الغاز المنزلي والصناعي.. ومليارات النهب والفساد
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

الغاز المنزلي والصناعي.. ومليارات النهب والفساد

لم ولن تنكفئ السوق السوداء على أسطوانات الغاز المنزلي والصناعي على ما يبدو، كما كان متوقعاً على إثر قرار زيادة سعرها رسمياً الذي صدر مؤخراً، بل على العكس فقد زاد نشاطها، وارتفعت معدلات استغلالها للمواطنين المضطرين للمادة، بسبب تأخر رسائل الاستلام التي زادت عن 90 يوماً، حيث تجاوز سعر الأسطوانة في السوق السوداء للغاز المنزلي مبلغ 120 الف ليرة، مع سقف مفتوح للاستغلال مرتبط بدرجة الحاجة.

وقد أغلق وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك بوابات الأمل باختصار مدة استلام أسطوانات الغاز المنزلي بعد أن صدر قرار رفع سعرها الأخير، حيث قال عبر مؤتمر صحفي بتاريخ 3/11/2021 ما يلي: «إن قرار رفع سعر الغاز الذي صدر مؤخراً لن يسرّع عملية التوزيع للمواطنين».
ليس ذلك فقط بل عقب الوزير قائلاً: «لقد كنت بانتظار دوري من الغاز لأكثر من 100 يوم حتى حصلت على جرة غاز واحدة».
أي إن مدة الـ100 يوم انتظاراً للاستبدال أصبحت معياراً لمدة التسليم، بحسب الوزير، ما يعني أن درجة استغلال الحاجة في السوق السوداء ستزداد بدلاً من أن تنخفض!

الضبط الرسمي غير كافٍ!

لم يعد خافياً أن أحد المصادر الرئيسية لتزويد السوق السوداء بالمادة هي شركة محروقات، وهو ما تمت الإشارة إليه مراراً وتكراراً عبر الكثير من موادنا في أعداد سابقة لقاسيون، بأن المسؤول الرئيسي والمباشر عن تزويد السوق السوداء بالمادة هي شركة محروقات نفسها باعتبارها المنتج والمسوق والموزع الحصري لها، بالإضافة طبعاً لدور الموزعين والمعتمدين من قبلها، ولم لا طالما أن الاتجار بالمادة عبر السوق السوداء يحقق أرباحاً خيالية، استغلالاً وفساداً، بحيث يبدو معها ألّا نفع لأدوات الرقابة والمتابعة التي تتخذ الطابع الرسمي، من خلال الضبوط المنظمة بحق المخالفين!
فقد سبق لوزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك أن كتب على صفحته الرسمية بتاريخ 13/10/2021 ما يلي: «في حملةٍ البحث عن مصادر السوق السوداء في الغاز، توجهت دورياتنا إلى معمل تعبئة الغاز في عدرا... فوجدت نقصاً مقداره ٤% في وزن أسطوانات الغاز... ويتمّ تنظيم الضبوط القانونيّة بحق المسؤولين عن هذا الموضوع وإحالتهم إلى القضاء بناءً على المرسوم ٨».
وبتاريخ 6/11/2021 تم الإعلان عبر الصفحة الرسمية لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بما يلي: «ضبط عناصر مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك بريف دمشق معمل عدرا لتعبئة الغاز بمخالفة تعبئة أسطوانات غاز منزلي بوزن مخالف للوزن النظامي، وأكدت المديرية أن التعامل مع المخالفين يتم وفق أحكام المرسوم التشريعي رقم ٨ لعام ٢٠٢١».
ما يعني أن عملية الضبط الأولى التي أعلن عنها، وقام بها، الوزير لم تكن كافية للحد من آليات النهب والفساد القائمة في معمل عدرا لتعبئة الغاز، برغم المخالفة والعقوبة «الرادعة» المفروضة بموجب أحكام المرسوم التشريعي رقم ٨ لعام ٢٠٢١، بدليل عملية الضبط لنفس المخالفة للمرة الثانية بنفس المكان، أي استمرار المخالفة، النهب عملياً، فلماذا؟!

