بذريعة «الإصلاح» تمرر الموبقات
»إصلاح القطاع العام الاقتصادي» عبارة مكررة منذ عقود، ويُعاد تكرارها أيضاً وأيضاً، وتُعقد من أجلها الاجتماعات، وتُشكل اللجان، وتُعد الدراسات، وتُقدم المقترحات، وتُصاغ مشاريع القرارات، بحيث يتم تسويقها وكأنها توجه حقيقي تعمل من أجله الحكومات المتعاقبة، بينما واقع الحال يقول بأن هذا القطاع يسجل كل يوم تراجعاً جديداً، وما زالت جملة صعوباته قائمة ومستمرة، والنتيجة، أن هذه العبارة بحد ذاتها أصابها الاهتلاك والاستهلاك كحاله تماماً.
العبارة بجوهرها لم تظهر إلا كضرورة فرضها واقع هذا القطاع الذي يئن من معاناته وصعوباته المتراكمة منذ عقود، فمفردات «مستنزف- متراجع- مترهل- منهوب- مستلب..» لم تعد كافية لتعبر عن واقعه، وبرغم كل ذلك ما زال هذا القطاع مع غيره من القطاعات العامة الأخرى من الحوامل الحقيقية للاقتصاد الوطني والحامية له، كما أنها تشكل مظلة الأمان بالنسبة لغالبية الشرائح الاجتماعية المفقرة والمهمشة، ولعل دوره خلال سني الحرب والأزمة أعاد تأكيد ذلك.
فعبارة «إصلاح القطاع العام الاقتصادي» لم تخرج عن حيّز الاستهلاك الكلامي خلال العقود الماضية، برغم كثرة تكرارها وكثرة لجانها واجتماعاتها وتوصياتها، هذا إن لم نقل أن بعض غايات هذا التكرار كانت تحمل بمضمونها مساعي التخلص منه وزيادة صعوباته ومشاكله، وصولاً إلى تصفِته عبر إعلان موته السريري، والبعض سابقاً لم يخفِ هذه النية وهذه الغاية كي يستحوذ القطاع الخاص على كامل المقدرات الوطنية، ويفرض سيطرته على إدارتها، تكريساً للسياسات الليبرالية المعتمدة والمعمول بها.
جديد جديد جديد
الجديد بهذا الصدد هو صدور قرار حكومي بتاريخ 23/9/2019 يقضي بتشكيل لجنة تحت مسمى «اللجنة العليا لإصلاح القطاع العام الاقتصادي»، برئاسة رئيس الحكومة وعضوية ثلاثة وزراء (المالية- الاقتصاد- التنمية الادارية) بالإضافة إلى (الأمين العام لرئاسة مجلس الوزراء- رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي- رئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية- رئيس مجلس الدولة- رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال- ثلاثة خبراء من ذوي الاختصاص في مجالات عمل اللجنة)، ويضاف الوزير المختص إلى عضوية اللجنة، عند مناقشة المواضيع التي تخصّ وزارته، كما يحق لرئيس اللجنة دعوة من يراه مناسباً إلى حضور جلساتها.
وعن غاية اللجنة فقد ورد في متنِ القرار: «تحديد الاستثمارات اللازمة لتطوير القطاع العام الاقتصادي»- «تحسين إنتاجية المؤسسات والشركات العامة والشركات الحكومية وتنافسيتها»- «تحديث أساليب إدارة المؤسسات والشركات العامة والشركات الحكومية، لتتمكن من تطوير منتجاتها وخدماتها وقدراتها التسويقية»- «العمل على توفير التدريب الفني والإداري اللازم لتطوير القطاع العام الاقتصادي».
إصلاح بمضمون التصفية والخصخصة!
