تكريس الارتباط والتبعية غرباً سياسة مستمرة برغم كوارثها!
انتهت الاجتماعات السنوية للعام الحالي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بتاريخ 15/10/2023، والتي انطلقت بتاريخ 9/10/2023 في مدينة مراكش في المغرب، مستمرة لمدة أسبوع.
وقد شاركت سورية في هذه الاجتماعات بوفد برئاسة وزير المالية، حيث بحث الوفد مع صندوق النقد والبنك الدوليين إعادة إدراج سورية في تقارير ومؤشرات المؤسستين.
وتجدر الإشارة إلى أن سورية كانت قد انضمت إلى البنك الدولي في عام 1947، واستمرت علاقتها على مستوى التعاون الفني والاستشاري مع البنك حتى انفجار الأزمة في عام 2011، حيث توقفت مشاريع التعاون الفني والاستشاري، وكذلك الزيارات الدورية لخبراء البنك إلى سورية، وذلك تنفيذاً للعقوبات التي فرضت عليها.
فما الجديد المتوقع بعد استئناف المشاركة السورية بهذه الاجتماعات، والسعي لإدراجها في تقارير ومؤشرات المؤسستين أعلاه، على السياسات الاقتصادية المتبعة؟
وماذا بقي من تفاصيل الوصفات سيئة الصيت لهذه المؤسسات المالية الدولية ولمصلحتها، المسيطر عليها غربياً، لم يتم تنفيذها، أو يجب استكمال هذا التنفيذ؟
وأين هو شعار التوجه شرقاً بالواقع العملي في ظل استمرار على التعويل على المؤسسات والمنظمات الغربية؟
لمحة عامة بين النظري والعملي!
جرت العادة أن يجتمع مجلسا محافظي مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مرة واحدة سنوياً لمناقشة العمل الخاص بكل من المؤسستين التي تُنظم عموماً في شهر أيلول- تشرين الأول.
وتجمع الاجتماعات السنوية لمجلسي محافظي صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي محافظي البنوك المركزية، ووزراء المالية والتنمية، وكبار المسؤولين من القطاع الخاص، وممثلي منظمات المجتمع المدني، والأكاديميين لمناقشة القضايا التي هي موضع الاهتمام العالمي، ومنها الآفاق الاقتصادية العالمية، واستئصال الفقر، والتنمية الاقتصادية، وفعالية المعونات. وتعقد أيضاً ندوات وجلسات إعلامية إقليمية ومؤتمرات صحفية والكثير من الأنشطة والفعاليات الأخرى التي تركز على الاقتصاد العالمي والتنمية الدولية والنظام المالي العالمي.
وتتضمن الاجتماعات السنوية اجتماعات لجنة التنمية، واللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية، ومجموعة العشر، ومجموعة الأربع والعشرين، والعديد من الدوائر الأخرى.
وقد اختبرنا بالواقع العملي، كما غيرنا من الدول، أن العناوين النظرية أعلاه، حول (التعاون واستئصال الفقر والتنمية الاقتصادية وغيرها)، هي عناوين فضفاضة تسقط وتتهاوى بفعل الوصفات الاقتصادية سيئة الصيت التي يتم السعي لفرضها على الدول من قبل هاتين المؤسستين، بالإضافة طبعاً إلى منظمة التجارة العالمية وغيرها من المؤسسات والمنظمات الشبيهة، لمصلحة الدول الغربية المهيمنة أولاً، والشرائح الاجتماعية المستفيدة منها داخل كل دولة بحكم ارتباط المصالح والتبعية ثانياً، من أجل استمرار سيطرتها وهيمنتها، وعلى حساب اقتصادات الدول الضعيفة وشعوبها!
الوصفات العملية والنتائج الكارثية!
العنوان العريض لفرض الهيمنة والتبعية وفقاً للنموذج النظري المروج أعلاه هو «إعادة الهيكلة الاقتصادية» وما يندرج ضمنه من وصفات تفصيلية على المستوى التنفيذي وبحسب واقع كل دولة، والتي تكون كارثية بنتائجها على اقتصادات الدول وواقعها الاقتصادي الاجتماعي، ومنها
- تحرير التجارة وتخفيض الرسوم الجمركية.
- التحرير السعري للسلع والخدمات.
