رسمياً.. المشكلة ليست بظاهرة الأمبيرات المشوّهة.. بل بما يثار حولها ولمصلحة مَن بالتالي
مضى على نشوء ظاهرة الأمبيرات سنوات طويلة، انتشرت وتوسعت خلالها بشكل كبير في جميع المحافظات والمدن والبلدات، وبرغم معاناة المواطنين منها، ومن تراجع ساعات الوصل الكهربائي النظامية طيلة هذه السنوات، إلا أنها لم تحرك حفيظة الحكومة!
فما المستجد الذي حرك الحكومة الآن كي تطلب التدقيق بشأن ظاهرة الأمبيرات من قبل المحافظين!؟
فقد وجه رئيس الحكومة بتاريخ 22/6/2023 كتاباً إلى وزير الإدارة المحلية والبيئة بناء على ما تقرر في جلسة الحكومة بتاريخ 20/6/2023، كي يوجه المحافظين بدوره، للتدقيق فيما يثار حول ظاهرة بيع الطاقة الكهربائية المولدة عن طريق الأمبيرات وإحالة المخالفين إلى القضاء المختص لفرض أشد العقوبات بحقهم وفقاً للقوانين والأنظمة النافذة!
آراء متباينة يطغى عليها اليأس!
تم التعاطي مع مضمون الكتاب الحكومي أعلاه من قبل بعض المواطنين ببعض التفاؤل الحذر، آملين بتحسين واقع التزود الكهربائي الرسمي استناداً إليه، والحد من استغلال أصحاب مولدات الأمبير لحاجاتهم!
فيما تعاطى معه البعض الآخر من المواطنين بمزيد من اليأس المشروع، بأن كل ما يصدر عن الحكومة لن يكون بحال من مصلحتهم، بل لمصلحة كبار الحيتان كما جرت العادة!
فيما تناوله بعض الحقوقيين بجوانبه القانونية تفسيراً وتأويلاً، بين صلاحيات المحافظين وصلاحيات وزارة الكهرباء، بما يخص توليد وبيع الطاقة الكهربائية عبر مولدات الأمبير، على مستوى الترخيص والتسعير وساعات التشغيل وتوفير المازوت اللازم لتشغيلها، وذلك ارتباطاً مع سياسات الخصخصة المباشرة وغير المباشرة المعمول بها رسمياً!
خطوة إضافية نحو الشرعنة!
على الرغم من وجود عبارات ومفردات في متن الكتاب الحكومي أعلاه يظهر فيها التشدد، إلا إن التوجيه الحكومي يقتصر على جانبين في مضمونه فقط لا غير:
الجانب الأول هو «التدقيق» فيما يثار حول ظاهرة الأمبيرات، ولا ندري ما هو المثار المستجد حول الظاهرة الذي حرك بدوره حفيظة الحكومة تجاهه للتدقيق الآن؟!
والجانب الثاني هو التوجيه بإحالة المخالفين إلى القضاء، وهذا يعني أن هناك من يستثمر ويعمل بشكل نظامي ومرخص بتجارة الأمبيرات، وهؤلاء لا جناح عليهم!
على ذلك فالمشكلة بالنسبة للحكومة والرسميين ليست بالظاهرة المشوهة نفسها باعتبارها سلبية ومخالفة، بل بكيفية إدارتها ولمصلحة من، فقط لا غير!
وبالتالي فالنتيجة المتوقعة بموجب التوجيه الرسمي أعلاه هي مزيد من شرعنة ظاهرة الأمبيرات، ربما من خلال إصدار بعض التعليمات الناظمة لترخيص عملها بكل محافظة، على أنها شأن إداري خاص بكل منها، وبالتالي محاسبة المخالفين بالاستناد إليها!
وهذا تماماً ما تم توضيحه لاحقاً من خلال المكتب الصحفي في رئاسة مجلس الوزراء بأن التعميم الصادر عن جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 20-6-2023 المقصود به من يقوم بممارسة بيع الطاقة الكهربائية المولدة من مجموعات الديزل والبيع للمواطنين (الأمبيرات) دون إذن من الوحدة الإدارية والسيد المحافظ ودون أسس ومعايير معتمدة.
ما الذي أثار حفيظة الحكومة إذاً؟!
ونتساءل هنا، هل ما أثار حفيظة الحكومة الآن «للتدقيق» بشأن ظاهرة الأمبيرات هو:
الغيرية بشأن تراجع دور ومهام الدولة بما يخص قطاع الطاقة الكهربائية على مستوى الإنتاج والتوزيع والبيع، مقابل تغول وزيادة دور القطاع الخاص المشوه والاستغلالي بهذا القطاع؟!
