«عيش وكيّف يا ختيار»
مما لا شك فيه أن المظلة التأمينية التي تقدمها مؤسسة التأمينات الاجتماعية بحاجة للتوسيع والتعميق، بالحد الأدنى بالشكل الذي يوفر ويؤمن غطاءً تأمينياً حقيقياً وعادلاً للمؤمن عليهم لديها من المواطنين، وخاصة أصحاب معاشات التقاعد والشيخوخة.
فإذا كان أصحاب الأجور بشكل، عام وهم على رأس عملهم، يعانون من مستويات الأجور المتدنية التي لا تغطي مصاريف أيام محدودة من الشهر، حيث وصل الحال بهم لمستويات معيشية أدنى من حدود ومعدلات الفقر والعوز، فكيف الحال بأصحاب معاشات التقاعد والشيخوخة؟.
20 ألف ليرة فقط
خبر صغير ومقتضب مرَّ مرور الكرام نهاية الشهر الماضي حول المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، في معرض الحديث عن دورها والوفاء بالتزاماتها وما تحظى به من اهتمام حكومي، وغيرها من التفصيلات الأخرى، وذلك حسب بعض وسائل الإعلام، يقول: «وصلت قيمة الالتزامات التي تسددها المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية شهرياً، لأكثر من نصف مليون صاحب معاش ومستحق، إلى نحو 10 مليارات ليرة سورية، وتمكنت بذلك من الوفاء بكامل التزاماتها تجاه المواطنين المؤمن عليهم والمتقاعدين والمستحقين في جميع المناطق».
ربما بداية لا بدَّ من القول: إن الوفاء بالالتزامات الكاملة من قبل المؤسسة تجاه المواطنين المؤمن عليهم لا يمكن أن يُساق ضمن إطار التغنّي أو التبجح، فهذه تعتبر من أبسط المهام المناطة بالمؤسسة، باعتبارها حقوقاً مصانة لهؤلاء، والمؤسسة مؤتمنة عليها كما على حسن تأديتها وفقاً للقانون.
لكن ما يعنينا من أمر، أنّ الترجمة العملية للمعطى الرقمي أعلاه هي أنّ متوسط ما يتقاضاه أصحاب المعاش المؤمن عليهم والمتقاعدين بحدود 20 ألف ليرة شهرياً لكل منهم فقط لا غير.
فماذا يعني هذا المبلغ المتواضع بالنسبة لهؤلاء؟
أقل من فاتورة العلاج الشهري
من المعروف أن غالبية أصحاب المعاش والمتقاعدين هم من المسنين، الذين أفنوا عمرهم جهداً وكدحاً بعملهم، والحد الأدنى لسني خدمة هؤلاء المؤمن عليهم هي 25 سنة، وتصل بحدها الأعلى أحياناً إلى أكثر من 40 سنة للبعض.
وبمقارنة متوسط المعاش التقاعدي أعلاه مع متطلبات وضرورات هؤلاء المسنين، ربّما ليس من الصعب التكهن والاستنتاج أنه بالكاد يمكن أن يغطي فاتورة الطبابة والعلاج والاستشفاء لهم كأفراد فقط، دوناً عن بقية أفراد أسرهم، ودوناً عن كل كتلة الإنفاق على ضرورات المعيشة والحياة الأخرى.
فهذه الشريحة التي أفنت عمرها بالعمل خرجت منه للتقاعد أخيراً، وهي تحمل ما يتركه السن من آثار سلبية على الصحة بالشكل الطبيعي، فغالبية هؤلاء يعانون من أمراض الضغط والسكر والمفاصل وترقق العظام وضعف البصر، وغيرها من أمراض الشيخوخة الطبيعية، والبعض منهم يعاني بالإضافة إلى ذلك من آفات مرضية أكبر وأعمق، مثل: أمراض القلب والشرايين والقصور الكلوي وغيرها، بالإضافة إلى ما يمكن أن يكونوا قد حصدوه صحياً من أمراض مرتبطة بمهنة كل منهم وظروفها وطبيعتها، مثل: أمراض الصدر والرئتين والعمود الفقري وغيرها من الأمراض والآفات المهنية، وربما أخيراً، قلة يعانون من الأورام والسرطانات وأمراض المناعة المزمنة، مع عدم إغفال أمراض اللثة والأسنان والاضطرار للتعويضات السنية بهذا العمر.
ولا شك أن كل هذه الأمراض، أو بعضها بالحد الأدنى، فاتورة علاجها الشهري تعتبر كبيرة بشكل عام، فكيف بالنسبة لهذه الشريحة، وفي ظل متوسط الأجر التقاعدي المتواضع المحسوب أعلاه؟.
كرامة الشيخوخة مفقودة
هذه الشريحة الاجتماعية الكبيرة- نصف مليون متقاعد ليس بالرقم القليل- قد نابها الظلم عدة مرات وبعدة مستويات.
