التنمية البشرية تجارة الكلام والأوهام!
اكتسحت دورات التنمية البشرية، الخاصة والعامة، بعناوينها الكثيرة، ومجموعة ضخمة من الدورات الشبيهة، الشارع السوري، مستقطبة بشكل خاص جيل الشباب الباحث عن فرص العمل والنهم للمعرفة، كشريحة مستهدفة!
ومصطلح التنمية البشرية ليس مستجداً، فقد أصبح عمره في الداخل السوري ما يقارب 30 عاماً حتى الآن، كان من نتيجتها تعميمه وزيادة المروجين له والمستفيدين من الدورات تحت يافطته خلال هذه السنوات من أصحاب الأرباح، بدعم ورعاية رسمية وشبه رسمية، مع الكثير من غض الطرف عن مضامين دوراته والقائمين عليها من المدربين وأشباههم، بل بات المصطلح تعبيراً مكثفاً للنموذج التربحي من الأوهام على حساب جيل الشباب ومستقبلهم وطموحاتهم!
التنمية البشرية بوجهيها!
تجدر الإشارة بداية إلى أن مصطلح التنمية البشرية بحد ذاته ليس سلبياً، شريطة حسن استخدامه واستثماره، وتحديداً من قبل الجهات الرسمية باعتباره مصطلحاً عاماً وعميقاً بتفاصيله والمفردات التي يتناولها كعناوين متفرعة منه!
فحسب ما نص عليه قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1986 فإن التنمية البشرية مصطلحاً يعني «عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان على أساس مشاركتهم في التنمية، بما يضمن التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها”.
على ذلك فإن التنمية البشرية كمفهوم عام هو مسؤولية كبيرة من المفترض أن تقع على عاتق الدولة والحكومة، كونها شاملة لمختلف أنشطة الإنسان، انطلاقاً من إيجاد الظروف الملائمة لحياته وصولاً إلى المشاركة السياسية!
أما الوجه الآخر الشائع لمصطلح التنمية البشرية فهو مجموعة الدورات التدريبية التي تزعم تنمية المهارات القيادية والنفسية العملية وغيرها، والتي يرجو الشباب منها تحسين إمكاناتهم وأن تفتح لهم أفق ريادة الأعمال وفرص العمل، لكنها بالواقع العملي بوابة تربح سهل وسريع تصب في جيوب البعض!
تبسيط بعض المفاهيم وتضخيم الأخرى!
أول ما يلفت الانتباه في الدورات المعممة محلياً هو التبسيط إلى حد التسخيف لبعض المفاهيم، واختزالها ببضع ساعات تدريبية، ليحصل بعدها المتدرب على شهادة بأنه اتبع هذه الدورات، بل وأصبح مرجعاً فيها.. هكذا!
فدورات مهارات القيادة مثلاً، تعطى خلال ساعات لا تتجاوز 30 ساعة تدريبية في بعض المراكز التدريبية!
في حين أن موضوع التدريب (مهارات القيادة) يحتاج بأقل تقدير إلى عدة مئات من الساعات التدريبية، النظرية والعملية، إذا أردنا فعلاً أن نصنع شخصية قيادية، ناهيك عن سمات المتدرب نفسه وإمكاناته، والشروط التي يجب توفرها بكل متدرب قبل خضوعه لمثل هذه الدورات، وهو أمر غير موجود طبعاً!
ومثلها أيضاً دورات متعددة لا تتعدى كونها تعريفاً نظرياً سطحياً بموضوعها!
على المقلب الآخر تُضخم دورات تدريبية أخرى بعض المفاهيم وتوسعها إلى أبعد حد، لتصطنع محاور دورات تدريبية متفرعة منها من الفراغ، مثل دورات «التجديد والابتكار» و»مهارات إدارة الوقت» وغيرها، والتي لا تتعدى كونها بضع نصائح، بعضها بسيط ومعروف بالفطرة وبتراكم الخبرة الحياتية، وبعضها معقد وغير قابل للتطبيق، مع عرض مستفيض لتجارب الآخرين كترويج يضفي مشروعيتها، لكن دون جدوى حقيقية منها كقيمة مضافة إلى المتدرب على أرض الواقع!
تجارة الأوهام!
إن انتشار هذه الدورات التدريبية وتنوع عناوينها، مع تزايدها، وبغض النظر عن حقيقة وأهمية جدواها، أو الوعود الخلبية الناجمة عن الترويج البراق لها، لا يشير إلا إلى أنها أصبحت مصدر نهب ضخم لجيوب الشباب في مقتبل العمر كشريحة مستهدفة، وبخاصة إذا علمنا أن تكلفة بعض هذه الدورات يتعدى الـ 100 ألف ليرة!
