استجداء المساعدات...لمزيد من النهب والفساد
«تعزيز حالة الأمن الغذائي والتغذية السليمة لا يقتصر على الإمدادات وتوفير الغذاء فقط، ورغم توفر ما يكفي من المعروض من الغذاء في الأسواق، يعجز الكثيرون عن تحمل كلفة نمط غذائي صحي، ما يعرّضهم بشدة لخطر المعاناة من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية».
العبارة أعلاه هي اقتباس من كلمة وزير الزراعة التي ألقاها في يوم الغذاء العالمي الذي أحيته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة «الفاو» خلال الأسبوع الماضي.
فقد تطرق الوزير إلى العديد من المواضيع خلال كلمته، وخلال هذه المادة سنقف عند أبرز وأكثر المواضيع اللافتة في كلمة الوزير، والتي تحتاج إلى العديد من الإيضاحات والتفنيد!
اعترافات بأسباب تفتقر لجزء هام من الحقيقة!
من اللافت أن الوزير خلال كلمته ذكر أنه: «على الرغم من توفر كافة المواد الغذائية في الأسواق، فهناك عجز لدى الغالبية في تحمل تكاليف نمط غذاء صحي»، ما يعني ذلك أنه اعتراف حكومي بأن حالة انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية التي وقع في براثنها الغالبية المفقرة من المواطنين سببه عجزهم عن تحمل تلك التكاليف الباهظة!
ولكن هذا الاعتراف جاء منقوصاً في حقيقة الأمر، فقد عزا الوزير ذلك في تتمة حديثه أعلاه: «بسبب العقوبات والحصار وقانون قيصر ومحدودية التدخلات المقدمة من قبل المنظمات والحرب التي مرت على سورية»، وحسب قوله: «ما زاد الطين بلة أن كل ذلك ترافق مع التغيرات المناخية التي أثرت سلباً على الواقع الزراعي، مما أدى إلى زيادة نسبة السكان الذين فقدوا أمنهم الغذائي بالإضافة إلى النسبة الكبيرة التي باتت على أعتاب تهديد أمنها الغذائي...».
يصور الوزير أن حال العجز الشعبي والحكومي محصور بجملة الأسباب التي قدمها عبر المنبر الدولي فقط، طبعاً بغاية الحصول على مزيد من المساعدات الأممية، وكأنما السياسات الاقتصادية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة، ومن خلفها من أصحاب النفوذ وقوى النهب والفساد، لم تفعل فعلها، ولم تكن الشريك الأكبر فيما أوصل الشعب السوري إلى حالة العجز وانعدام الأمن الغذائي؟!
فصحيح أن العقوبات والحصار...إلخ، في نهاية المطاف قد أثرت بشكل أو بآخر على الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، ولكن درجة ذلك التأثير وعمقه يتحددان بجملة الإجراءات المضادة التي كان من واجب الحكومة اتخاذها لتجنيب المواطنين دفع ضريبة تلك العقوبات بأقل الخسائر الممكنة...
ويبدو أن الوزير قد تغافل أن هذا العجز الذي وصل إليه المواطن هو نتيجة لحالة انعدام العدالة في توزيع الأجور والأرباح، وما زاد الطين بلة رفع الدعم المستمر حكومياً ودون أي تحسن على الأجور والمستوى المعيشي بالمقابل...!
عقوبات ولكن؟!
فماذا فعلت الحكومة لتجنيب المواطنين مأساة العقوبات والحصار، أو الوصول إلى حافة العوز والجوع؟!
فبحسب المعطيات والقرارات الملموسة فقد كانت الحكومات المتعاقبة ولا تزال شريكاً أساسياً في زيادة مأساة المواطن باتجاه التضيق المستمر عليه، وخنقه معيشياً وخدمياً، إلى ذلك الحد الذي أدى إلى هجرة المزارعين لأراضيهم الزراعية والعمل الزراعي المنتج، مع مزيد من موجات الهجرة الداخلية، وصولاً إلى تطفيشهم وتهجيرهم إلى خارج البلاد!
بل وإن صح التعبير فإن الحرب والأزمة والعقوبات والحصار كانت شريكاً لاحقاً لسياسات الحكومات المتوالية، والتي أوصلت المواطنين إلى هذا الحد من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية... بالإضافة إلى مفرزات ونتائج الحرب والأزمة طبعاً.
تراجع القطاع الزراعي
إن تراجع القطاع الزراعي خلال سنوات الحرب كان نتيجة حتمية «بسبب خروج مساحات واسعة من الأراضي خارج سيطرة الدولة»، وربما «تضرر البنية التحتية» أيضاً كما تحدث الوزير، ولكن بعد أن انتهت الأعمال العسكرية وتمت استعادة غالبية الأراضي، هل شهدنا تحسناً بما يخص الإنتاج الزراعي أو غيره؟!
