حلب.. معاناة «الكورونا» واختبار قدرة المجتمع
أثر الوضع المعيشي المتردي- للغالبية الساحقة من المواطنين- على الوضع الصحي الراهن، وجعل من الخطوات المطلوبة للتخلص من «كورونا» مصدراً جديداً للسخرية.
هؤلاء الذين عانوا ولا زالوا يعانون الأمرين من عدم القدرة على توفير وضع معيشي لائق أولاً، قبل توفير مستوى صحي للاستمرار في حياتهم المليئة بالتعب والأمراض، والناجمة عن حجم الأعمال التي كانت تزيد يوماً بعد يوم. من الذي جعل كورونا فيروس قاتلاً لا يمكن النجاة منه؟ لمن هم في مهب كل تلك الأمراض، في بلد لم تكن قادرة على أن تعينهم في ظرفٍ كهذا، أقلها في الفترة التي طلبت إليهم فيها أن يلتزموا بالحجر الصحي دون النظر لمدى قدرتهم الحقيقية على فعل ذلك .
عمال في مهب هلاك صحييسبق الكورونا...
أنّى للعمال المياومين أن يلتزموا بالحجر الصحي الذي قد يقتلهم جوعاً، قبل أن يقتلهم مرضاً هم وعوائلهم، إنْ لم يخرجوا يومياً لالتقاط أرزاقهم التي كانت تتفاوت سابقاً، فما حالها في ظل هكذا أزمة ألمت بهم دون حسبان أو سابق إنذار.
نزار، شاب في أواخر العقد الثالث من عمره، يتحدث إلى قاسيون: «أنا عسكري احتياط، متزوج ولدي أولاد، راتبي حوالي 70000 ليرة، إن أردت زيارة عائلتي كل شهر، أضع 30000 آجار طرقات ذهاباً وإياباً، ماذا عساي أن أنتظر من 40000 ليرة أن تكفي، هل أضعها ثمن كمامات ومعقمات ونفتح بعدها فمنا للهواء؟! أم أتخلى عن حقي بالإجازة الشهرية لأرسل لهم كامل راتبي عسى أن يعيشوا به بطريقة أفضل، وعليّ أن أدفع ثمن هذا بهلاكي من عدم الراحة و«أكل البطاطا»، وإن كنت أستغل الإجازة غالباً في العمل الحر، الذي كان يساعدني في تعويض آجار الطرقات والقدرة على تلبية بعض أهم الحاجات الضرورية لعائلتي، فإن الحجر الصحي قد أغلق هذا الباب بوجهي، فمن سوف يشعر بالمسؤولية تجاه عائلتي في كل هذه الظروف سواي؟!».
أما «أحمد» عامل البناء الذي بلغ من العمر ما يقارب الأربعين عاماً، لم ينقطع عمله في ظل قرارات الحجر الصحي، ولم يكن هو قادر على قطعه من تلقاء نفسه، وإن كان تعرضه للعوامل التي تزيد من خطر إصابته قد يُقلق عائلته، فإنه لا يقف عائقاً في طريق استمراره لأنه ما من بديل، فيطلق عنان السخرية عن هكذا وضع لا مسؤول حقيقي تجاهه، قائلاً: «نحنا هون بسورية مو بالصين حتى تفكروا أنو حدا ممكن يسأل عليكن بفترة الحجر الصحي ويقدملكن متطلباتكن، هون أعظم شي ممكن يتقدملكن هو صف الحكي..!»
ازدحامات.. تنسف إجراءات الحكومة!
لم يكن موظفو الحكومة أفضل حالاً عن الآخرين، التي حاولت مؤسساتهم ودوائرهم أن تجعل بنظام المناوبة منأى صحياً فهو أشبه بالحجر، هم المتعرضون لاستخدام وسائل نقل عُقمت لمرة واحدة فقط في بداية صدور تعليمات الحجر، وهي غير كافية طبعاً لوسائل نقل أصغرها يُقل 15 شخص في كل «توصيلة»، ولم نأت بعد على ذكر من كانوا مجبرين على استخدام الباصات الكبيرة، والتي رأى الناس في قرار الحكومة مؤخراً، بعدم السماح لأكثر من خمس أشخاص بالوقوف في حال امتلاء الباص، بصيص وعي حكومي، القرار الذي لم ير النور حتى عادت الباصات لتغص بالركاب، الذين لا يملكون من أمر تغيير وسائل النقل أو استبدالها بالسير حتى لقضاء أهم حوائجهم فقط سبيلاً.
