شذوذ الظواهر الاجتماعية والسياسات الليبرالية
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

شذوذ الظواهر الاجتماعية والسياسات الليبرالية

تفاقمت الظواهر الاجتماعية السلبية، توسعت وتعمقت، وأصبحت أكثر شذوذاً، وخاصة ذات التوصيف الجرمي، وذلك بالتوازي مع تفاقم وتراجع الوضع الاقتصادي المعيشي، الذي ازداد ترديه خلال السنوات الماضية، بسبب الاستمرار بالسياسات الليبرالية، وكنتيجة لتداعيات الحرب والأزمة.

الفساد، البطالة، الفقر، الجوع، الجهل، التسول، التحرش، الدعارة، السرقة والسلب والنهب، تهريب وترويج وتعاطي المخدرات، القتل، الخطف، بيع الأطفال أو رميهم والتخلي عنهم، تجارة الأعضاء، الانتحار..، جميع هذه الظواهر السلبية تزايدت نسبياً خلال السنوات الماضية، وبدرجات متفاوتة.

مزيد من الشذوذ

في السنين الأخيرة تزايد الشذوذ في الكثير من هذه الظواهر الشاذة أصلاً، مع الجرائم الناجمة عنها، ويكاد لا يمضي يوم دون تسجيل العديد من الحوادث والجرائم المقترنة بظاهرة من هذه الظواهر السلبية.
ربما لا داعٍ للحديث عن تزايد معدلات الفقر وصولاً لمرحلة الجوع وتفشيه، فما نعيشه ونشاهده يومياً من ويلات على هذا المستوى، وصولاً لنبش حاويات القمامة بحثاً عن الطعام، لا يحتاج إلى إثبات، ومع ذلك تأتي التأكيدات من خلال الأرقام الإحصائية، الرسمية وغير الرسمية، عن الواقع المعيشي، والتقارير الدورية لمراكز الأبحاث وللمنظمات الدولية، التي تقول بمعظمها: إن أكثر من 80% من السوريين أصبحوا تحت خط الفقر، ودون معدلات الأمن الغذائي.
كذلك ربما لا داعٍ للحديث عن ظاهرة الفساد، الكبير والصغير، المتفشي والمحمي بعباءة الاستقواء بالمال والنفوذ والسلطة، وما ينجم عنه من ظواهر سلبية إضافية أصبحت أكثر فجاجةً وشذوذا،ً مثل: المحسوبية والوساطة و..
لكن أخطر الشرور المرافقة لتفشي وانتشار وتعمق جميع الظواهر السلبية هو الخطر المتمثل بالمعطى الثقافي والمعرفي الليبرالي المشوه والأكثر شذوذاً، والذي يتم تسويقه وترويجه من أجل قبول وإعادة إنتاج جميع الظواهر السلبية.

الأمثلة العيانية كثيرة

لعل الجريمة التي وقعت في ريف دمشق مؤخراً، والتي ذهب ضحيتها ثلاثة أطفال، تعتبر نموذجاً من نماذج الشذوذ حتى على مستوى جرائم القتل، حيث تعاون الأب مع زوجته «خالة الأولاد» على تسميم هؤلاء الأطفال، وعندما لم يأخذ السم مفعوله، تم اللجوء لخنق الأطفال حتى الموت!.
وكذلك سمعنا وقرأنا عن وقائع عديدة تم العثور خلالها على أطفال رضع مرميين في حاويات القمامة، أو متروكين على قارعة الطرقات، بعضهم كان قد فارق الحياة قبل الوصول إليه، وبعضهم نجا ليواجه بؤس الحياة!.
كما تزايدت حالات الانتحار خلال السنين الماضية، فقد بلغت حالات الانتحار هذا العام، بحسب مدير عام الهيئة العامة للطب الشرعي، 51 حالة منذ مطلع العام حتى تاريخ 10/5/2020، منها 24 حالة شنقاً، وقد كانت أعداد الحالات العام الماضي 120 حالة انتحار.
أما الأكثر حضوراً على مستوى الظواهر الجرمية المتزايدة مؤخراً، فهو المرتبط بالمخدرات والحشيش، تهريباً وترويجاً وتعاطياً، ولعل زيادة أعداد عمليات الضبط لهذه الجريمة، داخلاً وخارجاً على الحدود، تعتبر مؤشراً على مدى توسعها وانتشارها، علماً أن ما يتم ضبطه وتوثيقه ربما يشكل نسبة صغيرة من مجمل نشاط الشبكات العاملة بهذه الجريمة، التي تعتبر من الجرائم المنظمة عابرة الحدود.
فكثيرة هي الظواهر السلبية التي ترافقت مع الجريمة بواقعنا خلال السنوات القليلة الماضة، فعمليات الخطف من أجل الفدية، والتي انتهى بعضها بقتل المختطف، كانت كثيرة، وعمليات السرقة والنهب بقوة السلاح أيضاً تزايدت معدلاتها، وكذلك تزايدت الحوادث ذات الطابع الجرمي، ولو عن غير قصد، نتيجة تفلت وانفلات السلاح كظاهرة سلبية إضافية أيضاً.

