بروتوكول صحي منفصل عن الواقع
هل من الممكن إنجاز الواجبات والمهام، من خلال بعض التوجيهات الإدارية، بمعزل عن تهيئة البيئة المناسبة لتنفيذها، مع تأمين مستلزماتها وضروراتها؟!
ربما هذه هي حال غالبية التوجيهات الحكومية المصاغة بمعزل عن الواقع، والمثال الأخير عن ذلك ينطبق على ما أسمته وزارة التربية: «بروتوكول صحي للعودة إلى المدارس، يطبق على جميع مدارس الجمهورية العربية السورية»، الذي تضمن بعض الإجراءات والتوجيهات ذات الطابع الصحي، تمهيداً لافتتاح المدارس في الموعد المحدد لها والمعدل من قبل مجلس الوزراء مؤخراً بحيث أصبح بتاريخ 13/9/2020، وذلك بعد اطلاعه على البروتوكول الصحي المقدم من وزارة التربية، وذلك يعني ضمناً موافقته عليه.
الصياغات المسبوكة لا تعفي من المسؤوليات
الوزارة أصدرت «البروتوكول الصحي» بعد أن وصلتها الكثير من الاعتراضات على الافتتاح المدرسي، في ظل استمرار خطر تفشي جائحة الكورونا، والخشية على التلاميذ من المرض بداية، ومن أن يكونوا ناقلين وناشرين له في منازلهم وإلى أفراد أسرهم، على أنه ضامن «لصحة وسلامة التلاميذ والطلاب والعاملين في الحقل التربوي».
مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الاعتراضات على الافتتاح المدرسي لم تقتصر على ذوي الطلاب فقط، بل شملت الكثير من العاملين في الحقل التربوي، وكذلك الكثير من الأطباء، بما في ذلك عميد كلية الطب البشري في جامعة دمشق، الذي وضع الكثير من الملاحظات الصحية العامة، وخاصة فيما يتعلق بالتزام التلاميذ الصغار ببعض الواجبات، بالإضافة لبعض الملاحظات على البروتوكول نفسه، معتبراً الافتتاح المدرسي «مغامرة» الآن.
فمضمون البروتوكول لم يخرج عن كونه تجييراً للمسؤوليات، وإحالتها من الوزارة لتصبح بعهدة مديريات التربية ومدراء المدارس وغيرهم، ومن المستحيل تطبيقه، وذلك لكونه منفصلاً عن الواقع في الكثير من حيثياته.
فقد أصدرت وزارة التربية، بتاريخ 20/8/2020، ما أسمته: «بروتوكول صحي للعودة إلى المدارس»، وفي مقدمة هذا البروتوكول، وقبل كل فقرة توجيهية من فقراته بحسب الموقع الرسمي للوزارة، وردت العبارة التالية: «حرصاً على افتتاح المدارس وإعادتها إلى العمل التربوي والتعليمي وفق متطلبات الحفاظ على سوية التعليم في الجمهورية العربية السورية، مع ضمان صحة وسلامة التلاميذ والطلاب والعاملين في الحقل التربوي بما يخدم تحقيق جودة التعليم وفق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة».
العبارة وفقاً للمهمة الشاملة أعلاه تبدو جميلة ومتكاملة نظرياً، لكنها مع الأسف تفتقد مقوماتها العملية بغالبية الفقرات التوجيهية التي تتبعها، وكأن الصياغات المسبوكة تعفي من صاغها من مسؤولياته، أو أنها كافية لتجاوز الواقع ومتطلباته!
أمثلة تدحضها الأرقام الرسمية
لن نستعرض كافة فقرات البروتوكول التوجيهية، لكننا سنقف عند البعض منها، ذات الطابع الإداري فقط.
فعلى سبيل المثال: وردت بعض المسؤوليات بعهدة «كوادر الصحة المدرسية»، مثل: «اكتشاف الحالات المشتبهة، والإجراءات الواجب اتخاذها عند حدوث إصابة أو تفشٍّ في المدرسة»، كما ورد في فقرة منفصلة ما يلي: «تأمين مشرف صحي في كل مدرسة يتم فرزه من المساعدات الصحيات العاملات في دوائر الصحة المدرسية ومستوصفاتها، وفي حال النقص يمكن الاستعانة بالإداريين العاملين في الصحة المدرسية».
من خلال المعطيات الرقمية الرسمية، وبحسب بيانات المجموعة الإحصائية للمكتب المركزي للإحصاء عن عام 2019، فإن عدد مدارس التعليم الأساسي الرسمية (حلقة أولى وثانية) في دمشق لعام 2018 يبلغ /406/ مدارس، وعدد المدارس الثانوية الرسمية فيها يبلغ /75/ مدرسة، وبمجموع عام يبلغ /481/ مدرسة.
ونتساءل بهذا الصدد عن عدد المساعدات الصحيات العاملات في دوائر الصحة المدرسية ومستوصفاتها، والإداريين العاملين في الصحة المدرسية في مدينة دمشق، وهل يكفي عدد هؤلاء لتغطية عدد المدارس الرسمية السابق كي يقوموا بهذه المهام الجديدة بحسب البروتوكول؟
علماً أن العدد الإجمالي للمدارس الموضوعة بعهدة الصحة المدرسية وكوادرها بهذا الصدد أكثر من ذلك، فهي تشمل المدارس الخاصة والمستولى عليها والعائدة لليونيسيف!