«سيرين» شابة عاملة باتت مضطرة لاستخدام باص «المشهد» وسيلة نقل لا بديل عنها، تسأل: هل الكمامات والكفوف والتعقيم المستمر قادر أن يرد فيروس من شخص لا يفصلني عنه أي فاصل في ظل ازدحام الباص، وإن استطاعت، فكم مرة قادرة على أن تستمر في رد ذاك الأذى المحدق بنا؟ وأنا كعاملة في قطاع خاص كم تظنون في مقدرتي أن أخصص من راتبي من أجل كمامات وكفوف ومعقمات ضرورية التبديل والتجديد؟ أظن أن الجواب سيكون أفضل إن أخبركم بأن راتبي يجعلني أظن أنه وكأنني أعمل من أجل توفير هذه المستلزمات التي باتت ضرورة في ظل هكذا وضع».
ويتساءل مواطنون: صالات السورية للتجارة أليست ضمن الازدحامات التي ممكن أن تكون بؤرة حكومية لانتشار المرض، ومن المفترض أن تكون إجراءات الحكومة أكثر حذراً والتزاماً تجاه المواطن مما هي عليه، أقلها في مؤسسات كهذه تابعة لها!.
فـ«الصالات الغذائية» والتي ازداد ازدحامها مؤخراً، وخاصةً من قبل ذوي الدخل المحدود، هل عجز المسؤولون عن إيجاد حلول حقيقية لها؟.. حتى نراهم يطالبون المواطنين بالذهاب في حال وجود ازدحام والعودة بعد ساعات أخرى أو في اليوم التالي!! فمن ذا الذي سوف يذهب أو يبقى في هذه الحالة باعتقاده، وهم بنفس مقدار الحاجة لهذه المواد الاستهلاكية؟ ألم يكن أجدر بهم أن يجدو حلولاً بديلة حقيقة، كأن يتم توزيع المواد التي يُفترض بها أن تباع بأسعار أقل في المؤسسات، على البقاليات والمحال التجارية مثلاً مع فرض أسعار المؤسسة عليها؟!.
حجر معيشي يسبق الحجر الصحي
بعد القرار الرسمي بشأن مادة الخبز وتوزيعها في مدينة حلب، فإن أول ما يتبادر لذهن المواطن هو تحديد مخصصات هذه المادة التي ظن المواطن أنها ومهما ارتفع سعرها بقيت الأرخص في ظل ارتفاع وتقنين بعض المواد، التي بات المواطن يقلص من استهلاكها، حتى تقلصت صحته معها، بعد أن كانت الأكثر توفراً والأقل سعراً، وبات معظمها عكس ذلك بعد أن حصرها القرار بالموزعين، واستمرار الازدحام مع قلة توفرها، التي تدفع بالمواطن لشرائها من السوق السوداء بسعر مضاعف مرات، وهو نفسه السبب الذي جعل المواطن يتجه لتقليص استهلاكه لها أيضاً، دون التمكن من الاستغناء عن شرائها من السوق بتلك الأسعار، وهو السبب ذاته الذي جعل المواطن يشعر وكأنه قد حُجر عليه معيشياً وعنوةً، قبل أن يُحجر عليه صحياً، والحجر الأخير زاد من سوء الأول سوءاً..
ليست قلة وعي ولا استهتار بل اختبار
أول جملة قد يواجه بها السوري: اتهامه بـ«قلة الوعي» لعدم التزامه بالتعليمات الصحية للوقاية: «مو قلة وعي ولا استهتار بس عشنااا وشفنااا ودقنا الأمرين بعشر سنين حرب من ورا الفاسدين وكبار الناهبين وتجار الحرب والأزمة، وطلع ع لسانا شعر لحتى تمسحنا وبطل يفرق معنا شي من كتر الطناش واللامبالاة الرسمية.. بس قصة مواجهة الفيروس بالوعي لحالو مو كافية.. ولا بتكفي الإجراءات والتوجيهات طالما بقي الحال ع حالو من النهب والفساد».
ربما نحن أمام اختبار حقيقي، إما أن تقوم البنية القائمة بدورها الكامل بعيداً عن أوجه النهب والفساد، أو إثبات ما هو مثبت ومجرب سابقاً بأن هذه البنية أصبحت مستهلكة ومنتهية الصلاحية ولا رجاء منها، وسيضطر المجتمع للتصدي بنفسه لها لفرض بدائلها، كي يأخذ حقه في البقاء والوجود والاستمرار!.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 958