مهمة الحكومة مراقبة توفر السلع الأساسية في السوق فقط!
وافق رئيس مجلس الوزراء، بتاريخ 2/3/2022، على توصية اللجنة الاقتصادية المتضمنة: - إيقاف التصدير لمدة شهرين فقط لكل من المواد التالية: (ثوم- بصل– بطاطا- سمنة نباتية- سمنة حيوانية- زبدة حيوانية- زيوت نباتية- بيض- زيت زيتون)- تمديد قرار منع تصدير البقوليات بكافة أنواعها وأشكالها، والاستمرار بمنع تصدير المواد التالية: (قمح- كافة المنتجات المصنوعة من القمح- معكرونة- فروج)- تكليف وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية التنسيق مع وزارتي التجارة الداخلية حماية المستهلك والزراعة والإصلاح الزراعي لدراسة ومراقبة توفر السلع الأساسية في السوق المحلية.
إن الإجراء الحكومي أعلاه، رغم أهميته، إلا أنه لن يكون كافياً لوحده لتأمين الحد الكافي من الحاجات الاستهلاكية من المعروض السلعي في الأسواق، وبالسعر المناسب، خاصة مع الاعتراف الضمني بضعف إمكانات الحكومة، التي اقتصرت مهامها الحالية على «مراقبة توفر السلع الأساسية في السوق المحلية»!
توفر السلع بغض النظر عن سعرها لا يحد من التداعيات
اللافت بالتوصية أنها ركزت على «المنتجات والمواد الغذائية الأساسية» فقط دون غيرها من المواد، ولم تشر إلى موضوعة الأسعار، رغم أهميتها، لا من قريب ولا من بعيد، وكأن توفر المواد الغذائية الأساسية، وبمعزل عن سعرها، يكفي لـ«مواجهة أية تداعيات محتملة للتطورات التي تشهدها الساحة الدولية على الوضع الاقتصادي الداخلي لتفاديها أو تقليل انعكاسها»!
فمفردات التوصية أعلاه، وبحسب صفحة الحكومة، كانت بهدف: «التعاطي مع الواقع العالمي الراهن ومواجهة أية تداعيات محتملة للتطورات التي تشهدها الساحة الدولية على الوضع الاقتصادي الداخلي لتفاديها أو تقليل انعكاسها إلى أدنى حد ممكن، وبهدف زيادة المعروض السلعي من المنتجات والمواد الغذائية الأساسية وتأمين حاجة السوق المحلية منها خلال الفترة الحالية ومن ضمنها شهر رمضان المبارك».
فهل اقتصار العمل الحكومي على «مراقبة توفر السلع الأساسية في السوق المحلية»، مع الحديث عن مكافحة الاحتكار والرقابة العرجاء على الأسعار، يحقق تفادي وتقليل تداعيات التطورات على الساحة الدولية على الوضع الاقتصادي الداخلي؟!
إرضاء أصحاب الأرباح.. والفقراء إلى الجحيم
أن يتم تكليف ثلاثة وزارات (الاقتصاد والتجارة الخارجية- التجارة الداخلية وحماية المستهلك- الزراعة والإصلاح الزراعي) من أجل العمل على مراقبة توفر السلع الغذائية الأساسية في السوق المحلية، بغض النظر عن سعرها، يعني أن المستهدف من ذلك ليس الغالبية المفقرة واحتياجاتها من هذه السلع، بل القلة الثرية الفاسدة والناهبة، القادرة على تسديد أثمان السلع في الأسواق، مهما كان سعرها.
فالمهم بالنسبة للحكومة على ما يبدو ألّا تعاني هذه القلة من الشح في المعروض السلعي في الأسواق (بما في ذلك التّرفي) بنتيجة تداعيات التطورات الدولية، وليذهب الفقراء واحتياجاتهم الضرورية إلى الجحيم، وكأن التداعيات عليهم ليست ذات أهمية بالنسبة للحكومة!
بمطلق الأحوال فإن هذا التوجه بالعمل الحكومي ليس جديداً، فكل نتاج السياسات الليبرالية الطبقية المتبعة من الحكومات المتعاقبة كانت تصب بمصلحة حيتان أصحاب الأرباح وتلبية احتياجاتهم، وعلى حساب مصالح الغالبية المفقرة من أصحاب الأجور واحتياجاتهم، وكذلك على حساب مصلحة الاقتصاد الوطني.
