مسكن الأحلام
نالت مشكلة السكن والإسكان في سورية نصيبها الكافي من الإهمال على مستوى المعالجة الجدية لها، وذلك على مدى عقود طويلة من الزمن، والسبب في ذلك هو أنّ السياسات الحكومية المتبعة طيلة العقود الماضية كانت تقتصر على تقديم حلول جزئية وترقيعية محدودة لها ليس إلا، مع العلم أن هناك وزارة مسماة بوزارة الإسكان، وبرغم وجود مؤسسة حكومية متخصصة بهذا الشأن، وهي معنية مباشرة بهذه المشكلة المزمنة.
آخر ما حرر بشأن الحلول المحدودة والترقيعية لهذه المشكلة هو ما تم الإعلان عنه مؤخراً من قبل المؤسسة العامة للإسكان حول فتح باب الاكتتاب على مشروع الادخار من أجل السكن في بعض المحافظات، علماً أن بعض مشاريعها لم تُستكمل حتى الآن برغم مرور أكثر من 15 عاماً عليها.
المشروع الجديد
أعلنت المؤسسة العامة للإسكان عبر موقعها الإلكتروني الرسمي بتاريخ 13/2/2018 فتح باب الاكتتاب على مشروع الادخار من أجل السكن في محافظات: ريف دمشق- حمص– حماه– حلب– اللاذقية– السويداء– القنيطرة– درعا، وذلك استناداً لقرار وزير الأشغال العامة والإسكان رقم /407/ تاريخ 10/2/2019، المتضمن شروط الاكتتاب، وعدد المساكن المطروحة للاكتتاب، ومساحتها الوسطية، والقيم التقديرية، ومبلغ التأمين، والدفعة الأولى، والأقساط الشهرية.
كما تضمن القرار تحديد نسبة 50% من المساكن المطروحة لذوي الشهداء ومصابي الحرب، بالإضافة إلى شروط الاكتتاب، وطرق التقدم بالطلبات، وبعض التفصيلات الأخرى، حيث تم تحديد تاريخ 17/3/2018 موعداً لبدء التقدم بالطلبات، وتاريخ 16/5/2018 موعداً نهائياً لاستلام طلبات الاكتتاب.
وفي التفاصيل، بحسب القرار أعلاه، فقد تم تحديد عدد المساكن المطروحة للاكتتاب بـ 12200 مسكن، وفي الجدول المرفق بالقرار تم تحديد المساحة الوسطية للمسكن من 40- 60 متراً مربعاً، بقيمة تقديرية وسطية 7,500,000 ليرة، والدفعة النقدية الأولى مبلغ 1,800,000 ليرة، تتضمن مبلغ تأمين الاكتتاب البالغ 500,000 ليرة، والقسط الشهري 20,000 ليرة.
تنفيذ مفتوح المدة
لكل مليء وطويل عمر
لا شك أن المبلغ المطلوب كدفعة أولى مع مبلغ الضمان يعتبر كبيراً بالنسبة لعموم المواطنين، وخاصة محدودي الدخل والمفقرين، الباحثين عن مأوى وفرصة للسكن في بيت صحي يتمتع بالمواصفات الفنية والهندسية التي تجعله آمناً على حياتهم ومستقبلهم، خاصة في ظل تدني مستويات الأجور، والسياسات الحكومية المجمدة لها، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً: أن القسط الشهري البالغ 20 ألف ليرة يعتبر كبيراً جداً بالمقارنة مع معدلات الأجور الوسطية البالغة بحدود 30 ألف ليرة، كما أن المساحات المعلن عنها تعتبر صغيرة جداً، وهي بالكاد تناسب أسرة صغيرة قيد التأسيس، ولعل «فرصة» الاكتتاب ستكون بالنتيجة حكراً على شريحة محدودة تمتلك هذا المبلغ النقدي بهذه الظروف، وباستطاعتها تسديد القسط الشهري المطلوب، خاصة وأن عدد المساكن المطروح الاكتتاب عليها يعتبر ضئيلاً جداً بالمقارنة مع الحاجات المتنامية في المحافظات الثمانية الواردة بمتن القرار، وفي ظل ظروف الحرب والأزمة والدمار والتشرد والنزوح.