بداية من مستوى المعيشة المتدني قبل التقاعد، والإحالة على المعاش، بسبب تدني الأجور عموماً، وعدم توافقها مع متطلبات الحياة وضروراتها، فالفقر وشظف العيش كان محور حياة هذه الشريحة مع أفراد أسرها، بالإضافة إلى كدحها وتعبها، وصولاً لما تعانيه من أمراض مزمنة كما سلف أعلاه بعد أن أصبحت متقاعدة، لتستكمل بقية عمرها في شظف العيش والفقر المترافق مع الأمراض أيضاً.
علماً أنّ هذه الشريحة التزمت بتسديد ما عليها من التزامات مالية تجاه مؤسسة التأمينات الاجتماعية، بالإضافة إلى حصة ربّ العمل المسددة أيضاً وفقاً للقانون، على شكل اقتطاعات من الأجور الشهرية طيلة سني خدماتها الطويلة المؤمن عليها، والنتيجة، أنها لم تلق الهدف المطلوب على مستوى ضمان الحد الأدنى من كرامة الشيخوخة التي من المفترض أن تؤمنها المظلة التأمينية، لا على مستوى متطلبات المعيشة، ولا حتى على مستوى التغطية الصحية!.
مكافأة نهاية العمر المغصوب
إذا كان العاملون بأجر وهم على رأس عملهم قد أصبحوا مفقرين ومعوزين، بهذا الواقع الاقتصادي السيء وبهذه الظروف المعيشية الصعبة، وبهذا النمط السائد من التعامل مع الأجور عبر السياسات المتبعة، والدلائل تشير إلى أنّ واقع التردي المعيشي مستمر، دافعاً نحو المزيد من الفقر والجوع للغالبية الساحقة من الشعب، بسبب جملة السياسات المتبعة، فكيف الحال بهؤلاء المتقاعدين في سني عمرهم الأخيرة؟
فنصف مليون «ختيار وختيارة»، قدموا جهدهم وعرقهم وتعبهم حسب قطاعات عمل كل منهم وهم بقوتهم وعافيتهم، أصبحوا متقاعدين وفي أضعف حال، وباتوا يُدفعون دفعاً نحو القبور، إن توفرت لهم أصلاً، مرضاً وعوزاً وجوعاً.
من المسؤول عن حفظ كرامة هؤلاء جميعاً؟ فمبلغ الـ20 ألف ليرة لا يصلح لاعتباره بدل تعطل وبطالة في هذه الظروف القاسية! فكيف يمكن اعتباره معاشاً تقاعدياً بعد سني الخدمة الطويلة؟ وهل هذه النتيجة هي مكافأة ما تبقى من أعمار مستهلكة ومستنزفة لهذه الشريحة استغلالاً وغصباً؟.
المظلة التأمينية والأجور
المظلة التأمينية التي تقدمها مؤسسة التأمينات الاجتماعية تعتبر أحد أشكال الحماية والأمن الاجتماعي ذي الطبيعة التكافلية، كون الاقتطاعات الشهرية المسددة في حساباتها تعتبر مساهمة من المؤمن عليهم ومن أرباب العمل، خاص أو عام، يُضاف إلى ذلك الريع الاستثماري من المشروعات والاستثمارات التي تقوم بها المؤسسة بحسب ما أتاح لها القانون، وربما تقتضي الضرورة أن يتمّ توسيع تغطية هذه المظلة لتشمل تغطيات إضافية غير المعاش التقاعدي وإصابات العمل، وخاصة لأصحاب معاشات الشيخوخة والتقاعد، وذلك على مستوى التأمين الصحي لهؤلاء أيضاً، باعتبار أن غالبية أصحاب المعاشات غير مؤمن عليهم صحياً، وهم بأمسِّ الحاجة إلى هذا النوع من التغطية.
النقطة الأهم، هي: ضرورة زيادة الأجور وإخراجها من ثلاجة السياسات الحكومية المتبعة، وربطها بمقومات الحياة المتطورة وبضرورات المعيشة مع متغيراتها، وبما يحافظ على كرامة كافة أصحاب الأجور، وبالتالي أصحاب المعاشات التقاعدية، كون معاشاتهم التقاعدية المحسوبة ضمن المظلة التأمينية للمؤسسة مرتبطة بالسياسة العامة للأجور قانوناً.
الأشد أسفاً وظلماً وألماً بالنسبة لهذه الشريحة، هو: ما درجت عليه العادة في التعامل مع الزيادات التي تطرأ على الأجور، حيث تمنح نسبة زيادة أقل عن غيرها من شرائح العاملين على رأس عملهم، علماً أن واقع الحال يقول: إن ضرورات إنفاقها على الطبابة والعلاج فقط لا تتناسب مع هذه النسب، فكيف بالنسبة لبقية الضرورات المعيشية؟.
فهل من الممكن تحقيق ذلك، أم ستكون النتيجة حسب المقولة: «صرخة في وادٍ؛ إن ذهبت اليوم مع الريح, لقد تذهب غداً بالأوتاد»!؟.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 909