الوقائع عرّت السياسات

من المفروغ منه أن ظاهرتي الفقر والجوع ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بظواهر البطالة والتهميش من حيث كونها سبباً من الأسباب، وبظواهر التسول والتشرد كنتيجة من النتائج، وربما أصبح إدراك جميع الظواهر السلبية ما هي إلا جزء من نتائج السياسات الليبرالية التي وصلت لمرحلة التوحش والبربرية، أكثر سهولة، دون الخوض بالتحليل النظري، على اعتبار أن الواقع العملي المعاش بوقائعه بات أكثر وضوحاً وتعريةً لهذه السياسات ونتائجها الكارثية الملموسة.
وكذلك إدراك أن هذه الظواهر ملازمة لليبرالية الاقتصادية، مهما تجملت ومهما أسبغوا عليها من حياد، وتتفاقم بتفاقمها، وما وصل إليه بعضها من الشذوذ والتوحش، ما هو إلا تعبير عن توحش الليبرالية نفسها وشذوذها، فطبيعة علاقات الإنتاج الرأسمالية نفسها متوحشة، ارتباطاً بطبيعة رأس المال نفسه، الباحث عن مصادر الربح والمزيد منها، بغض النظر عن الوسيلة، وبغض النظر عن الضحايا.
فالبعض كان يقول: إن هذه الظواهر موجودة في كل المجمعات عبر التاريخ، لتبرير وجودها واستمرارها والاستفادة منها، لكن ما يتم إغفاله بهذا المجال، وما جرى تعريته عبر الوقائع الملموسة، إن جميع هذه الظواهر السلبية ما كان لها أن تنتقل من حيث كونها حالات فردية، منبوذة ومحصورة ومقيدة، يمكن أن توجد في أي مجتمع، إلى حيز اعتبارها ظاهرة اجتماعية منفلتة، لو لم يتم توسيعها وتعميقها، بل ورعايتها وحمايتها مع الاستفادة منها طبعاً، فهذا التوسع والتعمق هو النتاج الطبيعي لليبرالية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والمعرفية و.. بتطورها الشاذ على كافة المستويات، وصولاً للجريمة المنظمة التي عبرت الحدود مع رأس المال، أس الشرور ومصدرها، وبإدارته ولمصلحته.

القطع مع السياسات الليبرالية ضرورة حياتية

لا شك أن الحديث عن الظواهر الاجتماعية السلبية واسع ومتشعب وعميق، كما له الكثير من التتمات والتداعيات التي تحتاج للكثير من التفصيلات من قبل المختصين بالشؤون (الاقتصادية والسياسة والاجتماعية والثقافية والنفسية والاعلامية و..)، وخاصة في ظل ترابط وارتباط هذه الظواهر داخلاً خارجاً، وتحديداً تلك التي تدخل بحيز الجريمة المنظمة عابرة الحدود، التي وصلت لمرحلة الفاشية، اعتباراً من تهريب السلاح والمخدرات وتجارة الأعضاء، وليس انتهاءً بتنظيمات، مثل: (القاعدة وداعش وشبيهاتها).
لكن وبكل اختصار يمكن القول: إنه من أجل الخلاص من هذه الظواهر السلبية، أو الحد منها وتقويضها بالحدود الدنيا، يجب التخلص من التربة التي تنمو عليها هذه الظواهر وتستفحل، والمتمثلة بالسياسات الليبرالية المطبقة على كافة المستويات أعلاه.
فشعار القطع مع السياسات الليبرالية محلياً قد يبدو ظاهراً أنه بمحتوى اقتصادي فقط، لكنه بالعمق ذا محتوى سياسي اجتماعي ثقافي معرفي... وربما أصبحت ضرورة استمرار الحياة نفسها تفرضه أكثر من أي وقت مضى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
967
آخر تعديل على السبت, 30 أيار 2020 12:57