أما اللافت في القرار والإعلان والتفصيلات المتعلقة به فقد كان غياب مدة التنفيذ ومواعيد التخصيص، حيث لم يتم إيراد أية معلومة حول ذلك على الإطلاق في متن القرار أو الإعلان، وتُرك الحبل على الغارب على هذا المستوى بعهدة المؤسسة العامة للإسكان التي أصبحت بِحلٍ رسمي من المسؤولية بهذا الخصوص، وما على المكتتبين إلا الرضوخ لمشيئة المؤسسة وظروفها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المؤسسة أصلاً متنصلة من التزاماتها الزمنية المرتبطة بالمشاريع المعلنة من قبلها سابقاً، والأدلة والأمثلة كثيرة على ذلك، والتوضيح الوحيد الذي تم تداوله عبر وسائل الإعلام حول ذلك كان على لسان معاون وزير الإسكان بعد يومين من الإعلان: أن المساكن المطروحة للاكتتاب سيتم تسليمها خلال 5 سنوات، ولا ندري مدى التزام المؤسسة بمضمون هذا التصريح؟!.
أما الأكثر غرابة فقد كان ما تضمنه القرار في مادته الثامنة المتضمنة:
يمنح المصرف العقاري كل من يرغب من المخصصين قرضاً وفق الحدود التي يسمح بها قانون المصرف وأنظمته لتسديد القيمة التخمينية لمساكنهم.
يترتب على المُخَصَّص الذي لا يكفي قرضه لتسديد كامل رصيد القيمة التخمينية للمسكن أن يكمل تسديد الفرق نقداً.
يترتب على المُخَصَّص الذي لا يرغب في الحصول على قرض من المصرف العقاري أن يسدد رصيد القيمة التخمينية للمسكن نقداً.
أي: أن البعض من المكتتبين سيضطرون لتسديد مبالغ نقدية كبيرة عند التخصيص في حال لم يكف القرض العقاري لتسديد كامل القيمة التخمينية، وهؤلاء سيضطرون ربما للتنازل عن الاكتتاب، ما يعني أنه سلفاً تم استكمال التمهيد لفتح باب الاتجار والسمسرة بهذا المشروع لمصلحة الشريحة المليئة من أصحاب رؤوس الأموال دون سواهم.
معطيات رقمية
بحسب الإعلان ومفرداته يمكن أن نستخلص الأرقام التالية:
المؤسسة ستجمع لقاء عمليات الاكتتاب المعلن عنها مبلغ وقدره 21,960,000,000 ليرة، أي بحدود 22 مليار ليرة سورية، وذلك لقاء الاكتتاب الأولي كدفعة أولى، مع الأخذ بعين الاعتبار ما سيتم وضعه بحسابها كمبلغ ضمان وقدره 500 ألف ليرة من جميع المتقدمين بطلباتهم، والتي ستبقى في حسابها لحين الانتهاء من إجراءات القرعة، والفترة الزمنية التي سينتظرها من لم يسعفهم حظهم من هؤلاء لاستعادة هذا المبلغ لاحقاً، وللمقارنة فإن الاعتمادات الاستثمارية المخصصة للمؤسسة في موازنتها لعام 2018 كانت بحدود 33 مليار ليرة.
بحسب القيمة التخمينية المعلنة، فإن مبلغ 22 مليار ليرة الذي سيتم حصاده في حسابات المؤسسة خلال الشهرين القادمين، يمكن أن ينفذ به بحدود 2933 مسكناً من أصل 12200 مسكن معدٍّ للاكتتاب، بشكل مباشر دون اللجوء للاقتراض من العقاري، ودون أي تمويل من المؤسسة.
سعر المتر المربع يتراوح بين 125000- 187500 ليرة بحسب المساحة والقيمة التخمينية المعلنة البالغة سبعة ملايين ونصف، بغض النظر عن الموقع، وبعده وقربه من مركز المحافظة المكتتب فيها، علماً بأن نسبة الإكساء ستكون 80% فقط حسب ما هو معلن، وبحسب بعض المواطنين فإن هذا السعر يعتبر مرتفعاً، خاصة وأن الأراضي التي ستقام عليها المشاريع بعيدة جداً عن مراكز المدن.
