الجدل المؤجل.. يعود: الاتصالات بعد 2014 لمن؟!
يعود اليوم إلى الأروقة الحكومية الجدل القديم الجديد حول شركتي الخليوي المشغلتين للهواتف النقالة بالشراكة مع الشركة السورية للاتصالات، الجدل الذي كان يدور حول ترخيص الشركتين بعد إنهاء عقد B.O.T ، والانتقال إلى عقود الترخيص (LICENSE) وذلك بعد أن نص قانون الاتصالات رقم /18/ والصادر في عام 2010 على إعادة هيكلة قطاع الاتصالات، وضم من بين ما ضم ضرورة ترخيص شركات الهاتف النقالة العاملة بالشراكة مع الدولة في إدارة قطاع الاتصالات الخليوية في سورية..
ولتوضيح أهمية الجدل وأطرافه لا بد من توضيح الفروقات بين نوعي العقدين وعلى ماذا يدور الجدل..
أبعد من مجرد عقدين مختلفين..
عقد B.O.T (بناء.تشغيل. تحويل) وسنشرح هذا النوع من العقود انطلاقا من الحالة المباشرة للعقد بين شركة سيرتيل والحكومة السورية، حيث ينص العقد الذي أبرم في 18 تشرين من عام 2001 على أن تقوم الشركة المشغلة إنشاء مشاريع الخدمات الخلوية وتسويق واستيراد كافة مستلزمات المشروع، لتلتزم بتوريد وتركيب التجهيزات اللازمة لبناء شبكة الاتصالات الخلوية وإدارتها.. وذلك لمدة 15 عاما من بداية العقد الموقع في 18 تشرين و2001، ليتم تحويل العقد بعدها من المشغل الخاص إلى المؤسسة العامة للاتصالات، لتحصل الدولة خلال المدة السابقة على نسب 30% من إجمالي الإيرادات في السنوات الثلاث الأولى، 40% للسنوات الثلاث التالية، 50% للسنوات البقية حتى نهاية العقد، و يحق للإدارة تمديد مدة العقد لمدة ثلاث سنوات أخرى بعد تقدیم طلب من المشغل قبل سنة من انتهاء مدة العقد، وتحصل المؤسسة على 60% خلال فترة التمديد، والأمر ذاته للشركة الأخرى MTN.
إلا أن القانون الجديد نص على ضرورة ترخيص الشركتين بعد عام 2010 مع فترات تمديد متتالية كل عام لتنتهي مدة التمديد في عام 2013، وضرورة البت بشكل العقد الذي سترخص الشركات وفقه في عام 2014..
الشكل البديل لعقود الـ B.O.T المذكورة، هو عقود التراخيص (LICENSES) والتي تعني تحويل الشركات إلى شركات خاصة بالكامل أسعارها محررة وفقاً للسوق، تلتزم تجاه الحكومة بنسبة ثابتة من الإيرادات السنوية 25%، بالإضافة إلى مبلغ أولي يدفع للترخيص يبلغ مليار دولار لكل من الشركتين -وذلك وفق ما تداول إعلامياً خلال الأعوام الماضية- وتلغى حصة الدولة المتصاعدة، وملكيتها للتجهيزات.
ذرائع أصحاب التوجه لعقود التراخيص
الشركات المشغلة تنتظر بفارغ الصبر التحول نحو عقود خدمة أو تراخيص نظراً لأن الاحتمالات المفتوحة أسوأ بالنسبة للمشغلين سواء التمديد لعقود الـ B.O.T مع وصول حصة الشركة العامة للاتصالات إلى نسبة 60%، أو انتقال الملكية بالكامل إلى الشركة العامة وانتهاء امتياز الشركات..
أما ذرائعها في التسويق للانتقال إلى عقود التراخيص فكثيرة تتراوح بين التوافق مع سياسات إعادة هيكلة القطاع والانتقال نحو تحريره وتصل إلى “الغيرة” على أسعار الخدمات التي ترفعها حصة المؤسسة.