مضمون عمل هذه اللجنة يتمحور حول «إعادة الهيكلة» وفقاً لشكل تنفيذي قائم على بعض النقاط بحسب القرار، منها: «الإشراف على تصنيف المؤسسات والشركات العامة، وإقرار التدخلات والإجراءات اللازمة لتحديث وإعادة هيكلة تلك المؤسسات والشركات، تنظيمياً ومالياً، وتقييم أصولها، ورسملتها»- «دراسة مقترحات إحداث ودمج وحل وتصفية المؤسسات والشركات العامة والشركات الحكومية والشركات المشتركة، واتخاذ القرار المناسب بهذا الشأن»- «دراسة مقترحات الشراكات الإستراتيجية اللازمة لتطوير عمل المؤسسات والشركات العامة والشركات الحكومية والمشتركة، في المجالات الإدارية والتكنولوجية والفنية، وفي مجال التسويق، واتخاذ القرار المناسب بهذا الشأن»- «الموافقة على استثمار أصول المؤسسات والشركات العامة والشركات الحكومية، بناءً على دراسات تُقدّم بهذا الخصوص»- «دراسة نماذج الأنظمة الأساسية والأنظمة الداخلية والأنظمة المالية وأنظمة العمل والعاملين وأنظمة الاستثمار وغيرها للشركات الحكومية»- «دراسة الآثار الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن إعادة هيكلة القطاع العام الاقتصادي، وبخاصة ما يتعلّق بالعمالة»- «الموافقة على التعاقد مع بيوت الخبرة لتقديم الاستشارات الاقتصادية والمالية والقانونية والإدارية، وفق الأنظمة النافذة»- «تحدّد اللجنة قائمة المؤسسات والشركات العامة في القطاع العام الاقتصادي التي تخضع لهذا القرار، وفق خطط زمنية توضع لهذا الغرض».
النقاط التنفيذية الواردة أعلاه تحمل بعمقها الكثير من مضامين التوجه الليبرالي الذي تتبناه الحكومة عبر سياساتها، ولعل ذلك يبدو جلياً من خلال بعض العبارات في المتن، مثل: تقييم الأصول- إحداث ودمج وحل وتصفية- الشراكات الإستراتيجية- استثمار أصول المؤسسات والشركات العامة والشركات الحكومية- الآثار الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن إعادة الهيكلة- التعاقد مع بيوت الخبرة لتقديم الاستشارات.. والتي تتناقض وفقاً لهذا المضمون مع الغايات المدرجة في متن القرار كما ورد أعلاه.
تتويج «المطمطة» بنقلة نوعية
ُشار بهذا الصدد أنه في مطلع عام 2017 تم تشكيل لجنة يرأسها وزير الأشغال العامة والإسكان، وضمّت في عضويتها وزراء (الاقتصاد والمالية والصناعة والتنمية الإدارية) بالإضافة إلى الأمين العام في رئاسة مجلس الوزراء، ورئيس هيئة تخطيط الدولة، وممثلاً عن المجلس الاستشاري في رئاسة مجلس الوزراء، وممثلاً عن الاتحاد العام لنقابات العمال، بمهمة دراسة واقع القطاع العام الاقتصادي بغاية إصلاحه وتطويره.
وقد عقدت هذه اللجنة مجموعة من الاجتماعات، خلصت حينه (نهاية عام 2017) إلى مجموعة من المقترحات والتوصيات، التي تتسم بالعمومية، تم تسميتها فيما بعد «الوثيقة التنفيذية لإصلاح مؤسسات القطاع العام الاقتصادي»، والتي تم إقرارها من قبل «لجنة السياسات والبرامج الاقتصادية في رئاسة مجلس الوزراء» نهاية شهر آذار 2019.
وفي الجلسة الحكومية بتاريخ 25/8/2019 «قرر المجلس تشكيل لجنة عليا برئاسة رئيس مجلس الوزراء لمتابعة تنفيذ التوصيات التي خلصت إليها مجموعة العمل المكلفة بإصلاح مؤسسات القطاع العام الاقتصادي وتشمل مهام اللجنة العليا تخطيط وتنفيذ إصلاح وتطوير وإعادة هيكلة القطاع المذكور بالتنسيق مع جميع الجهات المعنية».
