هل محصول القمح مسألة زراعية فقط؟!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

هل محصول القمح مسألة زراعية فقط؟!

تتراجع مواسم القمح عاماً بعد آخر، بالتوازي مع استمرار وضع الخطط الزراعية، على مبدأ القص واللصق، المترافقة مع كثرة الحديث عن الدعم، والتي تظهر خلّبيتها بالمحصلة (على مستوى المساحة المنفذة وكم الإنتاج الحقيقي والدعم الفعلي)، مع تكاثر المبررات والذرائع لهذا التراجع، اعتباراً من متغيرات عوامل الطبيعة، وليس انتهاءً بمبررات الحرب والأزمة والحصار والعقوبات!

فهل موضوع القمح ومواسمه مسألة زراعية، باعتباره محصولاً من جملة المحاصيل الأخرى، ولم يعد إستراتيجياً بالتالي؟
أم شأن اقتصادي ومالي، يدرج ضمن حسابات الربح والخسارة في الميزان التجاري (استيراداً وتصديراً)؟
أم قضية أمن غذائي باعتباره المادة الأساسية في صناعة الرغيف، وخاصة مع تزايد نسبة غير الآمنين غذائياً من السوريين؟
أم قضية سياسية وسيادية تجمع كل ما سبق من نقاط، مع غيرها الكثير؟

مسيرة التراجع المطرد!

للتذكير فإن مسيرة مواسم القمح مما قبل 2011 وحتى الآن هي مسيرة تراجع مطرد، من الاكتفاء الذاتي والتصدير (مع الاحتفاظ بمخزون إستراتيجي لمدة عامين) عندما وصل الإنتاج إلى ما يتجاوز 4 ملايين طن منذ عقدين، وصولاً إلى الاستيراد لتأمين احتياجات الرغيف منذ عدة أعوام وحتى الآن!
فقد وصل الفائض المتاح للتصدير من القمح في بعض الأعوام إلى أكثر من 1,5 مليون طن، بينما وصلنا الآن إلى استيراد نفس هذه الكمية سنوياً بشكل تقريبي لسد احتياجات صناعة رغيف الخبز فقط!

الخطط الزراعية الورقية!

بحسب تصريح مدير الإنتاج النباتي في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي المهندس أحمد حيدر لوكالة سانا بتاريخ 22/11/2022 أن: «زراعة القمح والشعير بدأت في الأول من الشهر الجاري، وتستمر حتى نهاية شباط القادم، وبلغت المساحة المزروعة بالقمح حتى الآن 53476 هكتاراً منها 30493 هكتاراً مروياً و22983 هكتاراً بعلاً، وذلك من إجمالي المساحة المخططة البالغة 1,6 مليون هكتار، مشيراً إلى أن المساحات المزروعة أكبرها في الرقة 21 ألف هكتار تليها الحسكة 20095 ألف هكتار ثم حلب 7300 هكتار».
ولفت حيدر إلى أن: «الهطولات المطرية التي شهدتها أغلب المحافظات مؤخراً ساعدت المزارعين على فلاحة أراضيهم وتحضيرها لزراعة المحاصيل الشتوية، وخاصة محصولي القمح والشعير، مؤكداً توفر البذار والمحروقات التي توزع على المزارعين».
الحديث عن خطة زراعة بمساحة 1,6 مليون هكتار بالقمح للموسم القادم يذكرنا بكل الخطط الزراعية السابقة غير المنفذة، بما في ذلك ما سمي منذ سنتين «بعام القمح»، والتي كانت إحدى محصلاتها على سبيل المثال هي نتائج الموسم الأخير، والتي لم تتجاوز كمية الإنتاج المسلم لمؤسسة الحبوب فيه 600 ألف طن فقط لا غير!
فالمساحة المخططة أعلاه هي نفسها المساحات التي وصل خلالها الإنتاج إلى كمية تزيد عن 4 ملايين طن قمح في بعض السنوات، والتي بدأت بالتراجع مع آليات تخفيض الدعم المطبقة رسمياً مما قبل سني الحرب والأزمة، والتي كان من نتائجها هجرة الزراعة والأرض، وبالتالي تراجع الإنتاج!
ولن نستبق الأمور بالحكم على نتائج الخطة أعلاه مسبقاً، لكن ماذا تغير كي نتوقع نتائج أفضل للموسم القادم استناداً لهذه الخطة؟!

