«الأوغاد».. مسببو كل الأزمات والكوارث!
نسمع بين الحين والآخر عن حوادث وحالات انتحار يتم الإعلان عنها، ويتم تداول بعض حيثياتها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بعضها تتصدر العناوين، وبعضها الآخر ترد كمعطى رقمي ليس إلّا، في بعض الأحيان، فيما تغيب الإحصاءات التي توضح حجم هذه المأساة كظاهرة متزايدة بواقعنا الاجتماعي مؤخراً، والغائب الأكبر هو البحث في الأسباب العميقة التي تدفع إلى الانتحار والمتسببين بها، وخاصة بين صفوف الفئة العمرية الشابة، وبالتالي، السبل الوقائية التي تحد من هذه الظاهرة!
تصدرت الأسبوع الماضي القصة المؤسفة للشاب «كريم اليوسف» من مدينة محردة، الذي أنهى حياته منتحراً، تاركاً «رسالة انتحار» مؤثرة على صفحته الشخصية بتاريخ 3/4/2021، أي قبل شهرين تقريباً من انتحاره، والتي ختمها بعبارة: «سنلتقي في الجحيم أيها الأوغاد... وداعاً».
مأساةٌ مُختلفٌ عليها!
لن نتوه في التفاصيل التي أُغرقت بها بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل عن قصة الشاب المنتحر المأساوية، والانقسام الحاد عليها بين المتعاطف والمستنكر، مع كل أسف، حالها كحال أي حدث، وتحت أي عنوان، جرى ويجري في البلد، وخاصة منذ تفجر الأزمة وحتى الآن، حيث يتم التركيز على الثانوي فيه على حساب الجوهري والهام، وسنكتفي بهذا الصدد فيما ورد في الرسالة التي تركها الشاب المنتحر نفسه!
يُكثف الشاب في «رسالة الانتحار» الأسباب المشجعة له على الانتحار بقوله: «في فترة من الفترات يجتمع عليك كل شيء! خيبات الحظ.. تحطيم الأحلام.. التعب الجسدي.. الذكريات المرة.. لا يمكنني تحمل هذا.. الآن أفكر.. كل ما حولي يدعو للموت.. وكل تلك الأشياء تشجعني على الانتحار.. قد قتلتم روحي، وأنا سأقتل جسدي حتى نتعادل.. لا يوجد كرسي لي في هذه الحياة، كل الأماكن معبأة.. لا مزيد من الخذلان بعد الآن.. لقد قاومت هذه الحياة بما يكفي، حان الوقت لأرحل.. على أية حال لم يكن البقاء سهلاً جداً... سألحق بأحلامي المغادرة... أنا أنسحب، فهذه ليست معركتي أريدكم أن تقطعوا جسدي وتبعثروه تحت الأرض، لا تدفنوا كل هذا الحظ السيء في حفرة واحده...»!
ويختم الشاب المنتحر رسالته بالتالي: «صدقاً لقد نجوت من هذه الحياة بأعجوبة... هذه النهاية... ليست كما خططت لها، لكنها النهاية، وأنا سعيد... سنلتقي في الجحيم أيها الأوغاد... وداعاً».
الأسباب والمسببون
ربما ليس هناك لبس في معرفة «الأوغاد» الذين تم توجيه العبارة لهم في خاتمة رسالة الانتحار!
فإذا كانت الأسباب المباشرة للمأساة واضحة في متن رسالة الانتحار، فإن المسببين في ذلك لم يكونوا غائبين عنها، وربما يتبين أن الشاب لم يكن غافلاً عن جوهر مأساته ومسببيها!
فكل من كان سبباً في الخيبات والخذلان وتحطيم الأحلام- وصولاً إلى قتل روح هذا الشاب قبل جسده، لأنه لم يجد كرسياً له في هذه الحياة التي مُلئت كراسيها- مسؤول عن مأساة هذا الشاب، وغيره من الغالبية المعذبة والمقهورة من كل الفئات العمرية بدرجات متفاوتة نسبياً، في واقع أصبح انسداد الأفق سمة عامة فيه، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، مع سبق الإصرار والترصد على تكريس هذا الانسداد، استبداداً وفساداً!
فمفردة «الأوغاد» (الذين يعدهم الشاب باللقاء بهم في الجحيم كمكان مناسب لهم) بهذا السياق، ربما تجمع في طياتها طيفاً واسعاً من المستهدفين المعنيين!
