الاستثمار الريعي العابث بالتاريخ
نوار الدمشقي نوار الدمشقي

الاستثمار الريعي العابث بالتاريخ

توضعت بضائع إحدى الشركات مع مظلات تحمل اسمها وشعارها، وبدأت حملة الترويج والتسويق لمنتجها الغذائي عبر أسلوب المسابقات وتقديم الهدايا للفائزين، وذلك على جدار قلعة دمشق الخارجي بجانب مدخل سوق الحميدية، وتحديداً في فسحة الرصيف التي يتوضع فيها تمثال صلاح الدين الأيوبي، بل وبداخل ما يفترض أنه سور الحماية الحديدي للتمثال.

جمهرة من الناس تجمعت في المكان وبمحيط التمثال، نساءً ورجالاً وأطفالاً وشيوخاً، مع الكثير من الصراخ والهرج والمرج المصاحب لصوت مقدم المسابقة عبر مكبرات الصوت التي صدحت بالمكان، وقد كان ذلك بتاريخ 10/5/2019، بحدود الساعة الخامسة مساءً، قبل موعد آذان المغرب، وربما من حسن الحظ أنه كان يوم جمعة، وإلا لكان الازدحام عظيماً، وتسبب بإغلاق الشوارع، كون البرنامج التسويقي الدعائي أصلاً قائماً على استقطاب هذه الجمهرة، التي تجمعت بالمكان عسى تحصل على الـ «هدية» المجانية الموعودة.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحفل الترويجي جرى نقله عبر مقاطع فيديو مصورة بشكل مباشر من خلال صفحة الشركة على «فيسبوك»، كترويج وتسويق دعائي إضافي لمنتجاتها الغذائية، باستخدام هذه التقنيات الحديثة.

كفوا أذاكم

المشهد العام للمكان، بكونه مدخل سوق شعبي قديم، مع جدار القلعة الأثرية، وتموضع التمثال بما يحمله من دلالات تاريخية، أصبح هو الخلفية المشهدية لحملة التسويق، ودخل حيز الاستثمار الترويجي عبر الأسلوب الدعائي الذي كان شبيهاً بأسلوب «شقيعة» سوق الحميدية خاصة مع الأصوات المرتفعة والهرج والمرج الجاري، ولعل هذا هو المشترك الوحيد غير المتناقض مع المكان.
أما التناقض بالمشهدية العامة فقد تمثل بالأذية والتلوث البصري والسمعي من خلال رؤية التمثال الضخم المنحوت بأدق التفاصيل الصامتة، التي تحمل الرسالة التاريخية والجمالية المفترضة، مع خلفية الجدار الحجري لقلعة دمشق الأثرية، وقد تموضعت حوله وطغت عليه العديد من المظلات الدعائية الحديثة ومكبرات الصوت والتجهيزات الفنية، بالإضافة طبعاً إلى منتجات الشركة، مع وجود الحشود البشرية والأصوات المرتفعة التي كسرت صمت المكان وشوهته، حتى لتكاد تتخيل أن التمثال بشخوصه المنحوتة ستخرج عن صمتها لتصرخ بالمحتشدين: كفوا أذاكم عنا!.
بالمقابل، لا بدَّ من الإشارة إلى أن التمثال أصلاً تعرض للكثير من الضرر خلال السنوات الماضية من خلال عبث الأطفال والشباب الطائش به، حتى أن بعض أجزائه تحطمت، مع وجود بعض الكتابات «كذكريات» حفرها الطائشون عليه، بالرغم من كونه موضوعاً ضمن سور حديدي لمنع الاقتراب منه، لكن دون جدوى مع الأسف، فمشهد الأطفال داخل هذا السور بات عادياً، بما في ذلك وهم يمارسون طيشهم المؤذي عليه.
كذلك تجدر الإشارة إلى قذارة المكان، حيث، وبعد انتهاء الحفل وبعد أن انفض المحتشدون، كانت هناك الكثير من البقايا المتروكة كقمامة، ما زاد من سوء المشهدية العامة المؤذية.

حقوق وواجبات وضوابط

من حق الشركات أن تقوم بالترويج لمنتجاتها بلا شك، ومن حقها أن تستخدم من أجل ذلك كل ما هو متاح لديها من إمكانات، بما في ذلك حملات التسويق عبر أسلوب المسابقات الجماهيرية وتوزيع منتجاتها كهدايا للفائزين. بالمقابل فإن ذلك ربما تحدده، جملة من التعليمات والقوانين افتراضاً، ولم لا؟ طالما تحقق الدعاية الغاية المرجوة منها بما يتوافق مع هذه المعايير والضوابط القانونية.
فقد حدد المرسوم 20 لعام 2011 الخاص بالمؤسسة العربية للإعلان بعض هذه الضوابط، حيث نصت المادة 3 منه حول أهداف المؤسسة: «تنظيم صناعة الإعلان وضمان حرية المنافسة في هذا النشاط- وضع الضوابط والمعايير الناظمة للنشاط الإعلاني بما يساهم في رفع مستوى وجودة الأداء الإعلاني بالتنسيق والمشاركة مع الشركات والجهات العاملة بهذا النشاط- ممارسة الرقابة على المنتج الإعلاني في الوسائل الإعلامية والإعلانية كافة- منح التراخيص والإجازات اللازمة لمزاولة العمل الإعلاني للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين الراغبين بالاستثمار بهذا النشاط».
كما نصت المادة 5 على ما يلي: «تقوم المؤسسة بتنظيم السحوبات الإعلانية والترويجية والإشراف عليها بالتنسيق مع الجهات الأخرى، والتصرف بالهدايا غير الموزعة لدى المؤسسة وفقاً لأسس يُقرها مجلس الإدارة بموافقة الوزير».
والمادة 8 نصت بالتالي: «تخضع الإعلانات بأنواعها كافة للرقابة اللاحقة عدا الإعلانات التلفزيونية والطرقية، التي تخضع للرقابة السابقة وموافقة الجهة المختصة، ولا تعفى من المسؤولية القانونية المترتبة على الإعلان المخالف، وتعامل المادة الإعلانية معاملة المادة الإعلامية ويطبق عليها أحكام قانون المطبوعات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم /50/ لعام 2001».

رسالة للمعنيين

الأسئلة التي تتبادر للأذهان بناء على ما سبق:
إذا كان الحفل الترويجي والتسويقي أعلاه، بالمكان والزمان والأدوات، تحت اشراف المؤسسة العربية للإعلان، بحسب ما ينص عليه القانون، فإن ذلك يعني أنها هي من تتحمل وزره ونتائجه؟!
وإذا لم يكن تحت إشرافها، فإن ذلك يعني أن هناك من سهل للشركة صاحبة الدعاية عملها، خاصة وأن المكان فيه الكثير من الجهات الرسمية والأمنية؟!
وبمطلق الأحوال، وبعيداً عما يمكن أن تصل إليه الحال مع أساليب تقاذف المسؤوليات المعتاد، سنعتبرها فرصة لتوجيه رسالة ونداء للجهات الرسمية المعنية والمسؤولة عن الآثار والتراث والتماثيل والمنحوتات وغيرها، مما تذخر به بلدنا من تاريخ وشواهد حية، من أجل القيام بمسؤولياتها بالمحافظة عليها وحسن استثمارها وتسويقها والترويج لها بما يخدم تقديمها كقيمة وأثر جمالي وتاريخي، فهذه الشواهد التاريخية والفنية هي إرث من الواجب الحفاظ عليها بعيداً عن أيدي العابثين والمستغلين.
فهل هذا كثير؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
914
آخر تعديل على الإثنين, 20 أيار 2019 15:21