المكتوب وعنوانه!

ربما المتغير الهام الذي يجب الإضاءة عليه في البداية هو استمرار تراجع الدعم على الزراعة والإنتاج الزراعي، بمستلزماته وآليات تسعيره وتسويقه، وخاصة بالنسبة للأسمدة والمحروقات!
فما بقي من دعم عملياً هو الحديث الرسمي الخلبي عن توفير البذار والمحروقات للمزارعين فقط لا غير، والذي سقط على أرض الواقع أيضاً!
فعند السؤال عن واقع تأمين البذار والمحروقات مع بدء عمليات الزراعة للموسم القادم، بحسب حديث مدير الإنتاج النباتي أعلاه، أفاد بعض المزارعين بأن ذلك لم يتم، وخاصة بالنسبة للمحروقات!
فالأسمدة تم تحرير سعرها رسمياً، بما في ذلك ما يتم تأمينه من كميات (محدودة وحسب المتاح) عبر المصرف الزراعي، وبالتالي فإن الاحتياجات اللازمة من الأسمدة، بمختلف أنواعها ومسمياتها، متحكم بها عبر السوق وبآلياته (سعراً ونوعاً ومواصفة).
وكذلك واقع المحروقات التي توزع مخصصاتها المدعومة «بالقطارة» وبأقل من الاحتياج الفعلي، مقابل الاضطرار لتأمين بقية الاحتياج من خلال السوق السوداء وبأسعاره الكاوية!
وكذلك البذار، حيث يعتمد المزارعون على ما احتفظوا به من كميات لزراعتها للموسم التالي، لتغطية نقص الكميات المستلمة رسمياً من مؤسسة إكثار البذار!
لنصل أخيراً إلى آليات تسعير المحصول رسمياً، والتي يقال عنها دائماً أنها مجزية للمزارعين، إلا أنها بالكاد تغطي تكاليف عمليات الإنتاج فقط لا غير!
فهل نتوقع بعد ذلك إنجاز الخطة الورقية الطموحة أعلاه، أم سيكون مصيرها كغيرها من الخطط الورقية الخلبية؟!

تقزيم القضية!

بات الحديث الرسمي عن مواسم القمح وخططه يقتصر غالباً بعلاقته مع الاحتياجات من أجل صناعة رغيف الخبز فقط لا غير، وبالتالي يتم بحث الأمر من زاوية تأمين هذه الاحتياجات استيراداً (قمح أو طحين)، مع الكثير من التركيز على الدعم المقدّم لهذا الرغيف وباسمه!
هذا التقزيم والتركيز يبعد الأنظار عن:
التراجع المستمر بمواسم القمح وأسبابه الرئيسية، وخاصة إجراءات تخفيض الدعم الرسمية والظالمة.
وعن موضوعة الاكتفاء الذاتي منه، غير المحصورة بصناعة الرغيف فقط، بل المفتوحة على كل الصناعات الغذائية المحلية التي يدخل القمح ضمن أساسياتها كمادة أولية (البرغل والفريكة- المعكرونة والشعيرية- النشا- البسكويت وغذائيات الأطفال- الحلويات.. وغيرها الكثير)، والتي تشغّل أيدياً عاملة إضافية، وتحمل قيمة مضافة!
وعمّا تؤمنه مخلفات المحصول من أعلاف أيضاً، تخفف فاتورة استيراده.
وكذلك يبعد الأنظار عن كمية فائض الحاجة المتاحة للتصدير منه سنوياً، مع عائداتها من القطع الأجنبي.
مقابل إظهار عمليات استيراد الاحتياجات من القمح لتأمين صناعة الرغيف على أنها انتصار في معركة الحصار والعقوبات، لتغييب نسب الربح والنهب المضافة على هذه العمليات، أو لتبرير ارتفاعها بأحسن الأحوال!