وعلى السياق نفسه وفي فقرة أخرى وردت مسؤولية تنفيذية، بعهدة المشرف الصحي في كل مدرسة كما يلي: «قيام المستخدمين بالتنظيف المستمر لدورات المياه وتعقيم مقابض الأبواب والمقاعد، نظافة البيئة المدرسية (الباحة، الحديقة، الغرف...) بشكل يومي.. والتأكيد على تهوية الصفوف وتنظيفها وتعقيم السطوح بشكل دائم».
ونتساءل هنا عن عدد المستخدمين الافتراضي في كل مدرسة كي تنفذ المهمة السابقة على أكمل وجه؟
فمن المستحيل أن تناط مثل هذه المهام الكبيرة بعدد مستخدمين قد لا يتجاوز الثلاثة في كل مدرسة في أحسن الأحوال، ومن الطبيعي بالنتيجة ألا تنفذ هذه المهمة الحيوية والهامة صحياً بهذه الظروف.
ليتبين من خلال الملاحظتين السابقتين فقط.. أن العبارات المسبوكة الجميلة في البروتوكول، وما يتبعها من مهام ومسؤوليات، تفتقد لمقوماتها التنفيذية ذات الطابع الإداري البحت في البداية، والمتمثل بعدم توفر الأعداد الكافية من المكلفين بالمهام أعلاه (مشرفين صحيين- مستخدمين)، وهي بالتالي لا تخرج عن كونها تجييراً للمسؤوليات وتحميلها للحلقات الأدنى، وهي بالمحصلة قفز على الواقع وتجاهل رسمي له!
الازدحام مشكلة بذاته
أنيطت بالموجه الإداري في كل مدرسة، بحسب البروتوكول، مهمة وفقاً لما يلي: «وزارة التربية تحدد مهام الموجه الإداري في المدرسة بتقسيم الاستراحة بين الطلاب لتجنب الازدحام، وتقليل عدد التلاميذ في الغرفة الصفية (طالبان فقط في المقعد إن أمكن)».
مشكلة الازدحام الصفي أو في الباحات خلال الاستراحات ليست جديدة، كما أنها ليست من مسؤولية الموجه التربوي أصلاً، فعدد التلاميذ في كل مدرسة، وبالتالي في كل شعبة صفية، أمر يتجاوز في كثير من الأحيان صلاحيات مدراء المدارس أنفسهم، خاصة مع التوجيهات بقبول جميع التلاميذ، والواقع يقول: إن بعض الشعب الصفية توزع فيها التلاميذ بواقع 4 تلاميذ في كل مقعد، وعبارة «إن أمكن ذلك» في هذا السياق ليست إلا تعبير عن المعرفة المسبقة بهذا الواقع، والعجز عن تنفيذ مثل هذه المهمة (طالبان فقط في المقعد).
وعلى مستوى الأرقام الرسمية بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء، فإن عدد تلاميذ مرحلة التعليم الأساسي (حلقة أولى) عام 2018 في المدارس الرسمية في دمشق يبلغ /173,597/ تلميذاً، وعدد تلاميذ مرحلة التعليم الأساسي (حلقة ثانية) يبلغ /64,371/ تلميذاً، ومجموع التلاميذ في الحلقة الأولى والثانية في دمشق يبلغ /237,968/ تلميذاً، وبتقسيم هؤلاء على عدد المدارس البالغ /481/ مدرسة، يتبين أن وسطي عدد التلاميذ في كل مدرسة هو بحدود /586/ تلميذاً، وهذا الواقع الرقمي ذو الطبيعة والمسؤولية الإدارية تعرفه الوزارة من كل بد، لكنها تتجاوزه وتقفز عنه تهرباً وفقاً لمضمون البروتوكول، وتُجيّر مسؤوليته إلى الموجه التربوي بكل أريحية، برغم معرفتها المسبقة بعجزه عن تنفيذ هذه المهمة.
انفصال عن الواقع أم زجّ في المأساة؟
لن نخوض بتفنيد بقية التوجيهات وفقاً للبروتوكول الوزاري الجميل من حيث الصياغة، والمنتهي إلى تجيير الكثير من المسؤوليات تهرباً منها، ولن نخوض بالحديث عن الجائحة فقد قيل فيها الكثير، وخاصة من قبل أصحاب الاختصاص (أطباء ومنظمات صحية)، وكذلك لن نخوض بالحديث عن النواقص الكثيرة على مستوى البنية التحتية في المدارس، وخاصة خدمات المرافق الصحية فيها، التي تعلمها الوزارة ومديرياتها في المحافظات، أو الحديث عن حجم الأعباء الكبيرة الملقاة على عاتق الكادر التدريسي والإداري في ظل الواقع الرقمي الكبير لأعداد الطلاب في كل مدرسة، لكنا سنقف عند النتائج المتوقعة بعد ذلك كله على مستوى ضمان صحة وسلامة التلاميذ والطلاب وذويهم والعاملين في الحقل التربوي في ظل استمرار الجائحة!
فالبروتوكول الشكلي الصادر عن الوزارة ليس أكثر من كلام بكلام على مستوى ضمان الصحة والسلامة، فهو يفتقد للكثير من ممكنات تطبيقه عملياً، ومع ذلك فيه تجيير للكثير من المسؤوليات إلى الحلقات الأدنى.. هكذا، ومفردة «المغامرة» على مستوى التمسك بافتتاح المدارس في موعدها ربما تبدو أصغر وأقل من المعطيات الواقعية، التي يتم القفز عنها وتجاهلها رسمياً.
فهل هناك انفصال عن الواقع فعلاً، أم هناك دفع للخوض أكثر في عمق المأساة، مهما كانت النتائج؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 980