بذريعة الدعم الصناعي مزيد من الوأد الزراعي
أصدرت رئاسة مجلس الوزراء كتاباً بتاريخ 3/7/2022، يقضي بتكليف وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية التنسيق مع وزارتي الزراعة والصناعة، وذلك للسماح لمنشآت الصناعات الغذائية باستيراد احتياجاتها من (الحمص– العدس- الفول) للتعليب بموجب المخصصات الصناعية منها، شريطة أن يتم تصدير 50% من الكميات المستوردة.
وقد صدر تعميم وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية إلى مديريات الاقتصاد والتجارة الخارجية وإلى مديرية الجمارك العامة بمضمونه بتاريخ 4/8/2022، أي بعد شهر من تاريخ الكتاب الحكومي أعلاه.
فهل يؤدي الكتاب الحكومي الغاية منه بتيسير عمل المنشآت الصناعية، وزيادة الكم المصنع «المعلب» المعد للتصدير من هذه المواد، والأهم ما هو تأثير ذلك على واقع الإنتاج الزراعي لهذه المحاصيل؟
واقع المحاصيل
في البداية ربما لا بد من التوقف عند واقع المحاصيل الزراعية التي تم السماح باستيرادها، بذريعة دعم المنشآت الصناعية.
فلم يعد خافياً على أحد ما يعانيه الإنتاج الزراعي عموماً من صعوبات ومعيقات ومشكلات، وخاصة على ضوء عمليات تخفيض الدعم الجارية على قدم وساق على هذا الإنتاج، وترك مستلزماته بيد حفنة من المحتكرين، وتحت رحمة شبكات السوق السوداء، الأمر الذي أدى عملياً إلى تراجع الإنتاج الزراعي بشكل كبير.
فمحاصيل الحمص والعدس والفول جزء من هذا الإنتاج، وقد تفاوتت معدلات إنتاجها مع تراجع سنوي فيها، وصولاً للاضطرار الآن إلى استيرادها من أجل استمرار عمل المنشآت الصناعية التي تعتمد على هذه المواد كمدخلات إنتاج بغاية تعليبها وإعادة طرحها في الأسواق، أو من أجل تصديرها.
فقد كانت كميات المحاصيل المنتجة من هذه المواد في كثير من السنوات تكفي احتياجات السوق المحلي، مع فائض تصديري منها في بعض السنوات، بالإضافة إلى تغطية الاحتياجات الصناعية منها بغاية تعليبها وتصديرها، لكن ذلك لم يستمر بسبب جملة من العوامل والأسباب، أهمها تراجع الدعم الحكومي المستمر والسياسات الزراعية عموماً، مما أدى إلى اتخاذ قرار حكومي بمنع تصدير هذه المحاصيل منذ عدة سنوات وحتى الآن، مع الاستمرار بنفس النهج والسياسات المعيقة للإنتاج الزراعي، بل المؤدية إلى ضربه والمزيد من تراجعه وانحساره، وكل ذلك بما يحقق مصالح كبار حيتان الاستيراد قولاً واحداً، بغض النظر عن مصالح المنتجين والمستهلكين والمصلحة الوطنية.
تفاصيل القرار الحكومي
يسمح للصناعي باستيراد المخصصات السنوية وفق أربع أرباع، ينظم الصناعي تعهداً لدى مديريتي الصناعة والاقتصاد بالتزامه لتصدير 50 % من الكميات المستورة خلال الربع الواحد، كما لن يمنح الصناعي إجازة استيراد للربع الثاني إلا بعد تقديم كتاب لمديرية الجمارك يثبت تصديره للكمية المذكورة، وفي حال عدم التزامه بالتصدير خلال مدة 6 أشهر من تاريخ الاستيراد يتم إيقاف منحه إجازة الاستيراد لتلك المواد المذكورة، بالإضافة إلى حرمانه من الاستيراد لمدة شهر واحد.
التفاصيل أعلاه تبدو بغاية دعم الصناعة والمنشآت الصناعية التي تعمل بتعليب هذه المحاصيل، مع ترشيد وضبط عمليات الاستيراد، وربطها بالغاية منها المتمثلة بتغطية جزء من الاحتياجات المحلية بواقع 50% من الكميات المستوردة، مع التأكيد على الكم التصديري المعلب منها بواقع 50% من الكمية المستوردة أيضاً.
