مُتعبون حد الإنهاك!
ماذا يعني أن أكثر من 90% من السوريين هم من المفقرين؟ وماذا يعني أن 60% من السوريين في حالة انعدام الأمن الغذائي؟
إنه يعني بكل بساطة أن مقومات الحياة بالنسبة لهؤلاء غير متوفرة، بل غير متاحة لهم، ليس بسبب انتفائها أو ندرتها، بل وبكل وضوح بسبب احتكارها من قبل القلة الثرية الناهبة والمسيطرة والمتحكمة، وتجييرها لمصلحتهم فقط لا غير، وبكل وحشية أيضاً!
تهميش الغالبية وتوحش الأقلية
فكل كوارث سني الحرب والأزمة، وبسببها، كانت بطرف بالنسبة للغالبية من السوريين، والكوارث المستحدثة في عام 2021 كانت بطرف آخر، ولأسباب إضافية أخرى!
فمثلاً الأسواق متخمة بما لذ وطاب من المواد الغذائية، لكن أسعارها تفوق إمكانية استهلاكها من قبل الغالبية المفقرة، التي تُشد عليها أحزمة تخفيض «الدعم»، ويفرض عليها المزيد من التقشف، وكذلك فإن السوق السوداء متخمة بمازوت التدفئة لكن سعره فوق قدرة هؤلاء، وما عليهم إلا الصبر وتحمل البرد، وإن مرض أحدهم فلا حول ولا قوة، فلا غذاء ولا مناعة ولا إمكانية للعلاج!
بمقابل ذلك ينعم كبار الحيتان والفاسدين، وأثرياء الحرب والأزمة الجدد، بالغذاء والدفء والترف، حد الفجور العلني والصاخب بمظاهر الإسراف، مع الكثير من ممارسات الوقاحة والاستقواء والتوحش!
فكيف لهؤلاء المفقرين من الغالبية بعد كل ذلك مثلاً أن يكونوا شركاء في حل أزمتهم الوطنية العميقة والشاملة، وهو ما يجب أن يكون افتراضاً؟!
ومن له مصلحة في تكريس تهميش وإبعاد هذه الغالبية عن الخوض في تقرير مصيرها ومصير البلد؟
تبديد قسري لسبل الحياة
الواقع يقول، مع ما تؤكده التقارير الرسمية وغير الرسمية، أن غالبية السوريين تعرضوا للتشرد والنزوح واللجوء، بنتيجة الحرب والمعارك التي دارت وشملت غالبية المدن والمناطق والبلدات والقرى، وهؤلاء بمجملهم وصلت تقديراتهم بين الداخل والخارج الى أكثر من 15 مليون سوري، وكذلك فإن غالبية السوريين في الداخل أصبحوا تحت خط الفقر، أكثر من 90% منهم، بل وصل بعضهم لما دون عتبة العوز الغذائي، أي إن الغالبية من هؤلاء المفقرين باتت جائعة، 60% من السوريين، وكذلك تزايدت معدلات ونسب البطالة، وتراجعت مستويات الإنتاج (الصناعي والزراعي والحرفي)، مع استمرار توقف الكثير منها وخروجها من دائرة الإنتاج، مع تسجيل المزيد من التردي على مستوى الخدمات العامة (كهرباء- مياه- صرف صحي- طرقات- مواصلات- طبابة- تعليم- نظافة..)، والأخطر من كل ذلك زيادة تفشي الآفات والظواهر السلبية الهدامة، بما فيها ذات الطابع الجرمي (الفساد- الخطف- السرقة- السلب- القتل- المخدرات- الدعارة- تجارة الأعضاء- التهريب..).
فلم تعد مفردة مُتعب تعبر عن حال المواطن، فقد بلغ الأمر حد الانهاك، بل تجاوزه بأشواط، وخاصة في عام 2021 الذي يمكن تسميته عام الإنهاك الرسمي، فالغالبية من السوريين لم يعد لديهم ما يكفي من الجهد، ولا من الوقت، ولا من الإمكانات، كي يستطيعوا التفكير بحالهم ومعاشهم ومآلهم وحياتهم، فقد تم استنفاد كل طاقاتهم وجهدهم وإمكاناتهم ووقتهم لما دون الصفر المكعب، مع إبداع المزيد من آليات الاستغلال والاستنزاف، ولحدود انسداد الأفق والكآبة والإحباط واليأس، مع جرعات مضافة من التيئيس المنظم أيضاً!
ولعل حالات الانتحار المسجلة مؤشر على ذلك، والازدحام على كوات الهجرة والجوازات، والباحثين على ملاذات خارجية هرباً نحو حياة أفضل، مؤشر إضافي آخر، وما أكثر المؤشرات التي تدل على ذلك!
فتبديد سبل العيش والحياة بالنسبة للغالبية المفقرة أصبح قسرياً على أيدي سالبي مقوماتها، وعن سبق إصرار وتصميم!
فكيف من الممكن أن يعيش المواطن في ظل هكذا ظروف، معقدة ومتشابكة ومعادية له على طول الخط، وكيف له أن يفكر بغد أطفاله، أو بمستقبل بلاده؟!