والأمر يصبح أكثر سوءاً بأن معظم المدربين القائمين على هذه الدورات يفتقرون إلى الخبرة العلمية والعملية اللازمة، وتقتصر معارفهم على مجموعة شهادات من دورات مماثلة بمفاهيم نظرية سطحية سبق أن خضعوا لها!
أما المشكلة الأكبر فهي أن بعض الدورات تدخل الشاب إلى دوامة لا منتهية من الخيارات لدورات بعناوين أخرى، مع الدفع باتجاه الخضوع لها من قبل المدربين أنفسهم، طبعاً بغاية جني المزيد من الأرباح!
فالإدارة تتطلب تنظيم الوقت، وتنظيم الوقت يتطلب التخطيط، والتخطيط يتطلب التفكير النقدي.. وهكذا.!
فكل من هذه المفاهيم المعوّمة كعناوين يتم تضخيمه إلى محاور لدورات تدريبية جديدة، ولقاء مبالغ وأرباح جديدة في جيوب القائمين على الدورات ومراكز التدريب، من أجل الحصول على شهادات مصدقة، تدغدغ أحلام وطموحات الشباب بالوعود التي تتبين خلبيتها عند أول صدام ومواجه مع واقعهم وظروف حياتهم ومعاشهم القاسية، والمتحكم بها سلفاً من قبل نفس شريحة حيتان النهب والفساد في البلاد!
حيث يمكن أن نعزي سعي الشباب نحو دورات التنمية البشرية إلى انسداد الأفق أمامهم لتطوير ذاتهم، وإلى تراجع وانحسار فرصهم بالحياة ودورهم فيها، وأيضاً إلى سعيهم الدائم نحو فرص عمل بظروف مقبولة وأجور عادلة كطموح مشروع!
لكن مقابل كل الآمال العالية للشباب بتلك الدورات فإن إحباطهم بعد انتهائها سيكون كبيراً أيضاً!
فالدعايات والترويج للدورات بعناوينها البراقة، وكاريزما المدرب، وترتيب مكان التدريب، وارتفاع تكلفة الدورة التدريبية، يخلق انطباعاً بأنها ولا بد ستكون مفيدة للشاب المستقطب، فإن لم تكن كذلك بالنتيجة فاللوم سيكون على الشاب المتدرب نفسه!
ومرة بعد مرة يصبح هذا اللوم إحباطاً ويأساً، إذ يعتقد الشاب أنه اختار التدريب الخاطئ، أو أنه فاشل لم يستطع الاستفادة من التدريب، ناهيك عن التكاليف الكبيرة التي تكبدها، في حين أن جزءاً من المشكلة يكمن في الدورات والتدريب نفسه، وفي الأوهام التي يبتدعها، وكل الأجزاء الأهم المتبقية هي في الواقع الاقتصادي الاجتماعي المعاش الذي يتطلب التغيير!
مسؤولية الدولة والحكومة!
واقع حال الشباب يقول إن أفقهم مسدود، ليس بسبب ضعف إمكاناتهم، كما تصورها بعض الدورات التي تتخذ عناوين التنمية البشرية موضوعاً لها، بل بسبب الظروف الناجمة عن جملة السياسات المتبعة، والأهم لمصلحة مَن يتم تجييرها!
ففي ظل ظروف استمرار الأزمة المعممة، وخاصة بنتائجها السلبية على المستوى الاقتصادي والمعيشي، وفي ظل استمرار تراجع عجلة الإنتاج وتوقف بعض قطاعاته، بالتوازي مع ارتفاع معدلات البطالة وتزايد معدلات الفقر، مع تكريس تراجع الدولة عن مهامها وواجباتها، كيف سيجد الشاب فرصة للعمل تكون مناسبة لإمكاناته (مهما كانت) وكافية كأجر لسد احتياجاته؟!
لنؤكد مجدداً أن موضوع التنمية البشرية، وبحسب تعريف الأمم المتحدة أعلاه، هو مسؤولية الدولة والحكومة أولاً وآخراً، كحال مسؤولياتها عن جملة السياسات التدميرية المتبعة، بما فيها سياسات التفريط الحكومي بمهام الدولة تباعاً، والتي أوصلتنا أيضاً إلى تسخيف وتسطيح لبعض المفاهيم الخاصة بهذا العنوان العريض، مع توسيع قاعدة الاستثمار فيه لتصب أرباحاً في جيوب البعض على حساب آمال وطموحات الشباب ومستقبلهم، كما على حساب المصلحة الوطنية العامة!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1146