- تحرير سعر الصرف وصولاً إلى تعويمه.
- تخفيض الإنفاق العام وصولاً إلى إنهائه.
- تقليص الدعم الاجتماعي وإنهائه.
- تقليص العمالة في القطاع الحكومي.
- تخفيض الأجور إلى حدودها الدنيا وتجميدها.
- سياسات الخصخصة المباشرة وغير المباشرة.. وغيرها من الوصفات!
فالوصفات التنفيذية أعلاه تحقق غايتين
الأولى، تكريس تبعية الدول للمركز الغربي، مع منحه المزيد من فرص التغول للسيطرة على اقتصاداتها لتجييرها لمصلحته استنزافاً ونهباً عبر المؤسسات والمنظمات المهيمن عليها من قبل الغرب!
والثانية، زيادة نفوذ وسيطرة الشرائح الاجتماعية المرتبطة مع هذا الغرب في الدول المعنية، عبر بوابات النهب والاستغلال التي تتيحها هذه الوصفات لمصلحتها!
سورية والتنفيذ الطوعي للوصفات سيئة الصيت أعلاه!
تنبع الخشية عادة من الوصفات سيئة الصيت أعلاه من الاضطرار للرضوخ إليها وتنفيذها تحت الضغط، وخاصة بسبب الديون التي تحصل عليها بعض الدول من خلال تعاونها مع هاتين المؤسستين، والتي تفسح المجال عملياً للبنك الدولي أن يتدخل في السياسات الاقتصادية للبلد المعني، وصولاً إلى التنفيذ الجزئي أو الكلي لها!
أما المفارقة على مستوى واقعنا الاقتصادي، والسياسات المتبعة رسمياً، أن هذه الوصفات تم تبنيها ووضعها بالتنفيذ تباعاً خلال العقود الماضية، طوعاً ودون ضغوط مباشرة!
فسورية لم تقترض من هذه المؤسسات المالية الدولية إلا لمرات محدودة خلال القرن الماضي، وبقروض ضئيلة تمت تسويتها وتسديدها كاملة، ولا يوجد عليها ديون لمصلحتها منذ عقود بحسب التصريحات الرسمية.
ومع ذلك فمع بداية القرن الحالي تناغمت السياسات الليبرالية الاقتصادية المطبقة في سورية مع وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين تحت عنوان تسويقي للنهج الاقتصادي المتبع في حينه بمسمى «اقتصاد السوق الاجتماعي»، والذي كانت من مدرجاته التنفيذية وضع غالبية الوصفات سيئة الصيت أعلاه موضع التنفيذ تباعاً، والتي حصدنا نتائجها الكارثية على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، وقد كان من نتائجها، مع غيرها من الأسباب الأخرى التي لا تقل أهمية، انفجار الأزمة في عام 2011!
وبالرغم من كل النتائج الكارثية التي تم حصادها ما زالت السياسات الاقتصادية الليبرالية الرسمية على حالها دون تغيير، بل مع المضي قدماً لاستكمال تنفيذ كل الوصفات أعلاه بتفاصيلها، بغض النظر عن تداعياتها وآثارها ونتائجها!
فالقائمون على أمر البلاد والعباد يبدون ملكيين أكثر من الملك بما يخص التبني الكلي لسياسات مؤسسات الغرب المالية والنقدية ووصفاتها الاقتصادية!
والمفارقة الأكبر أنه على الرغم من توقف مشاريع التعاون الفني والاستشاري، وكذلك الزيارات الدورية لخبراء البنك الدولي إلى سورية بعد انفجار الأزمة في عام 2011 بسبب العقوبات، إلا أن ذلك لم يضع حداً لهذه السياسات التدميرية!
فالواقع العملي يقول إن الطغم النهبوية المتحكمة بالاقتصاد وبمقدرات البلاد ارتبطت مصالحها مع مصالح المركز الغربي عضوياً لدرجة تبني وصفات وسياسات مؤسساته ومنظماته طوعاً، دون اضطرار ودون ضغوط، وصولاً إلى النموذج الليبرالي المتوحش المطبق!
تصريحات رسمية على هامش الاجتماعات!
