ترك الأطفال ظاهرة مُقزّمة
كثرت الحالات الموثقة رسمياً عن ترك الأطفال، وخاصة خلال السنتين الماضيتين، وقد تراوحت أعمار هؤلاء الأطفال المتروكين بين الرضع بعمر أيام وشهور، إلى السنين الأولى من أعمارهم الغضة.
فهل يمكن اعتبار حالات ترك الأطفال المتزايدة ظاهرة أم سلوكاً فردياً، وبمسؤولية من رصدها وتبيان أسبابها ودوافعها، وبالتالي معالجتها؟!
رسمياً.. ليست ظاهرة!
بتاريخ 13/3/2019 وعبر إذاعة شام إف إم نفى عضو المكتب التنفيذي لقطاع الصحة والشؤون الاجتماعية والدفاع المدني في محافظة دمشق، باسل ميهوب، وجود تزايد بحالات ترك الأطفال في الشوارع من قبل ذويهم، حيث وضح أن: «وجود تزايد في الحالات يعني تحوّل الحالة من سلوك إلى ظاهرة وإيجاد أربع إلى خمس حالات يومياً، لكن الخط البياني المتعلق بوجود أطفال متروكين في الشارع أظهر أن الحالة نقطية».
بمعنى آخر فإن المسؤولين ما زالوا ينظرون إلى المشكلة على أنها سلوك فردي ولم تتحول إلى ظاهرة بعد!
فمعيار الانتقال من السلوك إلى الظاهرة هو أن يتم تسجيل المزيد من حالات ترك للأطفال يومياً.. هكذا!
تزايد الحالات
بحسب المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي الدكتور زاهر حجو في تصريح لصحيفة الوطن بتاريخ 12/5/2022 قال إنه: «تم توثيق 38 حالة عثور على لقطاء منذ بداية العام الحالي وحتى تاريخه، منهم 17 أنثى و21 ذكراً».
العدد 38 كحالات ترك أطفال خلال مدة أربعة أشهر ونصف تعني أن هناك أكثر من ثمانية حالات ترك أطفال شهرياً، وهي الحالات الموثقة رسمياً ضمن تبويب «لقطاء» يتم تسليمهم للجهات المخولة رسمياً بذلك، وهي لا تشمل ما تم توثيقه وتبويبه ضمن حالات «الوفاة»، أو الحالات غير الموثقة رسمياً، وخاصة في مناطق خارج سيطرة الدولة!
فهل هذا الرقم يعتبر ضئيلاً في الحسابات الرسمية؟
وهل يكفي تسليط الضوء على المشكلة «الظاهرة» من البوابة القانونية، وما يترتب على الفاعل من عقوبة بموجب النصوص القانونية المعمول بها، وكيفية تسليم هذه الحالات إلى الجهات الرسمية المخولة، أم إن الموضوع أعمق من الجانب الجنائي للمشكلة، واوسع من حدودها وجوانبها ذات البعد الأخلاقي أو الإنساني العام؟
وهل يكفي تقزيم الظاهرة باقتصارها على المتروكين من الأطفال بعمر الأيام والشهور فقط؟
الواقع الكارثي أكبر
الظاهرة ليست مقتصرة على مدينة دون أخرى، فقد تم رصد وتوثيق حالات ترك للأطفال في غالبية المدن والمحافظات، تحت سيطرة الدولة أو خارجها، وكذلك فإن ظاهرة ترك الأطفال لا يمكن تقزيمها على مستوى من يتم توثيقهم من حالات بعمر الأيام والأشهر، بل والسنين الأولى من العمر، مع حال من التجييش العاطفي والإنساني بغاية إعادة توجيه الإدانات للأهل الظالمين فقط، مع عدم نفينا لمسؤوليتهم طبعاً!
فكل طفل في الشارع هو طفل متروك بغض النظر عن عمره، عاملاً أو متسولاً أو مشرداً، وكل طفل متسرب من المدرسة هو طفل متروك، وكل طفل تنتهك حقوقه هو طفل متروك، وبمعنى أكثر مباشرة ووضوح فكل طفل محروم من طفولته يعتبر طفلاً متروكاً.
فكم طفل بواقعنا يمكن تبويبه على أنه متروك بناء على ذلك، وهل يمكن بعد كل هذا ألا ينظر للمشكلة على أنها ظاهرة، وقد باتت خطيرة جداً وكارثية؟!
غياب الإحصاءات والقفز على الواقع
الطفولة باتت مستلبة ومنتهكة في واقعنا، ولا إحصاءات تشير إلى حجم الكارثة التي يدفع ضريبتها الأطفال حالياً، والمجتمع ومستقبل البلد تالياً، اللهم باستثناء بعض التقارير الأممية لمنظمة رعاية الطفولة التي أشارت في أحد تقاريرها العامة بأن: «ربع أطفال العالم يحرمون من طفولتهم»، أي واحد من كل أربعة أطفال يعتبر من المحرومين من الطفولة.