وقد توج ذلك بصدور قرار تشكيل اللجنة كما سلف، مع منحها الصلاحيات التنفيذية.
أي إن كل ما سبق من حديث عن «إصلاح القطاع العام الاقتصادي» خلال العقود الماضية وحتى الآن، وكل ما مورس بحقه من سياسات مجحفة ولاجمة منعته من التطور الحقيقي ومن إصلاحه عملياً، وبذريعة مفردة «الإصلاح» التي جرى استهلاكها مراراً وتكراراً، سيجري البدء بتصفية بعض المؤسسات والشركات، وعلى مراحل على ما يبدو وصولاً إلى ما يشبه التصفية النهائية، وكل منها بذريعة وبنموذج وشكل وتسمية مختلفة (بالاعتماد على الدراسات المقدمة لهذه الغاية)، وفقاً للآلية التنفيذية التي تم إقرارها رسمياً مع صلاحياتها المفتوحة، وهي النقلة النوعية التي من الممكن أن يتم تسجيلها بهذا الصدد.
فإذا كان كل ما سبق من حديث، معلن ومبطن، عن التصفية والخصخصة لمؤسسات وشركات القطاع العام الاقتصادي لم يتجاوز عتبة التوجه بالكلام والنوايا، فإن النقلة النوعية المسجلة هنا أن هذا التوجه أوجد شكله التنفيذي من أجل تطبيقه عملياً.
المشكلة بالسياسات أولاً وآخراً
لا شك أن صعوبات ومعيقات القطاع العام (الاداري والاقتصادي) كثيرة ومتشعبة وعميقة وقديمة، وهو لا شك بحاجة إلى الكثير من الإصلاح وعلى كافة المستويات من أجل استمراره بمهامه الكبيرة (اقتصادياً واجتماعياً ووطنياً)، والتي لا يمكن بحال أن يتم تجاوزها وتغييبها والتقليل من أهميتها وضرورتها، وخاصة بالظرف الحالي ونحن على عتبات إعادة الإعمار التي تحتاج إلى جهاز دولة قوي، لا يمكن أن يكتسب قوته إلا من خلال قوة قطاعاته ومؤسساته بمختلف تسمياتها وأدوارها واختصاصاتها.
كما لا شك أن جملة ما يعانيه هذا القطاع سببه الرئيس هو السياسات الحكومية تجاهه، والسياسات الليبرالية المعتمدة عموماً، ولعل مثال السياسات الأجرية يعتبر أحدها وأهمها وأوضحها، فكل حديث عن الإصلاح يغفل هذه الحقيقة لا يعدو كونه فضفاضاً وغير مثمر، إن لم نقل أنه يزيد من الصعوبات ويكرَّس المعيقات.
فالمشكلة الأساسية التي تعاني منها مؤسسات وشركات القطاع العام (الإداري والاقتصادي) كانت وما زالت تتمثل بالسياسات الليبرالية المعتمدة والمعمول بها، والتي حصدنا وما زلنا نحصد نتائجها السلبية على كافة المستويات.
الملفت، أن كل الحكومات المتعاقبة، سابقاً وحالياً، وعلى الرغم من تبنيها للسياسات الليبرالية، وعلى الرغم من وجود الطروحات (العلنية والمبطنة) التي كانت تتحدث عن التصفية وإعلان الموت السريري للقطاع العام عموماً، إلا أنها لم تصل سابقاً لاتخاذ أية خطوة رسمية تنفيذية بهذا الاتجاه، على الرغم من أنها ساهمت بإضعافه وتراجعه، وهي تتحمل مع سياساتها نتائج ما وصل إليه هذا القطاع خلال العقود الماضية وحتى الآن.
فهل تفعلها حكومة خميس، بهذا الوقت وبهذه الظروف، وتتحمل نتائجه وتبعاته السلبية، الاقتصادية والاجتماعية والوطنية؟.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 934