المدارس.. غياب المستلزمات بوابة تربح وإفساد وتضحية بالقيم التربوية!
واصل القطاع التعليمي العام (المجاني افتراضاً) في سورية تراجعه خلال الأعوام الماضية، بشكل استثنائي ومستمر، وذلك نتيجة أسباب وعوامل عديدة سبق لقاسيون التطرق لمعظمها، ومع ذلك هناك المستجد الشاذ في كل عام مما يضيف للتراجع جرعات متزايدة!
والظاهرة الشاذة المستجدة بهذا الشأن هي اللجوء للطلاب لتأمين بعض مستلزمات العملية التعليمية في بعض المدارس، مباشرة من قبلهم أو من خلال فرض مبالغ مالية عليهم بذريعة تغطية الإنفاق على هذه المستلزمات!
والحديث هنا عن أوراق الامتحانات وأوراق المذاكرات وأوراق العمل خلال الفصل الدراسي لبعض المواد، وغيرها من المستلزمات!
فمع استمرار سياسة تخفيض الإنفاق الحكومي على قطاع التعليم، كما غيره من القطاعات، وتحديداً الاعتمادات المخصصة لمستلزمات العملية التعليمية، ومخصصات المدارس الموزعة من مديريات التربية عن طريق المجمعات التعليمية، مثل أورق المذاكرات والأوراق الامتحانية والأقلام والقرطاسية وغيرها، لم تعد العديد من المدارس تحصل على كفايتها منها، إن لم نقل إنها غائبة تماماً، مما خلق مشكلة كبيرة تمثلت بشح هذه المستلزمات وعدم كفايتها، ودفع بالإدارات والمعلمين للبحث عن حلول بديلة، لكن على حساب ومن جيوب الطلاب وذويهم غالباً!
بالمقابل فإن التداعيات السلبية لذلك لا تقتصر على تكريس تراجع العملية التعليمية فقط، بل تتعداها لتعزيز الفرز الطبقي بين الطلاب في المدارس، وصولاً إلى التضحية بالقيم التربوية نفسها!
ثمن أوراق المذاكرات من جيوب الطلبة.. فأين مجانية التعليم؟!
مع قرب موعد المذاكرات التحريرية بدأ العديد من المعلمين، بتوجيه وتغطية من الإدارة في بعض المدارس، بطلب ثمن طباعة أوراق المذاكرات من الطلاب، بذريعة عدم توفر الأوراق وتعطل الطابعة (إن وجدت) وانقطاع التيار الكهربائي، وغيرها من الذرائع، وبمبالغ تتراوح بين 5000-10000 ليرة من كل طالب، حسب المدرسة والصف!
فكلفة طباعة أوراق المذاكرات خارج المدرسة أصبح كبيراً، حيث كانت المدرسة تتحمل أعباء تغطية هذه التكلفة (وهو واجبها المفترض)، وفي بعض الأحيان يتحملها المعلم على حسابه!
لكن مع ارتفاع هذه التكلفة كان من الطبيعي، على حد تعبير البعض، أن توزع هذه التكاليف على الطلاب، إذ إن الطالب حين يدفع ثمن أوراق امتحاناته ومذاكراته يكون أخف على المعلم من أن يدفع ثمن أوراق الامتحانات لأكثر من 50 طالباً في الشعبة الصفية الواحدة، ولعدد من الشعب الصفية بكل مذاكرة!
التبريرات أعلاه تبدو منطقية بالنسبة للإدارات والمعلمين، لكن ذلك يعني تناسياً تاماً أن الانفاق على هذه المستلزمات تندرج تغطيتها بمسؤولية وعهدة وزارة التربية ومديرياتها افتراضاً، وليس ذوي الطلاب!
ولكم أن تحسبوا التكلفة على الطالب لقاء مذاكرات لـ 8 مواد، ولكل مادة ورقة بتكلفة 1000 ليرة بالحد الأدنى، أي 8 آلاف ليرة في الفصل الدراسي الواحد، ولفصلين 16 ألف ليرة، وبحال أن الأسرة لديها طالبان في المدرسة فإن التكلفة السنوية لقاء المذاكرات فقط تصبح 32 ألف ليرة، وهذه التكلفة تتضاعف لتصبح أكثر من 60 ألف ليرة لتغطية تكلفة الأوراق الامتحانية لنهاية الفصل الأول والثاني!
فهل يمكن الحديث عن مجانية التعليم مع هكذا تكاليف إضافية على جملة التكاليف التي يتحملها ذوو الطلاب مع بداية كل عام لقاء مستلزمات أبنائهم، أو لقاء الدروس الخصوصية التي أصبحت شراً لا بد منه بسبب استمرار تراجع العملية التعليمية في المدارس؟!
ثمن أوراق العمل أعباء إضافية تثقل كاهل ذوي الطلاب!