ومن تصاريح سيرتيل نذكر «الذرائع» التالية حيث تربط الشركات حصولها على الترخيص والتخلص من “حصة الحكومة” بدخول المشغل الثالث، وبتوسع المنافسة وتخفيض الأسعار:
«نحن في سيريتل نرى أنه من مصلحة البلد والمواطن تحويل عقود الـ(B.O.T) إلى تراخيص، حيث أن فرصة خلق منافسة في الوقت الحالي شبه معدومة ما دام هناك مشغلان اثنان فقط وشريك لهما ممثل بالمؤسسة العامة للاتصالات التي تعتبر الناظم لعمل مشغلي الخلوي في البلد، وهذا لا يعزز الظروف الضرورية لخلق المنافسة وتخفيض الأسعار» من تصريحات منشورة في جريدة “الوطن” 2010.
من الطبيعي أن تميل الشركات إلى الحصول على عقود التراخيص بما يتفق مع مصلحة احتفاظها بالتجهيزات، والتخلص من نسبة الدولة التي وصلت إلى 50%من الإيرادات، أما المدافعون عن التوجه نحو التراخيص في الحكومة فهم المتمسكون بقوة بالليبرالية الاقتصادية بذريعة ضرورات المنافسة في قطاع الاتصالات، وتحريره من حصة الدولة والسير نحو تحرير سوق الاتصالات في سورية..
يتكتم هؤلاء اليوم على عودة بحث قضية العقود عسى أن تمر بلا جلبة، فالجدل يدور حول ملكية قطاع الاتصالات في زمن الحرب، للدولة أم للقطاع الخاص، أم تستمر هذه الشراكة بينهما ، ولذلك فإن التكتم الإعلامي هو سيد الموقف، وهو ما يتلاءم مع الشفافية المرافقة لكل ما يتعلق بقطاع يحقق نسبة تقترب من 5 % من الناتج الإجمالي، وأرباح بالمليارات للمشغلين الخاصين، وربما لمن يدعم مصالحهم..
عيوب عقد B.O.T تترسخ في عقود التراخيص
شكل التعاقد الحالي مع الشركتين المشغلتين تشوبه الكثير من العيوب، ولكن التحول نحو عقود التراخيص هو هروب نحو الأمام، حيث أنه في جوهر الانتقال إلى الترخيص إلغاء حصة الدولة من الإيرادات وبالتالي قدرتها على التحكم «إن أرادت» بأسعار الخدمات ونوعيتها، ونقل الملكية كاملة إلى الشركة الخاصة المشغلة، وهو ما سيعزز مشاكل التشغيل السابق الكثيرة وسيرسخ عيوب القطاع الذي ينال مراتب مهمة في مستوى التمركز والاحتكار، وارتفاع أسعار الخدمات، ونذكر منها:
أسعار مرتفعة- احتكار- تمركز
بحسب تقرير لمجموعة المرشدين العرب بعنوان «مستوى الخصخصة في أسواق الاتصالات الخليوية العربية» خلال شهر تشرين الثاني من عام 2012،تأتي سورية بين الدول العربية الثلاث الأولى مع كل من فلسطين والكويت، باعتبارها من أعلى الدول التي يستحوذ فيها القطاع الخاص على إيرادات الاتصالات «الخليوية» أي أعلى مستوى خصخصة للخليوي. وتتبوأ شركات الاتصالات السورية المراكز الأخيرة من حيث التنافسية (17 من أصل 19) ومراكز متقدمة من حيث ارتفاع الأسعار (المرتبة الثالثة في سعر الرسائل النصية ومسبق الدفع) وتنخفض تكلفة الدقيقة بين السعودية وسورية بنسبة 300%، يضاف إلى ذلك المعلومات المحلية التي تشير إلى أن أعضاء مجلس الإدارة في الشركتين البالغين حوالي 10 أعضاء، حصتهم 91% من الموجودات على الرغم من أن عدد المساهمين يبلغ 6600 مساهم لسيرتيل.