فهل ستتحقق هذه الغايات؟
الهوامش الزمنية لمصلحة من؟
على مستوى الهوامش الزمنية المذكورة في متن التوجه الحكومي أعلاه فهي ذات شقين:
الشق الأول واضح نوعاً ما ومرتبط بعمليات الاستيراد والتعليب والتصدير، وسقفه الزمني 6 أشهر، ولا ندري إن كان هذا الهامش الزمني يؤدي غاية تنشيط عمل المنشآت الصناعية، خاصة في ظل صعوبات عمليات الاستيراد والتصدير لغايات الإنتاج الصناعي، وهوامشها الزمنية الخاصة بها، وتكاليفها المباشرة وغير المباشرة، ومن يتحكم بهذه الهوامش بالنتيجة!
وربما السؤال الأهم بهذا الصدد ما هي القيمة المضافة عبر التعليب المحلي لمنتجات مستلزماتها مستوردة، وهل ستحقق الجدوى الاقتصادية منها التي تفسح المجال أمام استمرار صناعة التعليب نفسها مستقبلاً!؟
والشق الثاني مغيب تماماً وهو مرتبط بمواعيد زراعة وحصاد هذه المحاصيل محلياً، فالموافقة على استيراد هذه المواد صدرت مفتوحة وغير مسقوفة زمنياً، لا بمواعيد الحصاد، ولا بالكم المنتج المتوقع منها في الموسم القادم على أقل تقدير!
والخشية من ترك الهوامش بهذا الشكل، المفتوح من طرف، والمقيد من طرف آخر، أن تكون النتيجة على حساب الإنتاج اللاحق من هذه المحاصيل، وعلى حساب الاحتياجات المحلية منها بالنتيجة، وكذلك على حساب صناعة التعليب المرتبطة بها!
ولم لا، ففي ظل أنماط النهب والفساد المتفشي والسائد بما يحقق مصالح أصحاب الأرباح على طول الخط ربما سنشهد جزءاً من هذه المستوردات، وما يضاف إليها عبر مسارب التهريب، في الأسواق المحلية، ما يؤدي إلى مزيد من الضغط على الإنتاج المحلي منها، بما في ذلك الجزء المعلب، عبر أدوات التحكم والمنافسة المسيطر عليها من قبل بعض الحيتان الكبار، أي مزيد من تراجع الإنتاج الزراعي بالنتيجة، والاضطرار إلى مزيد من التوسع في عمليات الاستيراد لاحقاً!
مسيرة الاستيراد والوأد الزراعي
من الواضح أن القرار أعلاه فتح باب الاستيراد أمام أصناف جديدة من المحاصيل الزراعية، مع تنظيم شكلي لعمليات استيرادها والتي ستكون على حساب إنتاجها محلياً، والذرائع الحكومية الشكلية دائماً جاهزة، لتختبئ الآن تحت عباءة دعم القطاع الصناعي وتشجيع التصدير!
فجملة السياسات والقرارات التنفيذية الحكومية تعكس ثقل الجهود الحثيثة ووزنها النوعي الكبير للعمل على ضرب الإنتاج الزراعي المحلي، الذي كان يلبي حاجة السوق المحلي بل ويفيض عنها للتصنيع والتصدير، وفق منهجية تتمثل برفع الدعم المستمر عن القطاع الزراعي، والعمل على خلق صعوبات عدة أمام المزارع لتأمين مستلزمات إنتاجه من البذار إلى السماد وصولاً إلى المحروقات، وجعله مضطراً إلى اللجوء لتأمينها عبر شبكات السوق السوداء بأسعارها المرتفعة، والمتروكة بلا رقيب أو سلطان، وما يترتب عن ذلك من نتائج تجعل المزارع يشعر بالمزيد من الاغتراب عن إنتاجه وأرضه، ليهجرها شيئاً فشيئاً، مقابل ما تقدمه الحكومة من تسهيلات أمام عمليات الاستيراد دعماً لمحتكريها من القلة الناهبة المسيطرة على مقدرات البلاد والعباد، وكل مرة بذريعة، لتحقيق المزيد من الأرباح في جيوبهم على حساب جيب المواطن المفقر وأمنه الغذائي!
فشريحة المستفيدين من صفقات الاستيراد والتصدير، بحلتها وذريعتها الجديدة، ستدرج هذه المحاصيل الثلاثة (الحمص- الفول- العدس) إلى جانب ما سبقها من محاصيل زراعية صناعية إستراتيجية عديدة، يستمر العمل الحثيث على وأد إنتاجها وتصنيعها محلياً، ومنها مثلاً (القطن- القمح- الشوندر السكري– الحمضيات)، ولصالح شبكات النهب والفساد الكبير، المسيطرة على العمليات الاقتصادية في البلاد، لتحقيق المزيد من الأرباح، ولو كان ذلك على حساب الإنتاج (الزراعي والصناعي)، وعلى حساب مصلحة المواطن المستهلك وأمنه الغذائي، والمصلحة الوطنية عموماً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1083