الحيتان ابتعلوا سطوة الدولة
تجدر الإشارة الى أن حيتان المال والفساد، وبمختلف تصنيفاتهم، ومن أجل الحفاظ على مصالحهم وهوامش أرباحهم الاستغلالية المرتفعة، قادرين على إجهاض أيّ إجراء حكومي وتفريغه من محتواه، وذلك لسبب بسيط أن سطوتهم وإمكاناتهم باتت أكبر من سطوة وإمكانات الدولة نفسها، بل ابتعلوا هذه السطوة، تحكماً واستغلالاً وفساداً.
وما كان لهؤلاء الحيتان أن يصلوا إلى هذه السطوة والتمكن لولا جملة السياسات الطبقية والظالمة المحابية لمصالحهم على طول الخط، والتي كان من نتائجها التخلي المتتابع والمستمر عن دور الدولة التحكمي ومهامها، ليس على مستوى حركة الأسوق وآليات عملها والتحكم بها فقط، بل وعلى مجمل العمل الاقتصادي في البلاد.
بعض نتائج التخلي عن مهام الدولة المفترضة
بعد أن فرطت الحكومات المتعاقبة بالكثير من مهام الدولة وواجباتها خلال العقود الماضية وحتى الآن، متخلية عن الكثير منها لصالح حيتان أصحاب الأرباح، كبار التجار والفاسدين وأمراء الحرب والأزمة، لم يعد لديها الإمكانات والأدوات الكافية للتحكم بعمليات الإنتاج وسلال توريد مستلزماتها، ولا بعمليات الاستيراد والتصدير للسلع والمواد، ولا بعمليات التوزيع والتسويق والبيع للسلع والمواد في السوق المحلية، ولا بمجمل الواقع الاقتصادي.
فالاعتراف الضمني أعلاه بضعف إمكانات الحكومة والمقتصر على «مراقبة توفر السلع الأساسية» (إن تم التمكن من ذلك أصلاً) لم يأت من فراغ، بل هو نتاج لجملة السياسات الطبقية المعمول بها والمستمرة حتى تاريخه، وما وصلت إليه من توحش بحق الغالبية المفقرة من أصحاب الأجور، ولمصلحة حيتان أصحاب الأرباح والفاسدين.
فمن جملة ما وصلت اليه تلك السياسات من نتائج أن القابضين على غالبية المواد والسلع في الأسواق، الغذائية وغيرها، هم قلة من كبار الحيتان، وهؤلاء متحكمون بآليات العرض والطلب في الأسوق، كماً ونوعاً وسعراً.
فجزء هام من السلع والمواد مستورد ومتحكم به من قبل هؤلاء.
وكذلك الإنتاج المحلي للمواد الغذائية وغيرها، بعد الضربات الموجعة التي تلقاها القطاع الإنتاجي (الزراعي والصناعي)، متحكم به من قبلهم ويصب بمصلحتهم أيضاً على مستوى التسويق المحلي والتصدير.
وكذلك الحال مع التحكم بمسارب وشبكات التهريب، الذي لم يتوقف طيلة السنوات الماضية، وما زال مستمراً ودون توقف حتى الآن.
بالإضافة طبعاً إلى تحكمهم بشبكات السوق السوداء التي تنشط مع كل أزمة تطال أية سلعة أو مادة في الأسواق.
المطلوب استعادة دور الدولة
إن إجراءات منع التصدير أعلاه، أو غيرها، لن تكون ذات جدوى وفاعلية على مستوى توفر المواد والسلع في الأسواق بما يلبي الحاجات الاستهلاكية، كماً ونوعاً وسعراً، والواقع والوقائع خير دليل على ذلك!
فبدون استعادة الدولة لدورها الكامل، ولهيبتها وسطوتها، أي إنهاء السياسات الطبقية النهبوية من جذورها، لا يمكن الحديث عن أي دور إيجابي مفترض للحكومة يصب بمصلحة الغالبية من السوريين، وبالتالي بمصلحة الاقتصاد الوطني.