المكتتب الفائز بالقرعة سيترتب عليه قسط شهري 20 ألف ليرة، لمدة 300 شهر، أي 25 سنة بواقع 240 ألف بالسنة، وذلك بحال التزمت المؤسسة بالقيمة التخمينية المعلنة، ولم ترفعها بمرور الوقت كما عودتنا.
وعلى المستوى الرقمي أيضاً ربما تجدر الإشارة هنا إلى أن عدد المساكن المنجزة منذ إحداث المؤسسة وحتى نهاية عام 2018 هو 74441 مسكن، موزعة بين الشعبي والشبابي والادخار والعمالي وأساتذة الجامعات، في جميع محافظات القطر، وذلك بحسب ما ورد على الموقع الرسمي للمؤسسة، علماً أنها محدثة منذ عام 1961، أي 58 عاماً وبمعدل وسطي 1284 مسكناً في العام، ولكم أن تتخيلوا كم ستطول مدة التنفيذ للمشروع الحالي في ظل معدلات التنفيذ هذه.
بيع الأمل
القرار والإعلان أعلاه تباينت حوله مواقف وآراء المواطنين، وخاصة من عانى وما زال من مشاريع المؤسسة السابقة في ظل التحلل من التزاماتها على مستوى القيمة التخمينية ومآلها، والمدة الزمنية المعلنة للتخصيص والتسليم.
وفيما يلي بعض من تعليقات المواطنين حول الإعلان أعلاه، والتي وردت على بعض صفحات «فيسبوك» العامة:
“مليون وثمانمئة ألف ليرة دفعة أولى!! مافي فقير ومعتّر ومهجّر معو هيك مبلغ !! الله الله يا رشيدة”.
“وزارة الإسكان توفي بوعودها السابقه بعدين تعمل شي جديد، وشو صار بسكن الشبابي تسجيل 2004.. رح انختير وما استلمنا”.
“شو هاي الشقة يلي مساحتها ٤٠ متر وحقها بيصل ٨ مليون، شو مستغبين الشعب ولا شو”.
“تورطنا وسجلنا بأول الأزمة بمشروع «معرونة» ودفعنا والقسط الشهري 7500 وبس تتأخر بتدفع غرامة ولهلق مافي شي...!!!”.
“الاستلام مو مهم المهم الاكتتاب، وما أصعب العيش لولا فسحة الأمل عم يبيعوكم أمل شو بدكم أحسن من هيك”.
«قدَر» السياسات!
أخيراً، لا بد من التساؤل عن جدوى السياسات الحكومية بما يخض معالجة مشكلة السكن والإسكان المتفاقمة، في ظل محدودية المشاريع السكنية التي يتم الإعلان عنها وتنفيذها وفقاً للشكل والمضمون أعلاه، وفي ظل الحاجات المتنامية للسكن عاماً بعد آخر؟
فالحق بالسكن الصحي، الآمن فنياً وهندسياً، والمؤمن خدمياً، أصبح حكراً على المليئين من أصحاب المال والثروات فقط لا غير، ليس على مستوى ما يتم تنفيذه من قبل الجمعيات والمشاريع الكبيرة والصغيرة الخاصة فقط، بل على مستوى ما يتم تنفيذه من قبل المؤسسة الحكومية المعنية بهذا الشأن أيضاً!.
أمّا الأنكى فهو الاستغراب والدهشة من اتساع مناطق العشوائيات وتزايد معدلات المخالفات السكنية داخل المدن وبمحيطها، طبعاً على حساب المفقرين وسلامتهم وخدماتهم ومعيشتهم، وكأنها قدر لا مفرّ منه بالنسبة لهؤلاء، فلا حلول على ما يبدو لمشكلة السكن والإسكان في ظل الاستمرار بنفس سياسات «القدَر الكافرة» المحابية لأصحاب الثروات دون سواهم، والمتبعة منذ عقود!.