أزمة السكن ومساعي وأد قِطّاعه الأهلي
نوار الدمشقي نوار الدمشقي

أزمة السكن ومساعي وأد قِطّاعه الأهلي

أزمة السكن المستعصية والمزمنة ليست جديدة، لكن الجديد والمستجد عليها دائماً هو تغوّل أوجه وأشكال الاستغلال بعمقها، بالإضافة إلى أوجه وأشكال الفساد على هامشها، فالسكن كحاجة وضرورة مستدامة ومتنامية بالنسبة للمواطنين لم يجد خططه المحكمة رسمياً من قبل الدولة عبر جهاتها المعنية والمتخصصة منذ عقود، حيث أصبحت هذه الحاجة والضرورة أزمة مستفحلة وكبيرة، وقد ازدادت بشكل غير مسبوق خلال سنوات الحرب والأزمة وبنتيجتها، بسبب حجم الدمار الكبير الذي أتى على المساكن والبيوت.

على هامش هذه الأزمة المزمنة وقصور دور الدولة التاريخي ظهرت الجمعيات التعاونية السكنية، كما غيرها من الجمعيات الأهلية الأخرى، لتتصدى لبعض أوجه القصور الحكومي في هذا المجال، فقطّاع التعاون السكني نشأ في خمسينات القرن الماضي كجزء من القِطّاع التعاوني، وتم تنظيمه بشكل مستقل لاحقاً، اعتباراً من القانون 13 لعام 1981، وصولاً للمرسوم التشريعي 99 لعام 2011، كما جرى إحداث مؤسسة حكومية متخصصة وتعنى بالسكن أيضاً، هي المؤسسة العامة للإسكان.

معاناة مزمنة

عانى قِطّاع التعاون السكني من الكثير من الصعوبات والمعيقات خلال العقود الماضية، وما زال، وأصابه الكثير من أوجه الترهُّل والضعف، الذاتية والموضوعية، كما حامت حوله الكثير من الشكوك والشبهات بالمحسوبية والفساد، وصولاً إلى وجود الكثير من الدعاوى في أروقة القضاء تتعلق بهذا القِطّاع والمنتسبين إليه، بجمعياته وأعضاء مجالس إداراته.
بالمقابل، لا يمكن نفي أن هذا القِطّاع تصدى لبعض أوجه أزمة السكن المستفحلة في البلاد بحسب إمكاناته وحجم دوره وفاعليته خلال العقود الطويلة الماضية، باعتباره كان البديل «الأهلي» المتاح أمام عجز الدولة عن حل أزمة السكن والإسكان بشكل نهائي وتام عبر مؤسساتها وجهاتها المعنية، الأمر الذي جعل من هذا القِطّاع ذا أهمية خاصة بحيث تطور من كونه عبارة عن جمعيات متفرقة وصولاً لاتحادات واتحاد عام يجمعها وينظم عملها بقوة القانون.
هذا التطور التاريخي للعمل الأهلي، على مستوى حلّ جزء من أزمة السكن، الذي فرضته الضرورات لم تتغير مقدماته ومبرراته حتى الآن، بل ربما زادت أكثر بكثير مما مضى خلال العقود الماضية، وتزايدت أهميته الآن بسبب الحرب والأزمة وتداعياتها ونتائجها، ومع ذلك لم يجد هذا القِطّاع «الأهلي» إلا مزيداً من الصعوبات والمعيقات، وصولاً إلى الحديث عن مشروع قانون لحل الاتحاد التعاوني السكني، وما سيترتب عليه من ضعف على مستوى عمل الجمعيات المتفرقة لاحقاً، ناهيك عن قرارات حل بعض الجمعيات مؤخراً أيضاً.

