدمج المزمع هو بداية فقط لخطة مستمرة على مستوى استكمال دمج المؤسسات التابعة لوزارة الصناعة ذات النشاط المتشابه، أي لكل ما تبقى من شركات عامة منتجة تابعة لوزارة الصناعة!
أما عن المبررات والأهداف المعلنة أعلاه فهي لغو وحشو إعلامي وتسويقي بغاية تمرير عملية الدمج واستكمال مسيرتها!
فلو توفرت النية على مستوى تأمين المواد الخام وتطوير صناعة الإسمنت ومواد البناء لما وصل حال ما تبقى من شركات قائمة وعاملة بهذه الصناعة لما هو عليه حالها الآن!
وكذلك الحديث عن خطط التوسع الأفقي لإحداث معامل وشركات أخرى، في الوقت الذي نرى فيه تراجع عمل الشركات العاملة، بتناقض صارخ يفضح المستور من سياسات موجهة لما تبقى من شركات منتجة!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن خطط التوسع الأفقي، بحال جدية نواياها الرسمية، تتعارض مع فكرة الدمج جزئياً، وتسقط كل مبرراتها وذرائعها عملياً!
ولعله قبل الحديث عن فرص العمل الجديدة أن يتم التركيز على الحفاظ على ما تبقى من عمالة في الشركات العاملة، بدلاً من سياسات التطفيش لها، وخاصة السياسات الأجرية الطاردة للعمالة المؤهلة والخبيرة!

1150-2

مجدداً تجميع للمشكلات غير المحلولة!

المؤشرات المبدئية تقول إن عملية الدمج المزمعة للجهات العديدة أعلاه لن تكون إلا تجميعاً لمشكلاتها وصعوباتها الكثيرة وغير المحلولة منذ سنين!
فمع نضال الشركة الوليدة لحل التشابكات وترقيع المشاكل وتجاوز الصعوبات والمعيقات، وصولاً إلى النهوض والاستقرار (بحال تم التمكن من ذلك) سيكون السوق المفتوح قد سبقها بأشواط، مبتلعاً ما تبقى لها من مهام، وخاصة على مستوى تلبية احتياجات السوق المحلي!
وهكذا ستفقد عملية الدمج فوائدها وأهدافها المعلنة، لتتحول من عملية تنمية وتطوير، بحسب الادعاءات الرسمية، لأداة تجمع للمشكلات والصعوبات مع تزايد تعقيدها، وبالتالي المزيد من التراجع والترهل، وعدم التمكن من المنافسة مع السوق المفتوح المهيمن عليه من قبل حيتان أصحاب الأرباح!

الغاية الحقيقية مزيد من التقليص والتحجيم!

دمج المؤسسات والشركات العامة آلية تنفيذية قائمة ومستمرة منذ عقود، وتحديداً منذ تبني الحكومة للسياسات الليبرالية سيئة الصيت، تحت عنوان عريض باسم إعادة الهيكلة (الذي يندرج تحته آليات تنفيذية أخرى غير الدمج مثل التشاركية)، غايتها العملية تقليص هذه المؤسسات والشركات، بحجمها وبمهامها وواجباتها، بالتوازي مع فسح المجال أمام أصحاب الأرباح من القطاع الخاص غير المنتج لسد الفجوة بسبب هذا التقليص والتحجيم، والنتيجة هي مزيد من تقليص دور الدولة تباعاً، والمزيد من التدهور والتراجع الاقتصادي العام!
فالأمثلة التنفيذية لهذه الآلية كثيرة على المستوى الإنتاجي والخدمي، كشركات الإنشاءات العامة والسورية للحبوب والسورية للمخابز والسورية للتجارة والسورية للاتصالات و.، بما لها وما عليها كنتيجة ومآل، سواء على مستوى المهام والأدوار بانعكاساتها على الواقع الاقتصادي وسوق الاستهلاك، أو على مستوى العمالة وحقوقها ومصيرها، أو على مستوى التشابكات المالية وأنظمة العمل فيها!

استمرار سياسات التقويض بعيداً عن المحاسبة!

على الرغم من كل ما سبق لا يزال ما تبقى من شركات ومؤسسات القطاع العام مستمرة بفعل عامل العطالة وليس لأي سبب آخر، برغم كل السياسات التفشيلية والتقويضية المتبعة حيالها!
فالحقيقة الوحيدة الواضحة هي التخطيط لتقويض وتقليص عمل ما تبقى من شركات ومؤسسات عامة وصولاً إلى إنهائها!
فمعالجة الحالات الخاسرة (أو المخسرة بتعبير أدق)، أو المتوقفة جزءاً أو كلاً عن العمل لأسباب عديدة ومختلفة (أهمها عدم توفر النية الجدية لإعادة إقلاعها كما يجب عليه أن تكون)، سواء عبر عمليات الدمج أو من خلال تغيير النشاط أو نقل التبعية، أو من خلال نموذج التشاركية والخصخصة المباشرة وغير المباشرة، لم تكن إلا عمليات ترقيع غايتها تكريس الخسارة والتوقف لهذه الشركات!
مع الأخذ بعين الاعتبار غياب أي دراسة اقتصادية جادة لمآلات الخيارات الحكومية التي يتم فرضها على هذه الشركات والمؤسسات بمسمياتها المختلفة أعلاه، على مستوى ترشيق الإدارة وترشيد الإنفاق وتقليص الهدر ومحاربة الفساد وتحسين الإنتاج والإنتاجية وتعظيم القيمة المضافة وحلحلة الصعوبات والمعيقات والتشابكات المالية، والأهم على مستوى دورها ومهامها المفترضة على مستوى الاقتصاد الوطني!
فلا رقابة ولا محاسبة للحكومة على نتائج خياراتها وسياساتها تجاه مؤسسات وشركات القطاع العام، والاقتصاد الوطني عموماً، حتى تاريخه!
فجملة السياسات المتبعة رسمياً، بما في ذلك حيال جهات القطاع العام، هي سياسات محابية لمصالح القلة المحظية من كبار أصحاب الأرباح، وتحديداً الشريحة غير المنتجة من هؤلاء، الذين من مصلحتهم تقويض وإنهاء كل ما هو منتج في البلاد، سواء كان عاماً أو خاصاً، كي تستكمل سيطرتهم على مقدرات الاقتصاد الوطني، وما نلمسه من نتائج كارثية على كافة المستويات هي النتيجة الطبيعية لهذه السياسات الظالمة، التي لا بد من الخلاص منها جملة وتفصيلاً كي تستعيد الدولة دورها ومهامها بما يضمن مصالح العباد والبلاد!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1150
آخر تعديل على السبت, 02 كانون1/ديسمبر 2023 00:56