يضطر العديد من الطلاب وذويهم لدفع عشرات الآلاف من الليرات ثمناً لأوراق العمل في الكثير من المدارس أيضاً!
إذ جاء على لسان بعض الطلاب، خاصة طلاب الشهادتين الأساسية والثانوية، قيام بعض المدرسين بطباعة أوراق عمل، في مواد اللغات والرياضيات بشكل خاص، وتوزيعها عليهم بمعدل 5 لـ 7 أوراق أسبوعياً، وبتكلفة تتراوح ما بين 500 وتصل إلى 2000 ليرة سورية للورقة الواحدة، تختلف تبعاً للمدرس والمادة ومنطقة المدرسة!
المبالغ أعلاه تعني عشرات الآلاف المضافة شهرياً، ومئات الآلاف على مدار العام الدراسي، وذلك لقاء أوراق عمل تتطلبها العملية التعليمية في بعض المواد للشهادتين الأساسية والثانوية، وذلك على حساب ذوي الطلاب!
على ذلك تتبادر للذهن مجموعة من الأسئلة الملحّة:
هل المناهج التي طورتها وزارة التربية بحاجة إلى هذا الشكل من التوضيح والتدعيم، تحت مسمى أوراق العمل لبعض المواد، بغاية إيصال المعلومة للطالب؟
وبحال كان ذلك ضرورة تعليمية وتربوية أليس من المفروض تأمين مستلزماتها من قبل المدرسة المعنية ومديرية التربية، وليس على حساب الطلاب وذويهم؟!
تشويه مفهوم التعاون والنشاط وبوابة إفساد أخرى!
من المعروف أن جزءاً من إيرادات المدارس يتمثل بنسبة محددة من التعاون والنشاط المحصل من الطلاب كمبالغ سنوية رمزية، وبحسب ما حددته وزارة التربية على الشكل التالي، للمرحلة الابتدائية 81 ل.س يقسم كالتالي (50 نشاط و10 تعاون و25 أوراق امتحانية)، أما للمرحلة الإعدادية مبلغ 90 ليرة مقسماً (50 نشاط 25 أوراق امتحانية و15 تعاون)، والمرحلة الثانوية 105 ليرات مقسماً (20 تعاون و50 نشاط و35 أوراق امتحانية)!
المبالغ أعلاه هي فعلاً رمزية لا تتعدى كونها شكلاً من أشكال التقارب بين الأهل وإدارات المدارس بمهامها، وهي تكرس بآن حالة تربوية تتمثل بمفهوم التكافل الاجتماعي عند الطالب، باعتباره مساهماً مع ذويه وأقرانه لتغطية جزء بسيط من النفقات غير المبوبة وغير المغطاة باعتمادات خاصة، مثل الهدايا الموزعة على الطلاب أو الاحتفالات وبعض النشاطات خلال العام الدراسي!
لكن الجديد بالموضوع قيام العديد من المدارس بتقاضي مبالغ إضافية تحت مسمى التعاون والنشاط، لتغطية الإنفاق على مستلزمات العملية التعليمية فيها!
فحسب حديث بعض أولياء الأمور قامت العديد من المدارس، في المدينة والريف، بطلب مبالغ إضافية من الطالب على الشكل التالي، 1000 تعاون ونشاط وإلى حد الـ 5000 ليرة، أو أكثر من ذلك حسب رغبة ذوي كل طالب وقدرتهم، كتعاون ونشاط للمدرسة لتغطية المستلزمات وترميم المقاعد، حسب ما نقل من ادعاءات بعض الموجهين والإدارة لذوي الطلاب!
المبالغ التي يتم فرضها تحت مسمى تعاون ونشاط وفق الشكل المستجد والمعمم المطبق في الكثير من المدارس فقد غايته وأهدافه، وخاصة التربوية والاجتماعية، ليس كونه لم يعد كافياً لتغطية الإنفاق على بعض المستلزمات، بل كونه أصبح شكلاً من أشكال الاستجداء لتغطية الإنفاق على الضرورات التي من المفترض أنها مؤمنة ومغطاة باعتمادات مخصصة لها كل عام دراسي!
مسارب تربح وفساد كبيرة!
الخشية المشروعة من كل ما سبق هي أن هذا النمط المعمم من تقاضي مبالغ مالية لقاء الأوراق الامتحانية والمذاكرات وغيرها، كظاهرة شاذة مستجدة معممة وتتوسع عاماً بعد آخر، أصبح بوابة جديدة للتكسب والفساد، ضحيته الطالب وأسرته!
فعند لقائنا لبعض أصحاب المكتبات وسؤالهم عن أوراق العمل أو أوراق المذاكرات والامتحانات التي تتم طباعتها لديهم من قبل بعض المعلمين تبين أن ما تتقاضاه هذه المكتبات هو مبلغ 250 ليرة لقاء طباعة الورقة الواحدة!
