الرقة المدمرة والمحتلة...

الرقة المدمرة والمحتلة...

تعيش محافظة الرقة ريفاً ومدينة واقعاً مريراً ومآسيَ كبيرة، سواء نتيجة تداعيات ممارسات «داعش» التكفيري قبل خروجه، وبنتيجة استمرارها مع مجيء الاحتلال الأمريكي أيضاً، حيث شملت مختلف جوانب الوجود والحياة الاجتماعية، من أمن وعمل زراعي، وواقع خدمي وصحي وتعليمي سيء.

فمدينة الرقة التي دمرها طيران التحالف الأمريكي تدميراً كاملاً، كما دمّر البنى التحتية في المحافظة ككل، بحجة محاربة «داعش»، ما زال تحت أنقاضها رفاة وبقايا المواطنين المدنيين، رغم انتشال مئات الجثث لعوائل كاملة.. كما ما تزال قوات التحالف الأمريكية وقوات سورية الديمقراطية المتحالفة معها، يمنعون دخول الهيئات الأممية الدولية، والحكومة السورية، للاطلاع على حجم الدمار ونتائجه.
واقع أمني مرعب
رغم خروج «داعش» من مدينة الرقة والمحافظة ككل، سواء هروبهم، أم نقلهم العلني بمساعدة قوات التحالف الأمريكي إلى أماكن أخرى، إلاّ أن بعضاً من عناصرها من أبناء المنطقة يجري استخدامهم تحت مسميات متعددة، مما يجعل الوضع الأمني في الرقة مرعباً لمن بقي من المواطنين، أو ممن عادوا إليها، بسبب تعدد الهيمنات، وخاصةً الهيمنة الأمريكية، ويجري استقطاب العديد من المواطنين والمواطنات بتقديم الإغراءات المالية، مستغلين حاجتهم وظروفهم المعيشية، حيث هاجر وتهجر أكثر من 60% من شباب المحافظة، ومن بقي تجاوز عمره 50 عاماً أو من النساء، كما يمنع الدخول إلى المحافظة لأي مواطن سوري، إلاّ إذا كانت بطاقته الشخصية من قيود المحافظة، أو بكفيل يكفله، كما يمنع خروج المواطنين المحتجزين في المخيمات، التي تفتقد لأي من مقومات الحياة بكرامة.
مآسي الإنتاج الزراعي والحيواني
رغم انخفاض مستوى منسوب بحيرة سد الفرات نتيجة احتجاز تركيا لنسبة عالية من مياه نهر الفرات، وعودته للخدمة وإن لم يكن بطاقته السابقة، عادت بعض قنوات الري للجريان، وعادت الزراعة جزئياً، إلاّ أن ذلك لا يكفي إلاّ جزءاً من حاجة المواطنين المعيشية من الخضار.
أما المحاصيل الإستراتيجية كالقمح فقد تعرض الموسم للموات نتيجة قلة مياه الري ونوعية البذار المهربة من تركيا وقلة الأسمدة وأدوية المكافحة وارتفاع أسعارها، وارتفاع أسعار المحروقات، بالإضافة إلى الظروف الجوية، وفي أحسن الأحوال لمن توفرت له مستلزمات الإنتاج، بلغ إنتاجه نسبة 30-40% مما كان عليه الإنتاج قبل الاحتلال الأمريكي.
أما زراعة القطن فشبه معدومة للأسباب ذاتها وتفاقمها يوماً عن يوم، وكذلك سيطرة ما يسمى الإدارة الذاتية على إنتاج القمح والقطن، وشرائهِ بثمن أقل مما حددته الدولة السورية، ليتم نقله عبر السماسرة والتجار إلى تركيا.
كذلك انخفضت الثروة الحيوانية، وما بقي منها لا يزيد عن 20% مما كانت عليه قبل الاحتلال الأمريكي، بسبب عدم توفر الأعلاف، والأراضي الزراعية والذبح العشوائي والاستهلاك الكبير على حساب الثروة الحيوانية، وأصحابها من الفلاحين والمربين.
فوضى وسمسرة وتهريب
نشطت التجارة والسمسرة والتهريب نتيجة غياب دور الدولة، ونشر الفوضى المتعمد، فانتشرت الأسواق المتنقلة في المدن والبلدات والقرى، ويسيطر على هذه الأسواق كبار التجار والمرتبطين بالمتنفذين من قوات سورية الديمقراطية وقوات الاحتلال الأمريكي، ويباع في هذه الأسواق كل شيء، من الخضار والفواكه إلى الأجهزة الكهربائية، وترتفع أسعارها بسبب الرسوم التي تفرض على دخولها إلى المحافظة، أو خلال نقلها عبر الحواجز..