فهل هذا الرقم ضئيل، وما هي حصتنا من هذه النسبة بواقعنا المعاش؟
فكم طفل سوري واجه قسراً حرماناً من طفولته، ونهاية مبكرة لها، موتاً مباشراً بنتيجة العنف خلال سني الحرب، أو بسبب النزوح وإعادة النزوح، أو بسبب الزواج المبكر، أو من خلال عمالة الأطفال، أو تسرباً من المدارس، أو مرضاً وعوزاً وجوعاً أو..؟
وهل غياب الإحصاءات الرسمية، التي من مهمتها الإضاءة على بعض جوانب الواقع، يُغيب هذا الواقع بنتائجه الكارثية الملموسة؟
يبدو أن الأمر مريح للحكومة والقائمين على أمر البلاد والعباد، فظاهرة ترك الأطفال وحرمان هؤلاء من طفولتهم، كما غيرها من الظواهر السلبية الكثيرة الأخرى، يتم المرور عليها مرور الكرام رسمياً، ويتم النظر إليها على انها نتيجة حالات وسلوكيات فردية، كي يتحرر هؤلاء من مسؤولياتهم وواجباتهم بالنتيجة، ولا مانع أيضاً من وسم المجتمع بأخلاقه وإنسانيته، طالما يبعد ذلك التهمة عن المتسببين الحقيقيين بكل الآفات والظواهر الهدامة فيه.
مروحة الأسباب الواسعة والإدانة والواضحة
ليس من الصعب سبر بعض العوامل والأسباب العامة التي أدت وتؤدي إلى حرمان الأطفال من طفولتهم، وبالتالي تركهم لمصائرهم مبكراً، بغض النظر عن أعمارهم، وطريقة وأسلوب هذا الترك وتسميته الخاصة.
فبحسب بعض أصحاب الاختصاص في العلوم الاجتماعية فإن من أهم الأسباب ما يلي:
الفقر والظروف الاقتصادية المعيشية المتردية، والعوز المعمم.
عدم توفر فرص العمل واتساع البطالة.
عجز الأهل عن الإنفاق على أولادهم.
قلة الاهتمام في التعليم، وضعفه وتراجعه.
ضعف شبكات الحماية (الرسمية وغير الرسمية).
الجهل وتدني المستوى الثقافي والمعرفي.
التفكك الأسري.
ظروف الحرب والصراعات.
النزوح والتشرد وعدم الاستقرار.
مع الكثير ربما من الأسباب الأخرى.
وبكل اختصار فإن الأسباب الكثيرة أعلاه مع غيرها تشير إلى إدانة واضحة لا لبس فيها موجهة إلى السياسات الحكومية الظالمة المعمول بها والمستمرة، والتي تعزز كل ما سبق، بدلاً من إيجاد الحلول، والواقع المزري خير دليل على ذلك.
البلد متروك أيضاً
الفقر والظروف الاقتصادية المعيشية، وصولاً إلى حال العوز والجوع، ووقف الإنتاج والعملية الإنتاجية، بالتوازي مع مستويات البطالة المتزايدة، مع واقع التعليم المتردي، ومع التراجع المستمر على مستوى الخدمات العامة، بما في ذلك الصحة العامة، بالإضافة إلى التجهيل المجتمعي، وإغراق المجتمع بالظواهر الهدامة الكثيرة، كل ذلك هو من مسؤولية الدولة والحكومة، ولا يعفيها من المسؤولية والواجبات كل ما يمكن أن يقدم من مبررات بذريعة الحرب والأزمة وغيرها.
على الطرف المقابل من الواضح أن من مصلحة المستفيدين من جملة السياسات الظالمة المطبقة، حيتان المال والفساد والإفساد، أن تستمر الحال على ما هي عليه دون أي تغيير يذكر، مع المزيد من ذر الرماد في العيون لإبعاد الشبهات عنهم، ولو أدى ذلك إلى مزيد من الكوارث، وهو ما يجري عملياً.
فعلى أيدي هؤلاء المتوحشين لم تعد الطفولة وحدها هي المتروكة لمصائرها، ولا الغالبية المفقرة من السوريين أيضاً، بل البلد بقضها وقضيضها باتت متروكة، نهباً وفساداً وتقسيماً وسيادة منتهكة، ولا خلاص من كل ذلك إلا بتغيير كل البنية المتهالكة التي أفرزت هؤلاء وتفرز الموبقات وتعمقها، تغييراً جذرياً وشاملاً وبشكل نهائي وتام.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1071