الحكومة.. إقرار بالعجز ٌ وتقاسم السوق مع المهربين
هل عجزت أجهزة الحكومة عن مكافحة التهريب، أم أنها أقرت بهزيمتها في المعركة مع حيتانه؟ وهل تقاسم السوق بين المهرب والمستورد هو الحل الأنسب؟ وأين ستصبح مصلحة المواطن والدولة، والمصلحة الوطنية؟
مجموعة من الأسئلة واجبة الإجابة، استدعاها خبر تداولته بعض وسائل الإعلام، نهاية الأسبوع الماضي، يقول: «أكدت مصادر خاصة أن كلاً من وزارتي المالية والاقتصاد والتجارة الخارجية تتجهان لإعادة النظر في الرسوم الجمركية المفروضة على استيراد المواد وتخفيضها بما يتناسب مع البلدان المجاورة».
ويضيف الخبر: «التحرك جاء بناءً على طلب وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، وتوجيه رئاسة مجلس الوزراء، حيث أكدت الأولى في كتابها: أن هذا التحرك يهدف إلى تفادي الخسائر الكبيرة الناجمة عن التهريب ودفع الرسوم الجمركية للخزينة العامة للدولة، ولتحقيق تنافسية عادلة بين الموردين».
الرسوم الجمركية والتهريب
ربما تجدر الإشارة والتذكير، أولاً: أن الرسوم الجمركية عبارة عن ضرائب تُفرض وتُجبى على السلع المستوردة بغاية أساسية، بداية هي حماية الإنتاج والصناعة الوطنية، قبل الغاية مما توفره هذه الجباية من أموال تصب في الخزينة العامة، والتي بعضها مقترن برسوم تفرض على الصادرات أيضاً، بالإضافة إلى كونها أداة مرتبطة بالسياسات الاقتصادية وغاياتها وأهدافها العامة، اقتصادياً واجتماعياً، وسياسياً في بعض الأحيان. كما أن الفائض في الميزان التجاري، وهو تعبير عن ثراء الدولة، ما هو إلّا نتيجة لزيادة الصادرات على الواردات، حيث تعتبر آليات الحد من الواردات، المتمثلة ببعض جوانبها بفرض الرسوم الجمركية المرتفعة، أحد أشكالها التنفيذية.
في المقابل، فإن التهريب، بالإضافة إلى كونه عملية غير مشروعة قانوناً، فهو يحول دون استيفاء الرسوم والضرائب المفروضة لصالح الخزينة العامة، وهو غير محصور بالبضائع الداخلة بل بالخارجة أيضاً، كما أن التهريب يرتبط بنوعية البضائع ومصدرها أيضاً، باعتبارها ممنوعة من الاستيراد أو التصدير بشكل نهائي في بعض الأحيان. على ذلك فإن منع التهريب بأدواته وغاياته ليس مقترناً بالجانب المادي والاقتصادي فقط، بل بجوانب أخرى ربما أعمق وأهم.
من العجز إلى ذرائع تحرير المستوردات
بالعودة للخبر أعلاه، فإن التفنيد الحرفي له يعني: أن الحكومة وبمعرض بحثها عن تفادي الخسائر جراء عمليات التهريب ستقوم بتخفيض الرسوم الجمركية على المستوردات، أي: أنها بالإضافة إلى خسارة إيراداتها جراء عمليات التهريب ستزيد من هذه الخسائر عبر تخفيض الرسوم الجمركية أيضاً!.
أما الملفت فهو: الذريعة المتمثلة بتحقيق «التنافسية العادلة بين الموردين»، ولا ندري عن أيّ موردين يجري الحديث هنا، فالرسوم الجمركية المفروضة موحدة، والاستثناء فيها هو أن الحكومة في بعض قوانينها «التشجيعية» منحت بعض القطاعات إعفاء منها ومن رسوم غيرها أيضاً، إلّا إنْ كان الحديث عن المهرب باعتباره مورداً لا يسدد الرسوم فقط، ومن الواجب تحقيق العدالة بينه وبين المستورد النظامي، كتسوية بين الطرفين في السوق الداخلي، على حساب المنتج المحلي والصناعة الوطنية والمستهلك والخزينة والاقتصاد الوطني.
فالعدالة بهذا المعنى المنتقص والمشوه، تعني إعفاء المستورد بشكل نهائي من الرسوم الجمركية وغيرها من الضرائب الأخرى، باعتبار أن المهرب لا يتهرب من تسديد الرسوم الجمركية فقط، بل من جميع الضرائب الأخرى المترتبة على البضاعة المهربة وصولاً إلى وضعها بالاستهلاك، بغض النظر عن نوعها وطبيعتها، ما يعني أيضاً، ومن باب العدالة، أن يفتح باب الاستيراد على مصراعيه للسلع والبضائع والخدمات كافة، وهو مطلب قديم متجدد لكبار التجار والمستوردين.