وعلى سبيل المثال فإن شروط الحد الأدنى المرتبطة بالإنتاج الزراعي للسلع الغذائية الأساسية محلياً (قمح- بقوليات- لحوم- بيض- حليب ومشتقاته- بصل- ثوم- بطاطا..) وهي من أهم موارد السلع الغذائية افتراضاً، غير متوفرة أو غير كافية، ومتحكم بها من قبل حيتان المال والفساد، فكيف بالسلع الغذائية المصنعة محلياً والمرتبطة بهذا الإنتاج؟!
بعض الإجراءات الضرورية
إن مواجهة المتغيرات، أية متغيرات، والتخفيف من تداعياتها السلبية على عموم المواطنين، وليس على القلة المخملية فقط، يتطلب بالحد الأدنى ما يلي:
تصويب وتصحيح تشوهات السياسات الأجرية الظالمة المعمول بها، فبدون ذلك لا يمكن الحديث لا عن إنتاج ولا عن استهلاك، ولا عن أية دورة اقتصاد سليمة.
إعادة الاعتبار لمعامل الدولة، وتخليصها من معيقاتها ودعمها وإعادة تأهيلها، لتقوم بمهامها على المستوى الإنتاجي والاجتماعي (المواد الغذائية- السكر- الزيوت- الأسمدة- الإسمنت- الأعلاف- النسيج- الحديد- الورق..).
توفير مستلزمات الإنتاج (الزراعي والصناعي) عبر الدولة، وخاصة للمواد الغذائية الأساسية، مع إعادة الدعم لهذه المستلزمات بشكل جدي، لتخفيض تكاليف الإنتاج، وبالتالي لتخفيض أسعار المستهلك.
إعادة حصر استيراد المواد والسلع الأساسية بمؤسسات الدولة وبشكل مباشر، وليس من الباطن عبر بعض الحيتان كما هو عليه الحال.
التنظيم الجدي من قبل الدولة لآليات التحكم بسلاسل التسويق والتوزيع والبيع للمواد والسلع (المنتجة محلياً والمستوردة) في السوق المحلية، مع تشديد الرقابة الفعلية على المواصفة والسعر وهوامش الربح الرسمية.
إعادة الاعتبار وتصويب عمل مؤسسات الدولة وأذرعها في السوق المحلية (شركة محروقات- السورية للحبوب- السورية للمخابز- السورية للتجارة- الاجتماعية العسكرية- التعاونيات..) بعيداً عن هيمنة الحيتان وآليات عمل شبكات الفساد والسوق السوداء.
إعادة الدعم على المواد والسلع الأساسية، وخاصة المشتقات النفطية وحوامل الطاقة وبعض المواد الغذائية، مع توسيع وزيادة السلة الغذائية المدعومة.
الرقابة الجدية والفاعلة لمنع عمليات التهريب (من الداخل إلى الخارج وبالعكس)، أو الحد منها قدر الإمكان.
تأمين الإيرادات اللازمة لخزينة الدولة لتغطية النفقات على ما سبق من حسابات وجيوب أصحاب الأرباح والناهبين الكبار، وليس من جيوب أصحاب الأجور من المفقرين، أي إعادة النظر بالسياسات الضريبية المشوهة لتصبح أكثر عدالة.
المتغيرات الدولية وتجييرها إيجاباً
بكل اختصار إن جملة المتغيرات الدولية الناشئة، وبدلاً من اعتبارها ذريعة تهويل جديدة للانقضاض على مصالح الغالبية المفقرة، تضاف إلى ذرائع الحرب والأزمة والحصار والعقوبات، التي يتم تجييرها لتصب بمصلحة أصحاب الأرباح والفاسدين، يجب أن تكون هي نفسها مقدمة وفرصة متاحة للتخلص من هذه الذرائع ونتائجها السلبية جملة وتفصيلاً، وذلك ممكن رغم بعض الصعوبات، شريطة توفر الإرادة الجدية بما يحقق مصلحة عموم المواطنين، والمفقرين خاصة، ومصلحة الاقتصاد الوطني معاً، وهذا يوصلنا إلى نفس النتيجة أعلاه، أي تغيير جملة السياسات الليبرالية الطبقية والجائرة المتبعة جذرياً، كإجراء أولي غير كافٍ، لتجاوز بعض أزماتنا، ولمواجهة التداعيات السلبية لهذه المتغيرات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1061