الأرقام الفلكية المغرية

نسبة نقص الوزن التي أعلن عنها الوزير كمخالفة بواقع 4%، والتي تم ضبطها والإعلان عنها من قبله، قد تبدو ضئيلة بنظر البعض، وقد لا يلحظها المواطن أثناء عملية استلامه للأسطوانة الموعودة بعد طول انتظار، فهي تقدر بـ400غ من كل اسطوانة معبئة بكمية 10كغ، حسب ما هو مفترض كوزن نظامي لكل أسطوانة غاز منزلية، لكن بواقع القيمة المنهوبة المحصلة منها بالمجمل على حساب المواطنين عبر السوق السوداء تصبح كبيرة جداً، بل خيالية!
فالطاقة الإنتاجية لمعمل تعبئة غاز عدرا تبلغ 60 ألف أسطوانة يومياً، بحسب بعض التصريحات الرسمية، ونسبة الـ4% منها، على ضآلتها، تصل إلى 2400 أسطوانة يومياً، وبحال تم بيع كل منها بمبلغ 100 ألف ليرة بالحد الأدنى عبر شبكات السوق السوداء وفقاً للسعر الرائج الوسطي حالياً، فإن المبلغ المحصل نهباً وفساداً يبلغ 240 مليون ليرة يومياً، وشهرياً يبلغ 7 مليارات و200 مليون ليرة، وسنوياً يصل هذا المبلغ الى أكثر من 86 مليار ليرة سورية.
المبلغ الكبير أعلاه مستند الى حسابات النسبة «المحدودة» التي صرح بها الوزير، ومن معمل واحد من معامل التعبئة التابعة لشركة محروقات طبعاً!
فكيف على مستوى بقية معامل التعبئة؟
وكيف على مستوى حصة النهب من قبل الموزعين والمعتمدين؟
وكيف على مستوى بقية حلقات إنتاج أو استيراد الغاز قبل الوصول لمرحلة التعبئة والتوزيع؟
فهل يمكن اعتبار هذا المبلغ (اليومي أو السنوي) ضئيلاً؟
وهل تكفي عمليات الضبط الرسمية للمخالفات بنقص الوزن للحد من نشاط السوق السوداء على المادة، وفقاً للأرقام الفلكية أعلاه؟
وما هي الذمم التي يمكن شراؤها فساداً عبر مثل هذه المبالغ المرقومة من أجل استمرار بوابة النهب الكبيرة تلك؟

رفع السعر الرسمي مهمازاً للسوداء

واقع الحال يقول إنه مع كل رفع سعري رسمي للسلع والمواد، الأساسية وغير الأساسية، «المدعومة» وغير «المدعومة»، تزداد أنشطة السوق السوداء عليها، بل يصبح الرفع السعري الرسمي مبرراً لزيادة معدلات الاستغلال من خلال رفع الأسعار في هذه السوق أيضاً، والأمثلة على ذلك أصبحت أكثر من أن تعد.
فالتسعيرة الرسمية أصبحت مهمازاً ومبرراً لزيادة استغلال الحاجات في السوق السوداء والبيضاء على حد سواء (إن كانت هناك سوقاً بيضاء).
وذرائع تخفيض الدعم المتتالي تتحول بالنتيجة إلى مبررات لزيادة الأسعار والاستغلال في الأسواق، يضاف إليها كل ذرائع ومبررات رفع الأسعار الاستغلالية الأخرى، وخاصة الحصار والعقوبات والدولار، وغيرها الكثير.

سد الحاجات هو المعيار

السبب الرئيسي لزيادة نشاط واستغلال السوق السوداء ليس الفارق السعري المتمثل بـ«الدعم»، كما يطيب للبعض (الرسميين وغير الرسميين) أن يروج، سواء بغاية تبرير سياسات تخفيض الدعم المتتالي وصولاً إلى إنهائه، أو بغاية التعمية على آليات النهب والفساد الكبير باسم الدعم وبذريعته عملياً، بل في عدم تناسب الكميات المخصصة من المواد والسلع المدعومة مع الحاجات الفعلية لها، سواء للمواطنين أو للقطاعات المستهدفة.
فمع استمرار الفجوة بين الكميات المحدودة المخصصة رسمياً للمواد «المدعومة»، وبين الحاجات الفعلية لها، وبغض النظر عن سعرها، ستستمر مستويات الاستغلال بالتزايد عبر السوق السوداء وغيرها، والتي تقوم بسد النقص في هذه الفجوة بشكل نسبي من الناحية العملية عبر أدواتها وآلياتها.
ولا ينفع الحديث الرسمي مثلاً عن أن تكلفة أسطوانة الغاز المنزلي على الدولة يصل إلى 30 ألف ليرة، بغض النظر عن دقة هذا الرقم، بينما يبلغ سعرها «المدعوم» 10700 ليرة، كنوع من المزاودة على المواطنين، في ظل الاضطرار لشرائها من السوق السوداء بسعر 120 ألف ليرة، بسبب زيادة مدة الاستلام وصولاً إلى 100 يوم!
فزيادة مدة الاستلام لأسطوانة الغاز من الناحية العملية هي من تدفع المواطن إلى احضان المستغلين في السوق السوداء رغماً عنه، وليس أي سبب آخر، لتأتي قرارات رفع السعر المتتالية، أي المزيد من تخفيض الدعم على المادة، مبرراً إضافياً لمزيد من الاستغلال لحاجات المواطنين.