وفقاً للأرقام فإن تراجع الإنتاج الزراعي ونسبة تراجع الأراضي المزروعة لا يزال مستمراً، بل باتت أرقام الإنتاج الزراعي خلال المواسم في سني الحرب أفضل بكثير مما هي عليه حالياً، سواء كان على مستوى المحاصيل الإستراتيجية كالقمح، وأيضاً موسم الحمضيات الحالي، الذي بات متراجعاً وفق أرقام مهولة تم التطرق إليها خلال العدد السابق 1092.
والحقيقة أن العقوبات باتت شماعة تعلق عليها كافة الأسباب ولتبرير الموبقات التي يتم اتخاذها بالضد من مصلحة المواطن والوطن.
فتراجع الإنتاج بات حالة معممة على كافة القطاعات الإنتاجية، وذلك بسبب رئيسي ألا وهو إجراءات تخفيض الدعم التي تم إقرارها والبدء بها بجرعات غير مسبوقة منذ سنوات سبقت الأزمة، وتحديداً منذ عام 2005.
وخلال سنوات الحرب والأزمة والحصار زادت وتيرة تخفيض الدعم الرسمي، في الوقت الذي يفترض أن تُتخذ إجراءات معاكسة تدعم الإنتاج ومستوى المعيشة، وهي الحالة الطبيعية لأي بلد يسعى لمواجهة الحصار والعقوبات!
فما جرى كان بالضد تماماً، فلم يعد يلقى المزارع سوى جزء قليل جداً لدعم إنتاجه الزراعي، سواء من المحروقات أو من المبيدات والأسمدة، حتى بات دعماً أسمياً وخلبياً لا فعلياً، بالإضافة إلى معاناة المزارع عبر تأمين مستلزمات إنتاجه من خلال السوق السوداء بتكاليفها المرتفعة جداً، ولا ننسى غياب التنفيذ الفعلي لإستراتيجيات مواجهة التغيرات المناخية وقلة الأمطار!
وإذا وصلنا إلى نهاية موسم الإنتاج، أي إلى مرحلة التسويق، نجد الحكومة لا تضع أسعاراً تسويقية مجدية تغطي التكلفة الحقيقية لإنتاج المزارع، مما يجعله يقلع عن بيع موسمه للحكومة، وهذا ما وصلنا إليه خلال موسم القمح، فقد كان هناك أسعار تسويقية منافسة للحكومة أدت بالمزارع إلى تفضيل بيع محصوله بأسعار مجدية تغطي تكاليف إنتاجه لتجار وسماسرة السوق السوداء، أو أن يضطر لبيع موسمه بخسارة تجنباً للخسارة الأكبر، كما حال مزارعي محصول الحمضيات، كل تلك العوامل أدت إلى تراجع الإنتاج كماً ومساحةً، بل وإقلاع المزارعين عن زراعة المحاصيل الإستراتيجية وغيرها من المحاصيل التي تحقق أمناً غذائياً هامّاً، مقابل زراعات أخرى مجدية وذات تكلفة أقل على المزارع.
إن إجراءات تخفيض الدعم، بالتوازي مع جملة السياسات الاقتصادية المتبعة، أدت بنهاية المطاف إلى تراجع الإنتاج، ما برر للحكومة تشريع عمليات الاستيراد أمام المتنفذين المتحكمين بعمليات الاستيراد والتصدير لجني المزيد من الأرباح على حساب وأد الزراعة والإنتاج الوطني وزيادة مأساة المواطن المستهلك مع ارتفاع تكاليف المعيشة المستمرة بل والمهولة... وصولاً إلى نسب متزايدة من انعدام الأمن الغذائي!
ملخص الكلمة
لن نبالغ إذا قلنا إن ملخص الكلمة التي ألقيت باسم سورية في المحفل الدولي كانت بغاية استجداء المساعدات والتمويل، والتي جرى استخدام المواطن المفقر الذي يعاني من انعدام أمنه الغذائي حقاً ووسيلة في ذلك، لشحن عواطف المجتمع الدولي ليس إلا، ومن أجل المزيد من المساعدات التي لا ينوب المواطن منها شيء بالنتيجة، بل يجري استثمارها من قبل نفس الحيتان المتنفذين، كقناة إضافية تضاف إلى أقنية الفساد والربح الذين لا يزالون يتخمون بها نهمهم للمزيد من الأرباح، على حساب جوع المواطن وأمنه الغذائي، بل وعلى حساب أمن الوطن...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1093