ريف الدير.. الدرّاج وابن آوى يعود قبل السكان

ريف الدير.. الدرّاج وابن آوى يعود قبل السكان

الريف الشرقي في دير الزور يمتد إلى الحدود العراقية بمسافة 125 كم، القسم الشمالي منه، أي: شمال نهر الفرات وما يسمى (الجزيرة) ما زال نصفه تحت سيطرة «داعش» التكفيرية المحمية أمريكيّاً، والنصف الآخر تحت سيطرة (قسد) المدعومة أمريكياً.

أما القسم الجنوبي من نهر الفرات، ويسمى (الشامية) فهو الأكثر تضرراً من التهميش منذ عقود، ومن السياسات الليبرالية التي طُبّقت في العقدين الأخيرين، وما رافقها من نهبٍ وفسادٍ وفقرٍ وبطالة وزيادة تهميش، وقد كان هدفاً للمسلحين وللقوى الظلامية التكفيرية الفاشية، وخاصة «جبهة النصرة» أولاً ثم «داعش» لاحقاً وداعميهم، لوجود غالبية حقول النفط فيه.
نهب ودمار
لقد تعرضت الأملاك العامة والخاصة في هذا القسم للنهب باسم غنائم حرب، وخاصة المنشآت النفطية والزراعية عصب الحياة فيه.
فإذا كان سكان الريف الشرقي الأكثر هجرة إلى دول الخليج بسبب التهميش قبل الأزمة، فهم الأكثر تهجيراً في الداخل، والأكثر لجوءاً إلى الخارج (تركيا - أوروبا) أثناءها وإلى الآن، وذلك هرباً من التكفيريين، بما فيهم المجموعات المسلحة التي لم تبايع «النصرة وداعش»، ومن ويلات قطع الرؤوس والحرب وبحثاً عن الأمان، ولقمة العيش التي أصبحت قليلة ومُذِّلة..
كما كان أيضاً الأكثر تضرراً وتدميراً، وباتت كثير من القرى والمدن والبلدات خاوية من أهلها، وخاصةً قرى خط مدينة موحسن والقرى التابعة لها، والذي يمتد من المدينة ولمسافة حوالي 35 كم.. وخط مدينة البوكمال وقراها.
ورغم دحر «داعش» منذ عام تقريباً، إلاّ أنه إلى الآن لم يعد غالبية السكان لعدم توفر الأمان، وغياب مستلزمات الحياة والعمل وخاصة الكهرباء، وتخريب قنوات الري الزراعية، ونهب وتعفيش مضخات مشاريع الري العامة التابعة لاستصلاح الأراضي في حوض الفرات الأدنى، ومضخات الري الخاصة، وهما عصب الحياة والوجود، ناهيك عن العرقلات المتعمدة من قوى الفساد، وما يرافقها من موافقات أمنية واستغلالها.
موحسن وقراها
تقع ناحية موحسن وتوابعها في القطاع الثالث من مشروع استصلاح الفرات الأدنى، الذي رغم انتهاء تنفيذه قبل الأزمة، إلاّ أن التنفيذ السيء بسبب الفساد، وعدم استكمال الإجراءات اللازمة الأخرى، وهي عدم توزيع الأراضي المستثمرة، وعدم إنهاء أعمال التحديد والتحرير وعدم تقديم المخططات والمساحات النهائية من قبل المصالح العقارية، ذلك كله عرقل الاستفادة الحقيقية من المشروع، ويضاف إلى ذلك استمرار تفتت الملكيات بسبب الوراثة، الذي جعل المساحات المزروعة تتقلص، فأراضي الحاوي لا يزيد عرض الحصة عن مترين وطول آلاف الأمتار، قبل التفتت بسبب الوراثة، فكيف بعدها؟
فموحسن التي كانت متميزةً بمستوى الوعي والعلم وكانت تلقب(موسكو) الصغرى، أصبحت هي والقرى التابعة لها (المريعية والعبد والطابية والبوليل والطوب)، شبه خالية ونسبة الدمار والخراب فيها عالية، في البنى التحتية الخدمية من مدارس ومستوصفات وغيرها، وأراضيها الزراعية التي تعتبر أكبر المناطق مساحة في الريف الشرقي أصبحت يباباً، حيث السواقي الرئيسة مدمرة في عدة مناطق، وكذلك السواقي الفرعية، ومضخات الرفع الرئيسة الكبيرة جرى تعفيشها بعد دحر «داعش» منها، ومضخات آبار الصرف، وتدمير قنوات الصرف، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الملوحة في الأرض، وكذلك المضخات الخاصة، وغالبية الأراضي الزراعية منذ سنواتٍ لم تستثمر، وماتت غالبية البساتين والأشجار، كما عفشت المنازل أيضاً والثروة الحيوانية، ودمرت نسبة عالية من المنازل، وأصبحت الأراضي الآن مليئة بالأشواك والنباتات الضارة، والثعابين والعقارب والقوارض والحشرات الضارة، ليس في الحقول الزراعية الكبيرة، وإنما حتى في المنازل والأراضي المحيطة بها، وهذا ما يشكل رعباً وخوفاً حتى من الاقتراب منها، وحتى بعض الطيور البرية التي انقرضت من المنطقة عادت واستوطنت فيها كطيور الدراج، وكذلك الحيوانات كابن آوى، نتيجة عدم الفلاحة والزراعة، وغياب الصيد الموسمي.