الأسئلة المشروعة والمعركة الشرسة

أسئلة كثيرة ومشروعة يمكن طرحها على مثال من أمثلة نشاط السوق السوداء، لسلعة استهلاكية هامة واحدة فقط لا غير تتمثل بالغاز المنزلي والصناعي «المدعوم»، وخاصة مع أرقام النهب الكبيرة المبينة أعلاه، والتي تحصدها هذه السوق نهباً من جيوب المحتاجين، بالإضافة طبعاً إلى حصص النهب والفساد الكثيرة الأخرى، فكيف الحال مع بقية السلع الضرورية التي تنشط السوق السوداء بها نهباً وفساداً على حساب حاجات المواطنين، ومن جيوبهم، وعلى حساب معيشتهم، كما على حساب ما يسمى «دعم»، مع كل التطبيل والتزمير الرسمي باسمه!؟
فكل المواد الأساسية «المدعومة» بات لها سوقها السوداء التي تنشط لتسد الفجوة بين الكميات المخصصة للمواطن، أو للقطاعات المستهدفة، وبين الحاجات الفعلية منها، (الخبز- السكر- الرز- الغاز المنزلي والصناعي- مازوت التدفئة- المازوت الصناعي والزراعي- البنزين..)، بل وبعض السلع غير المدعومة أيضاً، (الدخان) مثالاً، التي تنشط بها السوق السوداء وتحتكرها أيضاً!
ولكم أن تتخيلوا، وتحسبوا، حجم المبالغ المليارية المنهوبة فساداً، يومياً وشهرياً وسنوياً، من مجمل نشاط شبكات السوق السوداء التي تعمل بعمق الكثير من المواد والسلع، استغلالاً لحاجات المواطنين والقطاعات الإنتاجية (الزراعية والصناعية والحرفية)، بل والخدمية كذلك الأمر، ولعل الأهم لكم أن تتخيلوا حجم وشراسة المعركة مع كبار التجار والفاسدين المتحكمين بمجمل العمليات الاقتصادية والمالية في البلاد بما يحقق استمرار مصالحهم، على حساب مصالح المواطنين ومن جيوبهم، كما على حساب الخزينة العامة للدولة والاقتصاد الوطني ككل!

الحلول الخلبية

على ما يبدو ألّا حلول عملية، لا ذكية ولا غير ذكية، لمعضلة السوق السوداء، ولكافة عوامل النهب والاستغلال المستفحلة والمتزايدة عموماً في البلاد، والتي وصلت لدرجة التوحش بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إلّا من خلال تأمين الحاجات الفعلية للمواطنين من المواد الأساسية وغيرها، شريطة تناسبها وتوافقها سعراً مع القدرة الشرائية لهم، كي يكون «الدعم» حقيقياً وليس خلبياً، يتضمن ذلك طبعاً إعادة الاعتبار للإنتاج (الزراعي والصناعي والحرفي و..) بما يؤمن جزءاً هاماً من الاحتياجات المحلية، مع عدم تغييب الدور الرسمي لأجهزة الرقابة والمتابعة والمحاسبة، شريطة جديته، بالتوازي مع فسح المجال للرقابة الشعبية الحقيقية على عمليات توزيع وبيع هذه المواد والسلع، كما على عمليات الدعم ونسب توزيعها، على المواطنين والقطاعات المختلفة، فكل ما عدا ذلك من إجراءات ما هي إلا ذرّ للرماد في العيون، كي تستمر حلقات النهب والفساد بالاستمرار، وهو ما جرى ويجري حتى الآن!
وبكل اختصار لا يمكن لذلك أن يتم إلّا من خلال تغيير جملة السياسات القائمة والمعتمدة، وعلى كافة المستويات، المحابية عملياً لمصالح القلة من كبار الناهبين والفاسدين على حساب مصالح الغالبية المفقرة، وخاصة على مستوى توزيع الثروة وإعادة توزيعها، بما يضمن بدايةً وقف مسارب النهب والفساد، المصدر الأكبر والرئيسي لتراكم الثروة عند القلة الناهبة والمترفة، ومصدر قوتها واستقوائها عملياً، والمعركة مع هؤلاء شرسة لا شك!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1043
آخر تعديل على الجمعة, 12 تشرين2/نوفمبر 2021 23:12