في تصريح لـ CNBC عربية، على هامش الاجتماعات بتاريخ 10/10/2023، قال وزير المالية، إن «سورية تستهدف تحقيق نمو اقتصادي بنسبة تصل إلى 3% في العام المقبل، واتخذت عدة إجراءات لتحسين مناخ الاستثمار وإعادة المستثمرين العرب والأجانب إليها، وتبحث مع صندوق النقد والبنك الدوليين إعادة إدراج سورية في تقارير ومؤشرات المؤسستين».
وكذلك نقل عن وزير المالية عبر موقع «اقتصاد الشرق» بتاريخ 11/10/2023 ما يلي «سورية من أقل الدول مديونية في المنطقة حتى تاريخنا هذا، مضيفا، لا يوجد علينا ضغوط من ناحية الدين الخارجي- لا يوجد ديون حتى على الشركاء والأصدقاء، ونحن نعتمد على مصادرنا الخاصة، ونعتمد مبدأ رابح رابح- سورية لا تقبل اشتراطات غير منطقية، مشيراً إلى أن هناك التزامات منطقية من ناحية أن هناك ديناً، فهناك ضمانات وجداول تسديد. مشيراً إلى وجود تسهيلات مالية مع الصين وغيرها- إذا كانت هناك شروط أي برامج اقتصادية مشتركة ضمن الحدود المنطقية والطبيعية التي تضمن حقوق الطرفين، فنحن معها، وما يزيد عن ذلك فنحن موقفنا معروف وواضح منها- حتى الساعة، ما زالت السعودية من أهم عشر شركاء اقتصاديين إلى سورية، مشيراً إلى أن العلاقات الاقتصادية البينية بين الدول العربية لم تتأثر كثيراً ولكن نأمل تفعيلها وتحسينها- نحن هنا لرفع صوت الدول النامية، للحصول على موقف تفاوضي أفضل مع الدول المتقدمة- حالياً ومنذ حوالي سبعة أشهر، نسعى إلى إعادة وإحياء العلاقات بين سورية وصندوق النقد الدولي IMF والبنك الدولي- هناك حديث عن عودة سورية على الأقل إلى البرامج والإحصاءات الدولية- وهناك حديث عن تمويل فرص وبرامج ومشاريع في المرحلة اللاحقة لتهتم وترتبط بالتنمية المستدامة، وبرامج هذه المؤسسات المالية».
نحو المزيد من الكوارث!
من الواضح أن شعار التوجه شرقاً هو شعار إعلامي فقط لا غير بدليل استمرار التعويل على المؤسسات والمنظمات الغربية بكل موبقاتها على مستوى النتائج الكارثية التي يتم حصادها اقتصادياً واجتماعياً ووطنياً!
فالترجمة العملية لكل ما سبق، وكما هو ملموس عملياً، هو الاستمرار بنفس النهج والسياسات، أي إن الرسميين من أولي الأمر عازمون على استكمال تنفيذ وصفات المؤسسات المالية سيئة الصيت أعلاه، مع غيرها من الوصفات الظالمة والتوحشية، بغض النظر عن الكوارث المضافة الناجمة عن ذلك بانعكاساتها السلبية على البلاد والعباد!
ولعله قبل الحديث عن السعي إلى إعادة ادراج سورية في تقارير ومؤشرات صندوق النقد والبنك الدوليين أن يكون هناك شفافية محلية بما يخص تفاصيل هذه التقارير والمؤشرات!
فالتصريحات الرسمية أعلاه تؤكد على استمرار العمل بنفس السياسات الليبرالية الظالمة المتبعة والنهج التدميري المطبق، مع استمرار التعويل على المؤسسات الغربية بكل برامجها ووصفاتها التدميرية والإفقارية والنهبوية!
على ذلك فإن معدلات النمو المستهدفة، وبغض النظر عن نسبتها وإمكانية تحقيقها، لن تصب إلا بمصلحة كبار أصحاب الأرباح، على حساب الاقتصاد الوطني والغالبية المفقرة كما جرت العادة!
أما الحديث عن مناخ الاستثمار فهو لغو إعلامي لا أكثر، فلا استثمارات من الممكن استقطابها (محلية أو عربية أو أجنبية) في ظل استمرار الواقع السياسي العام في البلاد، التي ما زالت تعاني من أزمة وطنية شاملة تهدد أمنها ووحدة وسلامة أرضها وشعبها وسيادتها!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1144