الجور في استنفاد الإمكانات
الأنكى من كل ذلك أن السياسات الليبرالية المطبقة عززت كل ما سبق، بل زادت من نتائجها من الضغوط على الغالبية المفقرة والمهمشة، معيشياً وخدمياً، وعلى كافة المستويات، وقد كانت بجرعات أكبر خلال عام 2021 وصلت إلى درجة التوحش الطبقي بكل وضوح، والأدلة على ذلك أصبحت أكثر من أن تحصى، اعتباراً من الاستمرار بسياسات الأجور المجحفة، مروراً بسياسات تخفيض الدعم لحدود إنهائه، بالتوازي مع الاستمرار بسياسات تخفيض الإنفاق العام، وصولاً إلى افتعال الأزمات بدلاً من حلحلتها، مع غض الطرف عن موبقات الأسعار الاستغلالية في الأسواق، وخاصة السوداء، وليس انتهاءً بمحاباتها الفجة لمصلحة طغمة الأثرياء والناهبين وأمراء الحرب وأصحاب النفوذ، على حساب مصالح الغالبية من السوريين، كما على حساب المصلحة الوطنية، بكل إصرار وصلف!
فهل من جور أكبر من أن تحصي الحكومة عدد أرغفة الخبز على المفقرين؟
وهل من جور أكبر من أن تخفض مازوت التدفئة، عبر تخصيص 50 ليتراً لهذه الغاية فقط لا غير لكل أسرة بهذا الزمهرير؟
وهل من جور أكبر من أن تبرر ارتفاعات الأسعار، بسبب العقوبات أو غيرها، وتكون مهمازاً في ذلك، وخاصة للسلع الغذائية الأساسية والمشتقات النفطية؟
وهل من جور أكبر من أن يكون وسطي الأجر الشهري بحدود 100 ألف ليرة، مقابل النفقات الضرورية للحد الأدنى من متطلبات المعيشة التي قاربت حدود المليوني ليرة؟
كثيرة هي أمثلة الجور، الرسمي وغير الرسمي، بحق الغالبية المفقرة، والتي تزايدت حدّتها خلال عام 2021، حيث استنفدت إمكانات هذه الغالبية لأبعد الحدود، حتى المساعدات على محدوديتها، الفردية استجداءً من قبل الأقرباء في الخارج، أو عبر المنظمات، لم تسلم من الاستغلال والاستنفاذ أيضاً!
السياسات المنهكة
إن السبب الرئيسي في جل ما يعانيه السوريون من كوارث، وبكل مباشرة ووضوح، هي السياسات الحكومية الظالمة بحق الغالبية، المُفقرة والمُجوّعة والمُنهكة، ليأتي بعدها مبررات وذرائع الحرب والحصار والعقوبات، وغيرها من الأسباب الكثيرة الأخرى، داخلاً وخارجاً، التي تشابكت لتحيل حياة المواطن إلى جحيم مطبق، في ظل استمرار الأزمة الوطنية العميقة والشاملة، التي لا يريد البعض المستفيد الخروج منها (كبار الحيتان والناهبين والفاسدين وأمراء الحرب والأزمة)، بل على العكس يسعون إلى تعزيزها وتعميقها أكثر، حفاظاً على مصالحهم الأنانية والضيقة، ليس بالضد من مصالح الغالبية من السوريين فقط، بل وبالضد من المصلحة الوطنية أيضاً.
فهل من غرابة مثلاً من أن نربط بين رغيف الخبز (الذي بات يمثل أحد أشكال الإنهاك جوعاً من تكاثر أزماته المفتعلة، والحلول المبتكرة رسمياً من أجله عبر الاستعانة بالذكاء، على حساب المزيد من انتهاك حقوق المفقرين) وبين الخروج من الأزمة والحل السياسي؟
تغيير السياسات مهمة وطنية
بات من الواضح أن المطلوب من استمرار هذه السياسات الجائرة والظالمة هو استمرار إنهاك وتهميش الغالبية من السوريين، والمزيد من انتهاك حقوقهم، بما في ذلك حقهم بالحياة نفسها، ليس بغايات استمرار استغلالهم ونهبهم، أو لتكريس النفوذ والسيطرة بيد القلة المتحكمة الناهبة والفاسدة فقط، بل لعل الأهم هو تحييد دور هذه الغالبية عن الشأن الوطني العام، وعلى كافة المستويات (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية و..)، والأكثر أهمية عن دورها المفترض على مستوى الخروج من الأزمة الوطنية الشاملة، عبر الحل السياسي كبوابة للتغيير الجذري والعميق والشامل المطلوب، الذي يلبي طموحهم ويحقق رغباتهم وإرادتهم في استعادة حقوقهم المستلبة، وبهذا تتقاطع نتائج هذه السياسات، ومصالح من تمثلهم، مع مصالح كل المعادين للمصلحة الوطنية، داخلاً وخارجاً.
فالاستمرار بسياسات الإنهاك المعيشي والخدمي للغالبية الساحقة والمسحوقة، لا يزيد من عمق الكارثة التي يعيشها السوريون فقط، بل ويطيل من عمر الأزمة، ويعرقل السير نحو حلها، لذلك فإن القطع مع جملة هذه السياسات، وتغييرها جملة وتفصيلاً، يعتبر مهمة وطنية لا تقل أهمية عن غيرها من المهام الوطنية الكثيرة الأخرى المنتصبة أمام كل الوطنيين السوريين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1050