أما الغائب عن الخبر أعلاه، وهو التفنيد الضمني فيه، فهو أن الحكومة أقرت بعجزها عن مكافحة عمليات التهريب، وخسارتها للمعركة مع حيتانه، إن كانت هناك معركة حقيقية بالأصل، وبدأت توجد حلول تسووية بين القائمين على السوق والمتحكمين فيه، من كبار التجار والسماسرة ومن كبار المستوردين وكبار المهربين، بما يحقق «العدالة» بينهم، ولم لا فالسياسات الاقتصادية المتبعة أصلاً تعتبر محابية لهذه الشريحة، بغض النظر عن موقع أطرافها من القانون وحيثياته.
العدالة المُفقرة للمواطن والدولة
لعل ما تاه وسيتوه لاحقاً أكثر، هو الغاية والهدف الرئيس من فرض الرسوم الجمركية أصلاً، وارتباط ذلك بالسياسات المتبعة وبأهدافها الاقتصادية الاجتماعية، وبموقع الرسوم كأداة في معرض التطبيق العملي لهذه السياسات من خلال القوانين والأنظمة، والتي سيتم تعديلها على ما يبدو، بمعنى آخر: إن الإنتاج والصناعة الوطنية أمام ضربة جديدة قادمة، عبر تكريس سياسات الانفتاح وتحرير المستوردات والتخفيضات على رسومها الجمركية، ما يعني أنّ ما يرسم هو المزيد من العجز في الميزان التجاري، أي: المزيد من فقر الدولة نفسها، وليس للمواطنين المسحوقين فقط.
لنأت للطامة الكبرى في حال التوسع بمفهوم العدالة على هذا الشكل المشوه، وفي ظل الإقرار بالهزيمة وتكريسها، وكيف سيؤول هذا المفهوم ويعمم، وصولاً للاستسلام في المعركة مع البضائع المهربة في السوق لاحقاً، مهما كانت نوعية هذه البضائع أو طبيعتها أو منشأها! فالمهربات من السلع والبضائع بعضها وضع بالمنع استيراداً بسبب طبيعتها، مثل: المخدرات، وبعضها بسبب منشأها، مثل: «الإسرائيلية»، وبعضها لنوعيتها، مثل: الكثير من الكماليات الترفية، فهل سنصل إلى مرحلةٍ تدخل فيها مثل هذه البضائع والسلع إلى السوق استيراداً، من باب تحقيق العدالة في السوق مع المهربين؟
ربما الاستثناءات حتى الآن شملت بعض السلع ذات الطبيعة التَّرَفية والكمالية، تماشياً مع رغبات وأذواق المستهلكين من علية القوم ومترفيه، فسُمح باستيرادها، ولا ندري ما ستضيفه الأيام واحتياجات الاستهلاك لدى هذه الشريحة من سلع إضافية تضاف إلى قائمة السماح والانفتاح، كما لا ندري إذا ما كانت هناك غايات وأهداف تبرر لاحقاً استيراد المخدرات وتسمح بتداولها في الأسواق مثلاً، ولم لا؟ فقد سبقتنا في ذلك بعض الدول وشرعت الحشيش المخدر، وهذه ربما تعتبر مهمازاً وذريعةً كافيةً لأصحاب الرساميل الباحثين عن المزيد من الأرباح لممارسة الضغط من أجلها، ولو على حساب المواطن والوطن والمستقبل.
سياسات وموبقات
دون إضافة المزيد مما يمكن أن يقال، نختصر، ونتساءل: أما كان من الأجدى لو تم طرح الإعفاء من بعض الرسوم والضرائب المُجباة من جيوب المستهلكين، كضريبة الإنفاق الاستهلاكي مثلاً، كأحد أساليب تخفيض أسعار السلع في الأسواق، والتي تحد من التهريب نوعاً ما، والتي يستفيد منها المستهلك أيضاً، أو غيرها من الأدوات الشبيهة الأخرى على المستوى الاقتصادي، والتي يعتبر أسها وأساسها تحسين المستوى المعيشي لعموم المواطنين، بدلاً من الاقتراح أعلاه، وما قد يستتبعه من مغبات سلبية كبيرة؟!
واقع الحال يقول: إن السياسات الليبرالية المعتمدة والمعمول بها لا تمثل إلا مصالح حيتان المال والمستثمرين، بغض النظر عن موقعهم من القانون، على حساب الإنتاج والصناعة والمستهلك والاقتصاد والوطن، ولا يغيب عن أذهاننا أن هذه السياسات نفسها هي التي أفرزت وما زالت تفرز الموبقات كافةً التي تنعكس سلباً على حياتنا ومعاشنا بالنتيجة، اعتباراً من الإفقار والتجهيل والتهميش، مروراً بالفساد والتهرب والتهريب، وليس انتهاءً بالمخدرات والدعارة وتجارة الأعضاء وغيرها.
فهل بقي من وَهمٍ بأنه للخلاص من كل هذه الموبقات لا بد من الانتهاء من هذه السياسات أولاً؟