على ذلك فإن كل زيادة يتم تقاضيها من الطلاب أكثر من المبلغ أعلاه لقاء كل ورقة هو هامش استغلالي وربحي!
فبالمجموع التكثيفي على مستوى كل مدرسة، بتعداد شعبها الصفية وطلابها، وتعدد المواد بمذاكراتها وأوراقها الامتحانية، تصبح الهوامش الاستغلالية التي يتم الحديث عنها كبيرة جداً!
فإذا تم تقاضي 1000 ليرة لقاء كل ورقة من الطالب فإن الهامش الربحي المقتطع منها هو 750 ليرة، ولشعبة صفية فيها 50 طالباً يصبح إجمالي هذا الهامش 37,500 ليرة، وبحال الحديث عن مذاكرات لـ 8 مواد في الفصل الدراسي فإن المبلغ يصبح 300 ألف ليرة، ولفصلين 600 ألف ليرة، يضاف إليها الامتحانات للفصل الأول والثاني فيصبح الحديث عن أكثر من مليون ليرة، وبحال كانت المدرسة فيها 10 شعب صفية فإن إجمالي المبلغ المقتطع من جيوب الطلاب كهوامش ربح استغلالية يتجاوز 10 ملايين ليرة سنوياً بالحد الأدنى، وهذا المبلغ يتضاعف بالنسبة لطلاب الشهادات تحت مسمى أوراق العمل!
فهل بعد ذلك يمكن القول إن العملية التعليمية ما زالت مجانية؟!
والأهم من ذلك ماذا تبقى من دور تربوي في العملية التعليمية وفقاً للسياق النهبوي الفاسد المعمم أعلاه، بكل صمت وبلا صخب؟!
الفرز الطبقي والتضحية بالقيم التربوية!
رغم تفهم ذوو الطلاب وتعاونهم الشديد لتأمين المتطلبات التعليمية ومستلزماتها لأبنائهم، إلا أن هناك نسبة ليست بقليلة من ذوي الدخل المحدود، أسر مفقرة بالكاد تستطيع تأمين مستلزماتها الحياتية اليومية، أسر عاجزة فعلاً عن تحمل أي عبء مادي إضافي، مما سبب حالة إحراج كبيرة سواء للأب أو الأم أمام أبنائهم، وللطالب نفسه أمام زملائه المقتدرين ومعلميه!
ليس هذا وحسب، بل عززت هذه الظاهرة المستجدة والظالمة الفرز الطبقي بين طلاب الصف الواحد، وعمقت الشعور بالنقص لدى الطلاب المفقرين، مما خلق حالة نفسية سيئة للطالب الذي بات محرجاً أمام معلميه وزملائه، وفقد احترامه للمدرسة العاجزة عن تأمين أوراق مذاكرات له، وللمعلم الذي يطلب منه المال، ولأسرته العاجزة عن الدفع!
والأمر على هذا النحو تجاوز حدود ذرائع تخفيض الإنفاق وذرائع تغطيته وصولاً إلى تجاوزات شاذة وسلبية بنتائجها على العملية التعليمية وغاياتها العلمية والتربوية، ومخرجاتها المستهدفة بالمحصلة!
السياسات الكارثية بنتائجها!
كل ما سبق يجري ويتم بعلم ودراية تامة من قبل مديريات التربية ووزارة التربية والحكومة، بل وبتغطية شبه رسمية تكرسها السياسات الليبرالية المتبعة، وخاصة سياسات تخفيض الإنفاق العام الظالمة، والسياسات الأجرية المجحفة، التي تعتبر من الأسباب الرئيسية لتكريس وتعميم كل الظواهر السلبية في قطاع التعليم أو غيره من القطاعات، وفي المجتمع ككل!
فسياسات تخفيض الإنفاق على قطاع التعليم، بالتوازي مع السياسات الأجرية فيه، لم تفقده مجّانيته المفترضة فقط، ولم تعزز تكريس الفرز الطبقي فيما بين الطلاب بكل مدرسة أيضاً، بل وتدفع به نحو مستنقع من الفساد والإفساد المتعمد!
فكل التجاوزات غير المقبولة والظواهر السلبية المستجدة بهذا القطاع الهام، وفي ظل غض الطرف عنها وتجاهلها رسمياً، مع شرعنتها بشكل مباشر أو غير مباشر، ستؤدي إلى مزيد من التردي والترهل والتراجع فيه، وصولاً إلى التضحية باحترامه وخصوصيته وبغاياته التعليمية والتربوية، ربما ليتسع المجال نحو المزيد من التفريط به تحت عناوين الخصخصة والتربح والتكسب على حساب الطلاب وذويهم، وخاصة الغالبية المفقرة، وعلى حساب المصلحة الوطنية بالمحصلة!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1146