كما يجري منع دخول مشتقات الألبان كالسمن والجبن إلى المحافظات السورية الأخرى من قبل الجمارك الرسمية، مما أدى إلى تكدس إنتاجها وانخفاض سعرها، وسهل للتجار نقلها إلى تركيا.
أمراض وولادات مشوهة
الواقع الصحي في محافظة الرقة، لا يقل مأساوية عما أصاب الرقة من دمار، حيث تدمرت المشافي كافة في المحافظة نتيجة القصف الأمريكي المتعمد للبنى التحتية، وانتشرت كثير من الأمراض الجلدية كاللشمانيا وأمراض الحساسية وأمراض العيون، والأمراض القلبية والرئوية والتنفسية والسرطانية والولادات المشوهة نتيجة التلوث الكبير، وسوء التغذية ونقص الخدمات الصحية والأدوية، وهجرة أكثر من 80% من أطباء المحافظة أو تصفيتهم من «داعش»، وبقيت بعض العيادات الخاصة، وجرى افتتاح الكثير من الصيدليات الخاصة دون ترخيص ورقابة نتيجة غياب الدولة السورية، وتباع فيها أدوية غير خاضعة للمقاييس الطبية ولا يعرف مصدرها، وبأسعارٍ مرتفعة، بما فيها الأدوية المخدرة التي أدمن عليها بعض الشباب.
ومؤخراً، قامت الحكومة السورية بالتنسيق مع «قسد» بتأهيل مشفى مدينة الطبقة الوطني لكون أضراره قليلة، وتشغيله بكادرٍ حكومي، كما قامت أيضاً بحملة تلقيح للأطفال، الأمر الذي كان له الكثير من الأثر الإيجابي لدى المواطنين، منتظرين المزيد على هذا المستوى وسواه.
جهل وتجهيل
سنوات الحرب وهيمنة القوى الفاشية التكفيرية والهيمنة الأمريكية الحالية، أدت إلى حرمان عشرات الآلاف من الأطفال من التعليم، فمن كان عمره 6 سنوات قبل انفجار الأحداث وهيمنة التكفيريين الذين منعوا التعليم، يبلغ عمره 12 سنة وما فوق الآن، وهو لا يستطيع فك الحرف، ومعدوم الثقافة، بعد أن كانت الرقة من المحافظات النشطة تعليمياً وثقافياً.
وبعد خروج «داعش» وهيمنة «قسد» حاولت افتتاح بعض المدارس، وبرمجتها وفق أهداف ضيقة بعيدة عن الهدف الوطني، ورغم استخدام المنهاج الرسمي، إلاّ أنه لا يوجد كادر تدريسي مختص، وخاصة المنهاج السوري الحديث. وفي مناطق جنوب الرقة التي تسيطر عليها الدولة السورية، يجري التدريس وفق المنهاج الحكومي وبكادر حكومي.
الخلاص من الاحتلال والهيمنات
مع هيمنة «داعش» السابقة وممارساتها من إعدامات علنية وسجون وتصفيات ومقابر جماعية، ومع بقاء بعض رموزها متسترين بمسميات مختلفة برعاية ووجود الاحتلال الأمريكي، وسيطرة قوات «قسد»، ما زال آلاف المفقودين من أبناء محافظة الرقة، وحالة الرعب والخوف وغياب الأمن هي السائدة، ذلك كله أدى إلى بعض الخلل في البنية والعلاقات الاجتماعية، وتراكم كثير من الأمراض الاجتماعية، وعودة الفاسدين واللصوص والحرامية والانتهازيين، بالإضافة إلى استغلال البنية العشائرية في تناحرات تزيد من التفكك الاجتماعي، مما يسمح بمزيدٍ من الهيمنة على أهالي الرقة، مع مساعٍ لتغييب الحس الوطني لديهم.
لكن رغم كل ذلك يصر غالبية أهالي الرقة على سوريتهم وانتمائهم إلى الوطن، ويريدون الخلاص من الاحتلال الأمريكي، واستعادة الرقة من كل الهيمنات عليها، كي يعيشوا فيها بكرامة.