انتصار جديد لمصلحة حيتان السوق على حساب المستهلك
ستتخلى وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك عن مهمة جديدة من مهامها، المتمثلة بتحديد نسب هوامش الربح للحلقات التجارية، لصالح التجار في القريب العاجل على ما يبدو، بعد تخليها مثلاً عن مهمة تأمين السلع بشكل مباشر عبر ذراعها التسويقي المتمثل بالسورية للتجارة، مع الكثير من التغني بآليات التدخل الإيجابي، سواء للسلع التموينية الأساسية أو غيرها، فالموردون للمواد والسلع إلى هذه المؤسسة هم كبار التجار المتحكمين بالأسواق سلفاً، ناهيك عن استثمارهم المباشر لعدد كبير من صالات هذه المؤسسة، وخاصة في الأسواق الرئيسية والكبيرة في المدن والمحافظات، وبعد غض الطرف عن النصوص القانونية التي تفرض على جميع الحلقات التجارية تداول الفواتير، كمقدمة لا بدّ منها افتراضاً لضبط ايقاع حركة السلع والخدمات في الأسواق، بما يحقق حماية مصلحة المستهلكين (سعراً ومواصفةً) في النهاية!
فحسب تصريح وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك لصحيفة الوطن بتاريخ 21/11/2021 أن: «هناك شكوى من منتجي ومستوردي المواد الغذائية بأن الوزارة تتدخل بنسب الأرباح الخاصة ببائع الجملة ونصف الجملة وغيرها لأنه على حد قولهم ليس كل المواد تعامل بالطريقة نفسها. مطالبين الوزارة بعدم التدخل في هذه النسب وأن الموضوع يحل بمعرفتهم».
وقد كشف الوزير أيضاً: «أن الوزارة بصدد إصدار قرار بهذا الخصوص وذلك مشروط بتقديم فواتير صحيحة (رغماً عنهم) والاحتفاظ بالسعر الصادر حصراً عن الوزارة للمستهلك.. وأوضح أن القرار سوف يترك للتجار تحديد نسب الربح لما يسمى حلقات البيع مع الالتزام بالتسعيرة الخاصة بالوزارة أي آلية البيع، وأضاف: ما يهمنا في الموضوع أن الوزارة هي من تفرض سعر بيع المنتجات للمواطن و(تجبر) به التجار».
التصريح أعلاه يبيّن أن هناك مشروع قرار قادم يتضمن منح التجار صلاحية تحديد هوامش ربح الحلقات التجارية للسلع والمواد والخدمات، بالإضافة إلى كل ما يمتلكونه من مزايا تحكمية في الأسواق مسبقاً، دون تدخل من الوزارة، فالأمر سيترك كي «يُحل بمعرفتهم»!
بيانات التكلفة بيد الحيتان أصلاً!
من المتعارف عليه أن تحديد نسب هوامش ربح الحلقات التجارية، وصولاً إلى تحديد سعر المبيع للمستهلك، من مسؤولية الوزارة (شكلاً)، بينما واقع الحال يقول إن الأمر سلفاً متروك بعهدة التاجر (منتج أو مستورد) مضموناً، وذلك اعتماداً على ما يقدمه من بيانات تكلفة، استناداً لبعض الوثائق المقدمة من قبله، حيث يتم تحديد هذه النسب عند صدور أية نشرة أسعار للمواد والسلع المنتجة محلياً أو المستوردة وذلك من قبل الوزارة مركزياً، أو مكانياً من قبل مديريات التجارة الداخلية وحماية المستهلك في المحافظات، بالإضافة إلى القرارات المركزية التي تحدد نسب وهوامش الربح للحلقات التجارية على الأصناف السلعية بشكل عام.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الآلية في تحديد نسب وهوامش الربح والسعر النهائي للمستهلك تعتمد أساساً على بيانات التكلفة التي يقدمها التاجر (منتج أو مستورد)، وقد تم التركيز على اتباع هذه الآلية «الشكلية» في التسعير (المركزية والمكانية) بعد الفوضى السعرية التي ترافقت مع سياسات تحرير الأسعار التي تم اتباعها مطلع الألفية، وخاصة للسلع الغذائية الأساسية المستوردة، ولكنها لم تحقق الغاية المرجوة منها، بدليل استمرار حال الفوضى في الأسعار، ناهيك عن فوضى المواصفة والجودة!