ورغم غياب الكهرباء ومياه الري الزراعي، فقد عادت بعض الأسر، وخاصةً ممن تقع أرضهم على نهر الفرات مباشرة، الذين ركبوا مضخات صغيرة، وبدأوا الزراعة لبعض الخضار فقط.. والتي توفر لهم جزءاً من غذائهم، كما عادت شرطة الناحية، وتوفرت مياه الشرب نسبياً.
أما المناطق التي كانت تعتمد على مشاريع الري التابعة لاستصلاح الأراضي، أو التابعة لمشاريع الجمعية الفلاحية، أو التي تعتمد على استجرار المياه من كوع النهر (الصراة) بمضخات خاصة، والذي أصبح جافاً تماماً، نتيجة انخفاض منسوب نهر الفرات كثيراً، فقد بقيت غير صالحة للزراعة، وبالتالي العودة إليها مستحيلة، وبعض ممن اضطروا للعودة قاموا بحفر آبار وتركيب محركات صغيرة غير كافية لزراعة المحاصيل.
البوكمال وقراها
حال مدينة البوكمال وقراها أراضيَ وسكاناً، لا يقل سوءاً عن حال مدينة موحسن وتوابعها، فالتشابه كبير في الواقع والمعاناة، وهي تقع ضمن القطاع السابع من مشروع استصلاح الأراضي، وسوء التنفيذ والفساد نفسه، والمعاناة والتهميش والتسلط المتراكم نفسه، سواء قبل الأزمة أو أثناءها، من القوى المتنفذة، وقوى العنف الظلامية، كذلك ما تعرضت له الأراضي الزراعية وقنوات الري والمنشآت النفطية من نهب وخراب، والسكان من تهجير، بالإضافة إلى التلوث البيئي نتيجة استخدام حراقات النفط البدائية، الذي طال الأرض والهواء والماء، وما رافقه من أمراضٍ صحية ووبائية، وما زالت نتائجه تظهر تباعاً، كالتشوهات الجنينية للإنسان والحيوان، وأمراضٍ كالتهاب الكبد الوبائي. وأيضاً ما أصابها من تعفيش.
رغم عودة نسبةً لا بأس بها من أهالي مدينة البوكمال وقراها، بعد حوالي عام من دحر «داعش» منها، إلاّ أنّ المشكلة الأساس لأهالي البوكمال هي: أنه لا يمكن الدخول إليها إلاّ بموافقة من محافظ دير الزور، وموافقة من الأجهزة الأمنية.
أما أوضاع الخدمات فيها فهي سيئة، رغم توفر مياه الشرب نسبياً، إلاّ أن الكهرباء بالأمبيرات وهي قليلة، وفي بعض الحارات فقط، وقد تم تنظيف الشوارع الرئيسة وتأهيلها، بينما الشوارع الفرعية باقية على حالها، وأسعار الخضار والفواكه مرتفعة جداً، والخبز نوعيته سيئة جداً، وأسعار اللحوم مقبولة كونها من المنطقة.
أما الوضع الصحي فلا توجد مستشفيات ولا أطباء، وأسعار الأدوية عالية جداً ودون ضوابط، والمنازل خالية بعد تعفيش الأثاث والأدوات والأبواب وأسطوانات الغاز، ولم يبق سوى بقايا ملابس مستعملة وإسفنجات وحرامات قديمة.
هذا الواقع المأساوي والمؤلم، يعرقل ويمنع عودة الأهالي، ناهيك عن الموافقات الأمنية وعدم توفر الضمانات الكافية تعتبر سبباً مهماً آخر في عدم العودة.
حلول جدية وليست وعوداً وهمية!
يطالب أهالي موحسن والبوكمال، والقرى التابعة لهما، من المهجرين في الداخل والخارج الذين عادوا والراغبين في العودة، بحلولٍ جدية، وليست وعوداً، ومنها:
حل جذري للموافقات الأمنية.
إصلاح سواقي الري، وتركيب مضخات المشاريع العامة أو التابعة للجمعيات التعاونية.
توفير الكهرباء اللازمة للري والإنارة.
تقديم القروض الزراعية دون فوائد.
توفير مستلزمات الإنتاج الزراعي من بذار وسماد وأدوية مكافحة للحشرات والنباتات الضارة، لموسم القمح القادم، وهذا يسرع ويسهل عودة الحياة للمنطقة.
تأمين الخبز بنوعية جيدة.
فتح الطرقات الفرعية وتأهيل طريق دير الزور البوكمال.
كما يطالب أهالي موحسن خاصةً باستغلال جفاف الصراة باستصلاح آلاف الدونمات من الأرض فيها، لأن أرضها خصبة وهي عبارة طميٍ متراكم منذ آلاف السنين.
والسؤال المهم:
هل سيستجيب المسؤولون لمطالب أهالي الريف الشرقي في دير الزور، لتسهيل وتسريع عودتهم وعودة الحياة، ويكون كما كان مهداً للزراعة منذ وجد الإنسان، وخاصةً أن هذه المطالب ليست مستحيلة!؟