السير نحو استكمال تعويم الليرة بخطا متسارعة كارثية النتائج!
العتبات السعرية التي تجاوزها المصرف المركزي تباعاً بسعر صرف الليرة مقابل الدولار مؤخراً، وبهوامش زمنية ضئيلة بين العتبة والأخرى، وصولاً إلى سعر 9500 ليرة مقابل الدولار بتاريخ 16/7/2023، تُظهر وكأن العملية (التحكم بسعر الصرف) مدارة من قبله وهو الفاعل فيها، بينما واقع الحال يؤكد أن السوق الموازي هو الفاعل الرئيسي بهذه العملية، والمركزي منفعل ويعمل بردود الفعل التي تحقق المزيد من المكاسب للمتحكمين بالسوق الموازي ليس إلا!
فدور المصرف المركزي ينحصر عملياً بالمشاركة بشكل مباشر وغير مباشر بإدارة عملية تعويم الليرة مع المتحكمين بالسوق الموازي، هذه العملية التي تسير على قدم وساق تباعاً باتجاه تحرير سعر الصرف بشكل نهائي، لترك التحكم فيه كلياً للسوق وفق آليات العرض والطلب، التي يتغنى بها منظرو ومتبنو السياسات الليبرالية، وذلك استكمالاً لعمليات تحرير السلع والأسعار التي تم إنجازها سابقاً توافقاً مع هذه السياسات، وبما يضمن مصالح المستفيدين منها من كبار أصحاب الأرباح فقط لا غير!
التعويم الموجه بمهب الريح أيضاً!
تعويم العملة هو أن يترك سعر صرفها محرراً بشكل كامل دون تدخل من قبل الحكومة أو المصرف المركزي، والفاعل بتحديد هذا السعر هي آليات العرض والطلب في سوق العملات، حيث يتغير وفقاً لمتغيرات عمل هذه السوق!
وهناك ما يسمى التعويم الخالص الذي يترك فيه تحديد السعر لقوى السوق دون أي تدخل للدولة لا بشكل مباشر ولا بشكل غير مباشر!
وهناك ما يسمى التعويم الموجه الذي يترك فيه تحديد السعر لقوى السوق مع تدخل الدولة حسب الحاجة لتوجيه أسعار الصرف في اتجاهات معينة من خلال التأثير بحجم العرض والطلب على العملات!
ويظهر دور المصرف المركزي على أنه تدخل في سوق العملات، وبحيث تبدو العملية وكأنها موجهة من قبله، لكن مع تسجيل غياب الاتجاهات التي من المفترض أن يسعى إليها المركزي بوضوح!
فتعامل الحكومة والمصرف المركزي مع سعر الصرف هو شكلاً وفق النموذج الموجه للتعويم، لكن مضموناً وفق النموذج الخالص لهذا التعويم، وهذا وذاك يعني تخلي عن أحد الأدوار والمهام المفترضة بالدولة، وتفريط إضافي بعامل اقتصادي هام رسمياً، مع كل ما يتبع ذلك من سلبيات وكوارث على الإنتاج والاستهلاك والمستوى المعيشي والاقتصاد الوطني ككل!
فكل العتبات السعرية التي تم كسرها من قبل المركزي لم تصل إلى عتبة سعر السوق الموازي، فالقائمون عليه يستمرون بالدفع نحو عتبات سعرية أعلى لمصلحتهم ووفق قانون العرض والطلب على القطع المتحكم به من قبلهم، مستحوذين على الكتلة الأكبر من القطع وأرباحه الناجمة عن عمليات المضاربة بالعملة!
والأكثر من ذلك أن قوى السوق هي المتحكم بسعر الصرف، والتدخل الحكومي تابع دون تحديد توجهات واضحة، بل أصبحت هذه القوى هي من تحدد كل التوجهات الاقتصادية عملياً، وبما يضمن استمرار مصالحها، ومهما كانت النتائج الكارثية لذلك، ليس على المستوى المعيشي للمواطنين أو على المستوى الاقتصادي فقط، بل على المستوى الوطني أيضاً!
الواقع الكارثي!
عملية التعويم المستمرة على قدم وساق وصلت حالياً لتجاوز سعر الصرف في السوق الموازي عتبة 10500 ليرة مقابل الدولار، مقابل عتبة المصرف المركزي التي تم تثبيتها بـ9500 ليرة حالياً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أسعار السوق للسلع والخدمات يتم تسعيرها بعتبة أعلى من 15000 ليرة تحوّطاً، مع توقع الاستمرار بكسر هذه العتبات السعرية تباعاً لسبب بسيط ومعروف يتمثل بضعف حوامل قوة ودعم الليرة نفسها، سواء في سوق العملات، أو في سوق الاستهلاك للسلع والخدمات!