ذرائع للضغط ومقدمات للتخلي عن مزيد من المهام
المتتبع لبعض قرارات الوزارة، التي تحدد نسب وهوامش الربح للحلقات التجارية، يلحظ أن هناك فوارق بتلك الهوامش حسب المادة والسلعة، فالحديث عن مطالب للتجار بهذا الشأن ما هي إلا ذرائع للضغط على الوزارة كي تتخلى حتى عن مهمتها ذات الطابع الشكلي بتحديد هذه الهوامش كما أسلفنا!
فقد سبق مثلاً أن أصدرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك مجموعة من القرارات التي حددت من خلالها نسب الأرباح للحلقات التجارية، وذلك في شهر نيسان الماضي.
فبالنسبة للمواد الغذائية فقد تم تحديد نسبة الأرباح للسكاكر والشوكولا والبسكويت بنسبة 10% للمنتج من تكاليف الإنتاج و7% للمستورد من تكاليف الاستيراد و5% لتاجر الجملة و12% لبائع المفرق، أما معلبات الكونسروة «خضار وفواكه وفطر» فقد حددت 8% بالنسبة للمستورد وتاجر الجملة و8% لبائع المفرق و20% للمنتج من تكاليف الإنتاج و10% لبائع المفرق، أما الأشربة الصبغية فقد حددت 4% للمستورد وتاجر الجملة و5% للموزع و10% لبائع المفرق و10 % للمنتج وتاجر الجملة و5% للموزع و10% لبائع المفرق، والأشربة الطبيعية فقد حددت نسبة ربح بـ 6% للمستورد وتاجر الجملة و10% لبائع المفرق و10% للمنتج من تكاليف الإنتاج و6% لتاجر الجملة و10% لبائع المفرق، أما الصناعات التحويلية من محارم وفوط فحددت الأرباح بـ13% للمستورد وتاجر الجملة 7% للموزع و10% لبائع المفرق و15% للمنتج وتاجر الجملة و7% للموزع و10% لبائع المفرق، وبالنسبة للإسمنت الأبيض فقد تم تحديد 8% للمستورد وتاجر الجملة و7% لبائع المفرق و10% للمنتج وتاجر الجملة و10% لبائع المفرق.
وفي قرار آخر خاص بإنتاج واستيراد الخضار والفواكه، فقد تم تحديد نسبة ربح المستورد أو تاجر الجملة (الفلاح) بـ15% من تكاليف استيراد أو إنتاج الخضار والفواكه بكل انواعها ومسمياتها، أما نسبة ربح بائع المفرق فتم تحديدها بـ20% من سعر تاجر الجملة في حال الاستيراد، وبنسبة 30% في حال الإنتاج المحلي، وذلك للمواد سريعة التلف (البندورة- الخيار- الكوسا- الحشائش) و20% لباقي الأصناف المحلية، غير سريعة التلف.
من الواضح أن النسب والهوامش المعتمدة أعلاه للحلقات التجارية أخذت بعين الاعتبار طبيعة السلعة والمادة، ولم تغفل طبعاً الاعتماد على بيانات التكلفة المقدمة من قبل التاجر (منتج أو مستورد).
فكيف سيصبح عليه الحال في الأسواق عند ترك موضوع تحديد هوامش الربح للحلقات التجارية بمعرفة وبيد هؤلاء، كما يطالبون؟!
فحتى الحديث عن إمكانية إعادة دراسة بيانات التكلفة المقدمة من التجار (منتجين او مستوردين)، فهو مرتبط غالباً بشكوى مقدمة من قبل المستهلك، وفي بعض الأحيان بحال الشك من قبل عناصر الضابطة التموينية، ويُبت بها بعد العرض على لجان مشكلة وزارياً، ممثل فيها هؤلاء بموجب النصوص القانونية طبعاً، أي إن بيانات التكلفة المقدمة من قبل التاجر تظهر كأنها قدر لا فكاك منه، مهما كانت الشكوك حولها، بل حتى لو تم التقدم بشكوى من أجلها!