فماذا يعني استمرار تراجع مواسم القمح؟!

إن استمرار تراجع مواسم القمح عاماً بعد آخر تعني التالي:
استمرار تراجع المستوى المعيشي للمزارعين المعتمدين على هذا الموسم كمصدر أساسي لتغطية تكاليف معيشتهم، وبالتالي استبدال زراعة المحصول بزراعات أكثر جدوى اقتصادية لهم، أو هجرة الزراعة والأرض.
خسارة عائدات تصدير الفائض عن الحاجة من المواسم.
تراجع الصناعات الغذائية التي تعتمد على هذا المحصول كمادة أولية، وبالتالي فقدان بعض العاملين في هذه الصناعات لمصدر رزقهم، وفقدان القيمة المضافة من خلالها، وخسارة السوق المحلي لمنتجاتها، بل وخسارة عائدات تصدير الفائض منها عن الاحتياجات المحلية.
ارتفاع فاتورة استيراد الحاجة لتأمين صناعة رغيف الخبز، مع ارتفاع فاتورة استيراد الأعلاف أيضاً.
رهن الأمن الغذائي للمواطن بعوامل وشروط الاستيراد ومتغيرات الأسعار في الأسواق الدولية، مع تبرير هوامش النهب المتزايدة بذريعة العقوبات والحصار.

مصالح الناهبين والمصلحة الوطنية

إن تقويض إنتاج القمح، وكل الإنتاج الزراعي والصناعي عموماً، وصولاً إلى مساعي القضاء على كل ما هو منتج في البلاد، يصب في مصلحة شريحة كبار الناهبين والفاسدين من أصحاب الأرباح، الساعين لزيادة أرباحهم عبر كل السبل الممكنة والمتاحة، بداية من سيطرتهم وتحكمهم بآليات السوق واحتياجاتها، مروراً بمساعي رفع فاتورة الاستيراد، لتحويل مجمل الاقتصاد (المتحكم به من قبلهم) إلى اقتصاد استهلاكي غير منتج، وصولاً إلى التضحية بالأمن الغذائي، وكل ذلك محمي من خلال السياسات الرسمية (الطبقية والظالمة) المتبعة منذ عقود وحتى الآن، والمسخّرة لخدمة مصالح هذه الشريحة فقط لا غير، وعلى حساب المنتجين والمستهلكين والإنتاج الوطني والمصلحة الوطنية!

القمح قضية سياسية ووطنية

ما سبق يؤكد أن محصول القمح هو قضية سياسية ووطنية وسيادية بامتياز، وعلى الرغم من ذلك يتم التعامل معه رسمياً بالكثير من الاستهتار واللامبالاة، وصولاً إلى اعتباره محصولاً من المحاصيل الزراعية بعهدة وزارة الزراعة، التي تضع له الخطط النظرية بغض النظر عن مدى تنفيذها (كمسألة زراعية فقط لا غير)، بعد أن سقطت عنه مفردة «الإستراتيجي» (وبقيت للتغني والمزاودة) اعتباراً من بدء تخفيض الدعم عنه رسمياً منذ عقود، وصولاً إلى إنهائه الآن!
فهل من الممكن أن يستعيد المحصول اعتباره «كمحصول إستراتيجي»، له الأهمية الوطنية، بحال استمرار نفس السياسات الظالمة والنهج التدميري القائم؟
بكل اختصار لا يمكن ذلك، لا على مستوى محصول القمح ولا على مستوى أي محصول أو منتج آخر (زراعي أو صناعي)، إلا من خلال إنهاء هذه السياسات جملة وتفصيلاً، بالتوازي مع ضرب مصالح شريحة المنتفعين من استمرارها (استغلالاً ونهباً وفساداً) مع تقويض نفوذهم، أي التغيير الجذري والشامل بما يحقق مصلحة البلاد والعباد!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1098