وقد نكثف هذا الطيف اعتباراً من رموز النهب والفساد الكبير، مروراً بتجار الأزمة وأمراء الحرب، ومن المؤكد ليس انتهاءً بجملة السياسات الليبرالية، ذات الجوهر الطبقي، والتي وصلت لدرجات عالية من التوحش، الداعمة لهؤلاء والحامية لهم ولمصالحهم على حساب مصالح الغالبية من السوريين على طول الخط، والتي ساهمت وتساهم (بشكل مباشر وغير مباشر) في تردي الواقع الاقتصادي الاجتماعي، والسياسي أيضاً، وفي تفشي وانتشار الكثير من الظواهر الاجتماعية الهدامة أيضاً (القتل- المخدرات- الدعارة- الخطف- تجارة الأعضاء- السلب...).
فكل هذا الطيف مسؤول مباشرة عن المأساة الكارثية التي نعيشها في واقعنا على كافة المستويات، طبعاً مع عدم إغفال بعض العوامل الخارجية المساعدة بهذا السياق أيضاً، ولكنها غير حاسمة فيه لوحدها طبعاً.
إحصاءات محلية ودولية
سبق أن نبه رئيس الطبابة الشرعية في سورية، الدكتور زاهر حجو، في وقت سابق من عام 2020، إلى ارتفاع نسبة الانتحار، مشيراً إلى تسجيل 116 حالة انتحار خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2020، ولم تصدر إحصاءات رسمية لاحقة بهذا الصدد، لكن وسائل الإعلام تسلط الضوء على بعض الحالات الملفتة بحيثياتها بين الحين والآخر، نتمنى أن تكون آخرها حادثة انتحار الشاب «كريم» أعلاه، مع عدم اليقين من ذلك!
بالمقابل، فقد أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريراً بتاريخ 17/6/2021 تحت عنوان: «وفاة واحدة من كل 100 وفاة سببها الانتحار».
وقد ورد في مقدمة التقرير ما يلي: «لا يزال الانتحار أحد الأسباب الرئيسية للوفاة حول العالم، وفقاً للتقديرات الأخيرة للمنظمة الصادرة اليوم في تقديراتها عن «الانتحار حول العالم في عام 2019». ففي كل عام، يفوق عدد الأشخاص الذين يموتون انتحاراً عدد من يتوفى منهم بسبب فيروس الإيدز أو الملاريا أو سرطان الثدي، أو حتى الحرب والقتل».
الأوغاد المحليون والدوليون
خلص تقرير منظمة الصحة العالمية إلى جملة من «الإرشادات» بغاية الوقاية من الانتحار، بعنوان «عش الحياة» ركزت خلالها على الثانوي بدلاً من الجوهري أيضاً!
حيث اشتمل نهج الوقاية من الانتحار على أربع استراتيجيات هي التالية: تقييد الوصول إلى وسائل الانتحار، مثل: المبيدات الشديدة الخطورة والأسلحة النارية. - تثقيف وسائل الإعلام بشأن الصياغة المسؤولة للتقارير عن الانتحار. - تعزيز مهارات الحياة الاجتماعية/العاطفية لدى المراهقين. - التعرّف المبكر على حالات تبدي أفكاراً أو سلوكيات انتحارية وتقييمها وإدارتها ومتابعتها.
الغائب في التقرير الدولي، هو عدم تسليط الضوء على الواقع الاقتصادي الاجتماعي الظالم للمنظومة الرأسمالية المتسيدة، الذي يدفع بالمزيد نحو الانتحار بسبب التردي المعيشي وانغلاق الأفق أمام الغالبية الساحقة من البشر في مختلف الدول.
فظاهرة الانتحار، على الرغم من أرقامها المرتفعة والمرعبة على المستوى الدولي، ما زالت تعتبر في نظر معدي التقرير ذات طابع فردي، لذلك كانت الإرشادات مقتصرة على هذا الجانب القاصر وحده فقط، بعيداً عن تحميل المنظومة الرأسمالية العفنة نتائج موبقاتها!
وليس بعيداً عن التقرير الدولي، فما يجري محلياً عند الحديث عن حالات الانتحار في بعض الأحيان هو: تغليب العوامل النفسية الذاتية للمنتحر (كحالة مرضية)، دون تغييب أهميتها طبعاً، بل وتحميله مسؤولية الواقع المأساوي لوحده، علماً أن الجميع مكتوون بهذا الواقع، ويدفعون ضريبة مفرزاته الكارثية على كافة المستويات!
ليتبين أن الأوغاد الدوليين، المتسببين في رفع معدلات الانتحار إلى النسبة المرعبة أعلاه، وفي تكريس المآسي والكوارث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية و.. على المستوى الدولي، ليسوا أقل سوءاً ومسؤولية عن أوغادنا المحليين، بل ربما سبقوهم بأشواط!
ومن المؤكد، أنه لا خلاص إلّا بالسعي الجاد نحو تغيير هذه المنظومة العفنة، واقتلاعها من جذورها في مركزها وفي أطرافها، وعندها فقط يمكن إطلاق شعار «عش الحياة» القابل للتنفيذ!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1028