مزيد من الفوضى السعرية والسيطرة
الآلية المتبعة «شكلاً» من قبل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بتحديد هوامش ربح الحلقات التجارية، وصولاً إلى تحديد سعر المبيع للمستهلك (مركزياً أو مكانياً)، اعتماداً على بيانات التكلفة التي يقدمها التاجر، لم تؤدِّ من الناحية العملية لا إلى ضبط الأسعار في الأسواق، ولا إلى إلغاء أو الحد من التحرير السعري للسلع والخدمات، التي كرّست حال الفوضى السعرية في الأسواق، بغض النظر عن كل ما يقال عن آليات العرض والطلب وتضخيم دورها في موازنة السعر في السوق، بل على العكس فقد منحت هذه الآلية مزيداً من التحكم والسيطرة على سوق السلع والخدمات في الأسواق من قبل كبار الحيتان (مستوردين وتجار جملة)، وهؤلاء لا تطالهم بالعادة العقوبات المنصوص عنها قانوناً بحال المخالفة، مهما كانت نوعية هذه العقوبة، ومهما تم التغني بالتشدد فيها، وخاصة عندما تكون هذه العقوبات مالية، أو قابلة للتسوية والمصالحة بموجب النصوص القانونية.
فمن المعروف أن من تطالهم العقوبات، بحال ضبط المخالفات في الأسواق، هم بائعو المفرق من الصغار، مع عدم تبرئتهم طبعاً، فيما يختفي الكبار خلفهم، ولا تطالهم العقوبة، مع عدم إغفال الكثير من عوامل المحاباة وآليات الفساد التي غالباً ما تستثني كبار المحظيين من المخالفات، وبالتالي من العقوبات!
وما يزيد الطن بلّة هو حال الفوضى المتزايدة على مستوى تدني المواصفة والجودة، وصولاً إلى تفشي ظاهرة الغش والتدليس، والأخطر بهذا المجال هي السلع الغذائية المعدة والمعروضة للاستهلاك.
وكل ذلك طبعاً على حساب، ومن جيوب، المستهلكين للسلع والخدمات في الأسواق، وربما على حساب صحتهم أيضاً!
ما الذي تبقى من حماية المستهلك؟
مع التمهيد الوزاري بالرضوخ لضغوط الكبار، ومحاباتهم في مطالبهم، عبر التخلي حتى عن المهمة الشكلية المتمثلة بتحديد هوامش الربح للحلقات التجارية، فإن الواقع السعري في الأسواق سيصبح أكثر فوضوية وسوءاً، وسيمنح كبار الحيتان، المتحكمين سلفاً بالأسواق، مزيداً من فرص التحكم بالسلع والمواد والخدمات، ومزيداً من التحكم بالحلقات التجارية الأدنى، ومزيداً من التهرب من استحقاقات ضبط المخالفات، بحال ضبطهم طبعاً!
فكيف سيتم «الالتزام بالتسعيرة الخاصة بالوزارة»، بعد ترك تحديد التكلفة، وتحديد هوامش ربح الحلقات التجارية، بيد كبار التجار؟
وهل تطبيق شرط تقديم الفواتير (رغماً) عن هؤلاء، صعب عليهم بعد انتزاعهم صلاحيات ومهام تحديد سعر التكلفة وهوامش الربح لكافة الحلقات التجارية، وضمناً سعر المبيع النهائي للمستهلك، الذي ستتغنى به الوزارة أنه صادر عنها، ولو كان ذلك بالشكل فقط؟
ولعلنا لم ننسَ بعد قصة المعارك «الخلبية» التي تم خوضها حول أسعار المتة، أو أسعار الدخان، ولا قصة أسعار السكر والتدخل الإيجابي بشأنه، خلال الفترة القريبة السابقة، وكيف انتصر بها الحيتان على حساب المستهلكين بالنتيجة، بالرغم من كل التطبيل والتزمير حول الدور الوزاري بشأنها!
وها هو انتصار جديد سيصب بمصلحة كبار الحيتان على حساب مصالح المستهلكين، حتى دون خوض معركة هذه المرة، لا خلبية ولا حقيقية، بل مجرد مطلب ذرائعي لا غير!
بانتظار ما سيسفر عنه القرار الوزاري المزمع بشأنه تكريساً لهذا الانتصار!
ونتساءل بعد كل ذلك ما الذي تبقى من حماية المستهلك بعهدة الوزارة المعنية بحمايته بعد هذا التخلي المتتابع لمهامها في سوق السلع والخدمات لمصلحة كبار الحيتان؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1046