مبررات وذرائع

لن نخوض كثيراً في مبررات حل الاتحاد التعاوني السكني بحسب ما صرح به وزير الأشغال العامة والإسكان من أنه: «بسبب ما آل إليه هذا القِطّاع من كثرة المشاكل والأخطاء التي أدت إلى رفع الدعاوى الكثيرة لدى المحاكم وكثرة القضايا التي تتابعها الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، وحفاظاً على حقوق المواطنين في هذا القِطّاع الهام والحيوي».
فهذا المبرر، وهو صحيح كما أسلفنا أعلاه، هو أحد جوانب المشكلة التي يعاني منها هذا القِطّاع فقط، أما الجوانب الأخرى الأكثر أهمية وعمقاً، والمغيبة، فتتعلق بجوانب مرتبطة بالأراضي والأموال والتمويل والتسهيلات، وغيرها من القضايا الكثيرة الأخرى، وهذه الجوانب تعتبر الدولة ممثلة بوزارات (الإسكان والإدارة المحلية والمالية) طرفاً فيها، وقد سبق وأن عرضت معاناة القِطّاع التعاوني السكني بهذا الشأن مراراً وتكراراً وبالتفاصيل، بالإضافة إلى الارتباط المباشر بالسياسات العامة ذات التوجه والجوهر الليبرالي التي تعتمدها الحكومة، اعتباراً مما يتعلق بمشكلة وأزمة السكن والإسكان مباشرة وبطرق حلها والتصدي لها عبر الخطط «الغائبة» التي من المفترض أن تكون مستدامة ومتوافقة مع الحاجات المتنامية للسكن، أو بغيرها من التوجهات العامة لهذه السياسات والمرتبطة عمقاً ببعض جوانب هذه المشكلة والأزمة، والتي لا تنعكس سلباً على القِطّاع التعاوني السكني فقط، بل وعلى المؤسسة الحكومية المعنية بهذا الشأن نفسها أيضاً، ناهيك عن كل ما يمكن أن يقال عن الاستغلال والفساد والمحسوبية، وغيرها من الظواهر والمظاهر السلبية التي تزايد أثرها وتأثيرها كنتيجة حتمية لهذه السياسات.
وتعقيباً على ما سبق، نستشهد بما قاله وزير الإسكان بنفسه، بحسب ما نقل عنه عبر بعض وسائل الإعلام من أن: «السكن حلم وأصبح مطلباً ملحاً»، ونتساءل بدورنا عن دور الدولة المفترض بهذا الشأن في ظل الاستمرار بنفس السياسات التي لم تثمر إلا المزيد من الأزمات والمشاكل، والتي لم تقتصر على السكن والإسكان فقط، بل تعدتها لتشمل كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، بل والوطنية أيضاً.

مستفيدون وخاسرون

وأمام هذا الواقع والحال، نتساءل هل حل الاتحاد التعاوني السكني، وغض الطرف عن مشاكل الجمعيات السكنية المستعصية والمزمنة كما ورد سابقاً، يعتبر جزءاً من الحل أو استكمالاً للمشكلة وتعميقها؟.
والسؤال الأهم في هذه الظروف الاستثنائية: لمصلحة من يتم إضعاف دور الجانب الأهلي بما يخص التصدي لمشكلة وأزمة السكن والإسكان المزمنة؟.
فإذا كان حيتان الاستغلال، من تجار عقارات وسماسرة وشقيعة وفاسدين، هم المستفيدون من أزمة السكن المستعصية منذ عقود في ظل تراخي وتراجع دور الدولة على مستوى حل هذه المشكلة، وفي ظل ضعف ومعاناة وصعوبات القِطّاع الأهلي التعاوني، وصولاً إلى تكريس نموذج ضواحي المخالفات والعشوائيات، التي زادت واتسعت خلال العقود الماضية، فإن كبار حيتان المال والاستثمار الآن، داخلاً وخارجاً، يسعون إلى التكالب على هذه الأزمة التي تفاقمت بشكل كبير، وبنفس الوقت أصبحت فرصة أكبر للتربح والاستغلال نظراً لاتساع رقعة الدمار وزيادة الطلب على السكن، فعنوان «إعادة الإعمار» عنوان عريض وكبير ومستقطب ومربح بلا شك، ويعتبر فرصة لا تُفوت بالنسبة لهذه الطغم «الاستثمارية»، حيث بدأت تؤسس الشركات العملاقة، كما بدأت عمليات الترويج للفرص الاستثمارية في هذا القِطّاع رسمياً، مع عدم تغييب الكثير من المؤتمرات واللقاءات ذات الطابع الدولي بهذا الشأن.