حصة الدولة غير كاملة
فالنمو التدريجي لشركات الخليوي لم يترافق مع «دقة» في النمو التدريجي لحصة الدولة كما ينص العقد، فنسبة الشركة العامة للاتصالات التي من المفترض أن تبلغ 50 % وفقاً للعقد بعد عام 2007 لم تصل إلى هذا الحد حتى اليوم. بناء على دراستنا لأرقام إيرادات الشركتين وحصة الدولة منها خلال سبع سنوات (2005-2011) والمأخوذة من أرقام الإفصاح المالي للشركتين (سيرتيل- MTN) المنشورة في الموقع الالكتروني الرسمي”سوق دمشق للأوراق المالية” تبين أن: حصة مؤسسة الاتصالات من إيرادات شركة “سيرياتل» في عام 2009 لم تتجاوز نسبتها 46.9%، كما أن حصة المؤسسة من إيرادات شركتي الخليوي كانت بحدود 47% في عام 2010، ونحو 47.5% في عام 2011 وهذا الفارق في النسبة ليس بالقليل، لأن متوسط إيرادات الشركتين بحسب الأرقام المعلنة في السنوات المدروسة يصل إلى 77.5 مليار ليرة، أي أن كل 1% فرق في النسبة سيعني بالمحصلة النهائية نحو 775 مليون ليرة سنوياً، فكيف الحال إذا ما كان الفارق في النسبة بحدود 3 – 5%؟! (قاسيون العدد 588)
تساؤل؟!
إذاً فإنه وفي ظل التعاقد الحالي وفق صيغة B.O.T الذي ينص على حصة للحكومة يفترض أن تصل إلى حدود 50% من الايرادات، فإن حصة الشركات الحالية تجعلها في مقدمة أرباح القطاع الخاص من ايرادات الاتصالات عربياً، فإلى أين ستتجه الايرادات مع زوال حصة الدولة، والإبقاء على تراخيص الشركتين لتعملا في السوق بلا مشغل ثالث، وما الذي يضمن عدم التوافق على سعر احتكاري مع وجود المشغل الثالث، الذي لن يتوفر في الظروف الحالية..
وبعد إصدار قانون الاتصالات رقم /18/ بتاريخ 2010 الذي أكد على ضرورة ترخيص الشركات المشغلة، في سياق إعادة هيكلة قطاع الاتصالات أصبح من الضروري البت بعقود الشركات لتنفتح الاحتمالات التالية التي يتم تداولها اليوم بعد أن تم تمديد مهلة الترخيص التي يتيحها قانون الاتصالات والتي لا تحدد شكل العقد المرخص وفقه لتنفتح الاحتمالات التالية في عام 2014:
تمديد عقد B.O.T حتى تاريخ 2016 أي نهاية العقد والذي يحقق في الفترة المتبقية مبلغ 200 مليار ل.س اعتباراً من عام 2013.
البت في موضوع الترخيص باتجاه عقد التراخيص أي ملكية كاملة للشركة وهو يحقق عائد 300 مليار وتسير نحو الانخفاض.
بت موضوع الترخيص باتجاه أن تقوم المؤسسة العامة للاتصالات (الشركة لاحقاً) باستلام التجهيزات والذي يحقق عوائد تبلغ 400 مليار وتتجه نحو الارتفاع.
*هناك احتمال رابع هو أن تقوم الشركة بالدخول كمشغل ثالث منافس، في حال القيام بعملية الترخيص، وهو ما يتطلب تجهيزات تقدر بـ 100 مليون دولار (20 مليار ل.س) لشبكة تغطي 10 مليون مشترك، أي حوالي 80% من عمل الشركتين بالتالي قد تحقق ايرادات متقاربة مع إيراداتها.