أم مصالح المواطنين المضطرين للتزود بالطاقة الكهربائية من خلال الأمبيرات أو غيرها من البدائل، وما يتعرضون له من عوامل استغلال ونهب، وما يتكبدونه من نفقات وتكاليف كبيرة لأجل ذلك، بسبب تراجع وتردي الخدمة العامة، والذرائع غير المنتهية لتبرير هذا التراجع رسمياً؟!
أم هو واقع التنافس بين أصحاب ومستثمري مولدات الأمبير فيما بينهم للاستحواذ على أكبر حصة من جغرافيا التوزيع والبيع بكل محافظة ومدينة وبلدة وحي، ومع غيرهم من مستوردي وتجار البدائل الكهربائية الأخرى، وخاصة الطاقات البديلة (الألواح- البطاريات- الإنفيرترات..) أيضاً، للاستحواذ على الحصة السوقية الأكبر من البدائل الكهربائية؟!
تكريس رسمي لتغييب دور الدولة وللظاهرة الشاذة!
إن مضمون الكتاب الحكومي، كما هو واضح أعلاه، لم يتضمن التوجيه للمحافظين بمنع ظاهرة الأمبيرات الشاذة والمشوهة، أو الحد منها، كما تفاءل بعض المواطنين، بل على العكس تماماً!
فالكتاب فيه تكريس لهذه الظاهرة واعتراف رسمي بها، مع ترك الباب مفتوحاً، بما يخص شرعنتها ومخالفاتها وتحديد المخالفين، بعهدة المحافظين!
فالكتاب أعلاه من الناحية العملية لا يمثل استفاقة حكومية متأخرة على ظاهرة الأمبيرات، بل هو تكريس لتغييب دور الدولة وتراجعه على مستوى تلبية حاجات المواطنين بالتزود بالطاقة الكهربائية، وبما يضمن مصالح البعض المحظي من كبار الحيتان المستثمرين بالأمبيرات لسد جزء من هذه الاحتياجات، والتأكيد على محاسبة المخالفين غير المحظيين بأشد العقوبات!
الحيتان الكبيرة والمتطفلون الصغار!
الأمر استناداً إلى ما سبق لا علاقة له بالغيرية الحكومية على دور الدولة المتراجع، فالسياسات الحكومية ماضية باتجاه زيادة هذا التراجع بكل رحابة صدر وراحة ضمير، وكذلك لا علاقة له بمصالح المواطنين واستمرار الإضرار بها، ليس على مستوى التزود بالطاقة الكهربائية فقط بل على كافة المستويات، مقابل ضمان استمرار مصالح كبار أصحاب الأرباح طبعاً!
على ذلك فإن الأمر بات محصوراً على ما يبدو بالتنافس بين بعض الكبار المحظيين فيما بينهم، ومع من تطفل عليهم من متوسطي الأحجام أيضاً، بسبب زيادة حاجة المواطنين للبدائل الكهربائية وللأمبيرات!
ولعل عبارة «التدقيق فيما يثار» التي استخدمتها الحكومة لتفويض المحافظين، هي بغاية معالجة تطفل البعض على هذا الاستثمار النهبوي المتمثل بتجارة الأمبيرات، والذين ستطبق بحقهم أشد العقوبات القانونية على ما يبدو كي يصبحوا عبرة لغيرهم، وكي يبقى هذا الاستثمار حكراً على البعض!
المطلوب فرز ومركزة النهب الاستغلالي!
والنتيجة المتوقعة على إثر التوجيه الرسمي المستجد أعلاه أن تجري عمليات إعادة فرز وتقاسم ومركزة أكبر بين بعض الكبار فقط لا غير بما يخص الحصول على الأرباح المتأتية من الاستثمار الاستغلالي والجشع بالأمبيرات، وقطاع بدائل الطاقة عموماً!
فالحديث هنا عن مئات المليارات من الأرباح الصافية (السهلة والسريعة) يومياً وشهرياً، برأسمال استثماري محدود وضئيل يتمثل بسعر المولدة فقط لا غير والذي يتم استعادته مع الكثير من الأرباح خلال دورة رأسمال لا تتعدى الشهرين، على حساب ومن جيوب المواطنين، وهي لا شك مغرية بحيث يشتد التنافس من أجلها وعليها بين الحيتان الكبار والمتوسطين، والغلبة لمصلحة القلة من الكبار كالعادة طبعاً!