والكارثة لا تقف عند حدود كسر العتبات السعرية الثلاث أعلاه فقط، بل بالهوامش الزمنية الضيقة بالانتقال من عتبة إلى أخرى!
فتذبذب سعر الصرف ينعكس سلباً على كل الأنشطة الاقتصادية في البلاد، وخاصة في القطاعات الإنتاجية (الزراعي والصناعي)، ما يدفع بداية إلى زيادة الهوامش التحوطية من قبل الفعاليات والأنشطة الاقتصادية، وصولاً إلى مزيد من الارتفاعات السعرية ومعدلات التضخم، وليس انتهاءً بتوقف وخروج الكثير من الفعاليات من السوق، وخاصة بعض المنشآت من بعض القطاعات الإنتاجية في البلاد، وهو ما يجري تباعاً أيضاً!
والترجمة العملية لكل ما سبق هي ما نشهده يومياً من تراجع كارثي وسريع على كافة المستويات، وخاصة على المستوى المعيشي والخدمي للغالبية المفقرة!
فإذا كانت هذه الكوارث هي نتيجة لآليات التعويم الموجهة من قبل الحكومة والمركزي كتدخل بسوق العملات، فكيف ستكون عليه الحال مع التعويم الخالص، وصولاً إلى تحرير سعر الصرف كلياً في هذه السوق استكمالاً لعمليات التحرير الاقتصادي وفق السياسات الليبرالية التوحشية المطبقة؟!
فالسلبيات الناجمة عن تدهور قيمة الليرة وصولاً إلى تحريرها، وارتفاع تكلفة الإنتاج، وبالتالي زيادة الأسعار وزيادة معدلات التضخم، بالتوازي مع زيادة فاتورة المستوردات، وصولاً إلى الإنهاك الاقتصادي الذي نحن فيه، كبيرة وخطيرة بنتائجها، ليس على المستوى المعيشي للسوريين ولغالبيتهم المفقرة فقط، بل وعلى المستوى الوطني ككل!
فما يتم حصاده من الناحية العملية من جملة السياسات الليبرالية الظالمة والمجحفة أصبح أكبر من سلبيات تحرير الأسعار والسلع، وأضخم من كارثة الدولرة وتعويم الليرة، وصولاً إلى الموات الاقتصادي العام!
هل من حلول؟!
من المسلمات الاقتصادية أن عملية دعم القوة الشرائية لليرة في السوق المحلية، وقيمتها مقابل بقية العملات في الأسواق الداخلية والخارجية يرتكز على النقاط الأساسية التالية اختصاراً:
استعادة دور الدولة على مستوى مهامها وواجباتها، وعلى كافة المستويات، وخاصة على مستوى مساهمتها المباشرة بالاستثمار في القطاعات المنتجة (زراعة- صناعة- إنشاءات- بنى تحتية..).
زيادة الإنتاج (الزراعي والصناعي) وتنويعه وتحسين مواصفاته وجودته.
تخفيض فاتورة تكاليف الإنتاج المحلي من خلال آليات الدعم المباشر وغير المباشر، كسلال دعم موجهة لقطاعات بعينها، أو لسلع ومواد محددة.
زيادة صادرات المواد والسلع من الإنتاج المحلي للأسواق الخارجية، وخاصة التي تحمل قيمة مضافة، مع توسيع هذه الأسواق عبر فتح أسواق جديدة، مع تقديم محفزات تصديرية جدية وموجهة.
تقليص سلة المستوردات وفاتورتها، وخاصة للسلع والمواد الترفية، والتركيز الجدي على بدائل الإنتاج والتصنيع المحلي منها، وفق آليات دعم واضحة للاستثمار في إنتاج هذه البدائل.
رفع معدلات الاستهلاك، وخاصة للسلع والمواد المنتجة محلياً، مقابل تخفيض معدلات استهلاك السلع والمواد المستوردة، ويبدأ ذلك بزيادة الأجور بما يتناسب مع الحد الأدنى لتأمين متطلبات المعيشة.
وبعمق وعلى هامش كل ما سبق فإن كل ذلك يتطلب جهاز دولة قوي ومتحكم، مع خطة اقتصادية واضحة المعالم والغايات على مستوى معدلات النمو المطلوبة، وأوجه التنمية المستهدفة.
أي وبكل اختصار تغيير جملة السياسات الليبرالية المتبعة، بأهدافها وغاياتها، جملة وتفصيلاً، مع تقويض إمكانات القلة القليلة من كبار أصحاب الأرباح المستفيدين من هذه السياسات، والمتحكمين والمستقوين بها، نفوذاً وفساداً واستغلالاً، على حساب البلاد والعباد!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1131