أي خيار .. في الأزمة؟
المفاضلة بين الخيارات توضح أولوية الخيار الثالث والرابع وذلك إذا انطلقنا من ضرورة المحافظة على عائدات الدولة وعدم تراجع ايرادات المؤسسة العامة للاتصالات.
إلا أن الإشكال في اتخاذ القرار هو تغير في ترتيب الأولويات بين الجهات صاحبة القرار، فمن يتمسك بضرورة تحرير قطاع الاتصالات ينحي جانباً الاحتمالين الثالث والرابع ليقنع بما توفره حصة محددة وأرباح سنوية ومبلغ محدد للترخيص، أي تراجع تدريجي لايرادات الدولة المباشرة وحصتها من قطاع الاتصالات.
معايير المفاضلة
• معيار الموارد الحكومية: إن اتخاذ قرار بما يخص حصة الدولة في قطاع الاتصالات في سورية الأزمة، يجب أن ينطلق من أولويات الأزمة الاقتصادية العميقة التي نعيشها اليوم، والتي تتنطح الحكومة لتقول بوضوح بأن أولى مشكلاتها هي قضية تأمين الموارد، وبناء عليه فإن الكفة ترجح للموارد الكبرى التي يحققها الاحتمالان الثالث والرابع.
• معيار نوعية الخدمة ومستوى الكلفة: السير بخدمات قطاع الاتصالات نحو الأفضل تقتضي تجاوز عيوب الخدمات الحالية المتمثلة بارتفاع أسعار الخدمات حيث بمقارنة أسعار الخدمات في سورية فإن تكلفة الاتصالات تقدر بـ ....% زيادة عن السورية، بالإضافة إلى قلة العروض المجانية، وعموماً فإن تكلفة الاتصالات الخليوية تشكل نسبة 10 % من متوسط دخل السوريين (جهازين في الأسرة بمصروف 1000ل.س شهرياً)، وهي نسبة مرتفعة يفترض الانطلاق من تخفيضها، وهذا يجب أن يكون على حساب الأرباح المرتفعة في هذا القطاع، وهو ما لا تستطيع أن تقدمه عملية خصخصة القطاع بالكامل كما هو مطروح في الاحتمال الثاني.
• معيار عدالة التوزيع: حققت الشركتان المشغلتان خلال مدة الامتياز الذي حصلت عليه وبناء على أرقامها الرسمية ما يقارب 175 مليار ل.س ربحاً صافياً بين عامي 2005-2012، وهو مستوى عال من الأرباح لقلة من الأشخاص وذلك بناء على الأرقام المنشورة في القوائم المالية الرسمية لهذه الشركات، حيث يعتبر قطاع الاتصالات في سورية من أكثر القطاعات تمركزاً حيث تبلغ حصة أعضاء مجالس الإدارة نسبة 91% من الملكية وذلك بحسب تقرير البورصة السورية لعام 2012.
لذلك فإن قطاعاً يدفع المشتركون فيه بمتوسط تكلفة 2000 ل.س شهرياً،مبالغ تصل إلى 288 مليار ل.س سنوياً، من غير المنطقي أن تبقى أرباحه المرتفعة تعود لمجموعة لا تتعدى بأحسن الأحوال 10 أشخاص، وآن الأوان لينتهي هذا الامتياز وتعود الإيرادات بكاملها للخزينة العامة وفقاً لشروط العقد الأولي فمدة 12 عام من الربح الاحتكاري كافية لهؤلاء.
السير نحو عقود التراخيص وخصخصة القطاع بالكامل عملياً هو إطلاق لهذا المستوى من الأرباح لا بل مضاعفتها، وهو قرار يتسم بمفارقة كبيرة وتحديداً في ظروف تئن الدولة السورية فيها من قلة الموارد من جهة، وتزداد تكاليف المعيشة على السوريين بشكل كبير.
25/08/2013