أما الحديث عن الإتجار بالخطوط المعفاة أو الذهبية لبيع الطاقة الكهربائية من قبل بعض النافذين، أو الحديث عن مصادر تأمين الكميات الكبيرة والضخمة من المازوت لتشغيل مولدات الأمبير المتزايدة والمتكاثرة يومياً، فهي ثانوية وغير هامة على ما يبدو، فكبار المتنفذين والفاسدين والناهبين قادرون على معالجة ولفلفة مثل هذه القضايا «الثانوية» بما يضمن لكل منهم استمرار حصته النهبوية والاستغلالية الكبيرة، تقاسماً وبلا صخب!
لا حلول لأزمة الكهرباء.. والتشوه سيزداد تعمقاً وتعفناً!
زيادة انتشار مولدات الأمبير وتكاثر عددها في المدن والبلدات، وتزايد الاعتماد على مصادر الطاقة البديلة (ألواح شمسية وبطاريات وغيرها)، بالتوازي مع عمليات الخصخصة المباشرة وغير المباشرة في قطاع الطاقة الكهربائية، والتشجيع على استخدام الطاقات المتجددة، هو نتيجة لتراجع حجم إنتاج الطاقة من محطات التوليد، وبالتالي لزيادة تناقص ساعات التزود الكهربائي بشكل كبير وعجزها عن تغطية الاحتياجات، المنزلية والصناعية والتجارية والخدمية، والتي ازدادت سوءاً بنتيجة استمرار سياسات تخفيض الدعم الجائرة المعممة على هذا القطاع، وغيره من القطاعات الأخرى، سيراً نحو إنهائه!
فمع استمرار التردي والتراجع وتخفيض الدعم، الذي أصبح يتمثل عملياً بتقليل ساعات الوصل الكهربائي إلى أدنى حدود ممكنة، فإن الاضطرار لهذه البدائل سيزداد دون أدنى شك، مع مزيد من الترويج لعمليات الخصخصة الجارية بهذا القطاع عبر نموذج الأمبيرات الاستغلالي والمشوه، أو عبر نموذج الطاقات البديلة الأكثر تشوهاً، والأهم مع مزيد من جرعات اليأس من أي تحسن بهذا القطاع بما ينعكس إيجاباً لمصلحة المواطنين!
فحتى الحديث الرسمي عن إمكانية تحسن وزيادة إنتاج محطات التوليد هو رهن بتوفر المشتقات النفطية اللازمة لتشغيل هذه المحطات، كذريعة مكررة وممجوجة ومستمرة!
ففي حديث منقول عن مدير في وزارة الكهرباء عبر صحيفة الوطن بتاريخ 22/6/2023، أنه: «مع أيلول المقبل ستكون محطات التوليد في وزارة الكهرباء قادرة على إنتاج نحو 5 آلاف ميغا واط في حال توفرت حوامل الطاقة (الغاز والفيول) بمقدار 20 مليون متر مكعب من الغاز و7500 طن من مادة الفيول.. وعن المتاح حالياً من الكهرباء، بين أنه خلال اليومين الأخيرين انخفض الإنتاج بحدود 185 ميغا واط بسبب تراجع توريدات حوامل الطاقة حيث كان يصل نحو 6,7 ملايين متر مكعب من الغاز».
على ذلك فإن وضع المجموعة الغازية الأولى والثانية لمحطة الرستن في الخدمة، أو إعادة تأهيل مجموعات التوليد في محطة دير علي لوضعها في الخدمة لاحقاً، مع تشغيل مجموعات توليد محطة حلب المعاد تأهيلها، بل وحتى مشاريع الطاقات المتجددة التي يتم الترويج لها، كل ذلك لن يؤثر إيجاباً على مستوى تحسين وزيادة ساعات التزود بالطاقة الكهربائية في ظل استمرار ذريعة نقص توريدات المشتقات النفطية، وفي ظل الاستمرار بسياسات تخفيض الدعم الجائرة، وبالسياسات التفريطية الأكثر تشوهاً المتسببة بكل ما سبق، سواء على مستوى مصلحة المواطنين والإضرار المباشر بها، أو على مستوى دور الدولة المتراجع والمتآكل يوماً بعد آخر!
فالسياسات المشوهة والظالمة المعمول بها لمصلحة القلة القليلة من كبار أصحاب الأرباح والناهبين، علناً وبكل فجاجة وصلف، لن تولّد إلا المزيد من التشوه والتفسخ والتعفن والظلم، على كافة المستويات وبالضد من مصلحة السوريين والمصلحة الوطنية!
فلا حلول لأزمة الكهرباء، أو غيرها من الأزمات الكثيرة الأخرى، إلا من خلال إنهاء هذه السياسات الظالمة والمنحازة والاستغلالية لدرجة التوحش بداية وقبل أي شيء، وصولاً إلى التغيير الجذري والعميق والشامل، بما يضمن فعلاً مصلحة البلاد والعباد!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1128