مشاريع النخبة وحصص الفقراء

لا شك أن «إعادة الإعمار» بحاجة للشركات العملاقة وللتمويل الكبير، فهذه العملية لا تقتصر على إنشاء الضواحي السكنية فقط، بل هي أوسع وأكبر بكثير، لكن ذلك لا يعني أن يتم إضعاف الدور الأهلي على مستوى خطط السكن وضروراته، على محدودية وحجم هذا الدور، وصولاً إلى وأده ربما، خاصة في ظل استمرار عدم تخصيص الجمعيات بالأراضي اللازمة، أو بمنحها التسهيلات التمويلية الكافية، وفي ظل استمرار أوجه معاناتها الأخرى، فهذا القِطّاع له دوره أيضاً، والذي تزايد بشكل كبير في هذه المرحلة ومفرزاتها، وخاصة فيما يتعلق بما يسمى «السكن الاجتماعي» بمواصفاته وتكاليفه، والتي لا تقارن بمواصفات وتكاليف السكن بالمشاريع النخبوية للأثرياء، فاللافت بما يطرح من مشاريع ومن مخططات سكنية بأنها مخصصة للنخب من أصحاب المال، ولا تعنى بالمشاريع المخصصة لعموم المواطنين من المفقرين.
وعلى هذا الجانب، تجدر الإشارة إلى أنه تم تأسيس العديد من الشركات، تحت مسمى «شركات التطوير العقاري»، مع الكثير من التسهيلات المقدمة لها، علماً أن هذه الشركات لم تقلع بعملها حتى الآن كما هو مفترض، على الرغم من اتساع رقعة الدمار، وعلى الرغم من زيادة الحاجة للسكن، وعلى الرغم من كل التسهيلات المقدمة رسمياً.
بين الحلم والضرورة الوطنية
أي إنه وفي ظل استمرار إضعاف الدور الأهلي على مستوى حل جزءٍ من مشكلة السكن وضروراتها، ومحدودية الدور الحكومي، بل وتراجعه عاماً بعد آخر، وفي ظل تغول حيتان المال على الفرص الاستثمارية في هذا القِطّاع، فإن السكن سيبقى حلماً بعيد المنال، وستبقى أزمة السكن تكبر وتستفحل، وسيبقى المفقرون ومحدودو الدخل منتشرين في العشوائيات ومناطق المخالفات، التي ستزداد وتتوسع بدل أن تنخفض وتنكمش.
أما الحل المفترض بهذا الشأن فيتمثل باستعادة دور الدولة بما يخص قطاع السكن والإسكان وخططه وبرامجه، الآنية والمستقبلية، بل وزيادة وزنها وقوتها بهذا القِطّاع وغيره، فمرحلة إعادة الإعمار تتطلب وجود جهاز دولة قوي وفاعل، مع زيادة الاهتمام بالدور الأهلي بهذا القِطّاع، عبر منح الجمعيات السكنية التسهيلات اللازمة للقيام بمهامها الاجتماعية كما هو مرسوم ومحدد بقوة القانون، وخاصة بما يتعلق بتخصيص الأراضي والتمويل، مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على الهياكل التنظيمية لهذه الجمعيات وصولاً لاتحادها العام، مع عدم تغييب الدور الرقابي الرسمي بهذا الشأن طبعاً، منعاً من ظهور أي خلل واستفحاله.
أي بالمختصر المفيد تعديل جملة سياسات السكن والإسكان المعمول بها منذ عقود وحتى الآن، بل والقطع مع جملة السياسات الليبرالية المعمول بها، بما يتناسب مع ضرورات المرحلة والضرورات الوطنية، ولا شك لدينا بأن الضرورات الوطنية ستفرض نفسها بالنتيجة رغماً عن المستفيدين من استمرار هذه السياسات، والممانعين من تغييرها والقطع معها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
937
آخر تعديل على الإثنين, 28 تشرين1/أكتوير 2019 13:59