بيت العمر في العشوائيات
تحدث وزير الأشغال العامة والإسكان، عبر إحدى الصحف المحلية منذ أسبوع تقريباً، عن توجه الحكومة «لإنشاء تجمعات سكنية في مناطق ريفية على أطراف المدن».
وقد أشار إلى: «وضع سياسة وخريطة وطنية للسكن تضمن تأمين سكن شعبي للمواطنين، في ظل معاناة قطاع الإسكان من الضعف، حتى قبل الحرب، نظراً للتفاوت الكبير بين التكاليف والرواتب التي يتقاضاها العاملون، الأمر الذي يتطلب إعادة نظر شاملة وحلاً جذرياً».
امتيازات إضافية للقطاع الخاص
لعل الوزير في حديثه أعلاه أعاد نوعاً ما توصيف مشكلة الإسكان المزمنة، ناحية، الخطط السكنية، والتفاوت بين الأجور والتكاليف، بحيث وصل لنتيجة مفادها: أن «الأمر يتطلب إعادة نظر شاملة وحلاً جذرياً»، لكن كيف سيتم ذلك؟ هو ما لم يتضح من حديث الوزير!.
فجملة ما تحدث به الوزير يتعلق بالتوجهات الحكومية المزمعة على مستوى المخططات التنظيمية في بعض المناطق والمدن، مع تأكيده على أنّ: «الاستثمار بالسكن يحتاج إلى المليارات، وهو ما يستدعي إعداد تشريعات تسمح للقطاع الخاص بأن يكون شريكاً بهذا المجال»، وكأن التشريعات الكثيرة التي صدرت حتى تاريخه تشجيعاً للقطاع الخاص لم تكن كافية، وهو بحاجة للمزيد منها، مع العلم بأن القطاع الخاص تجاوز مرحلة الشراكة بهذا القطاع، لمرحلة التملك شبه الكلي بموجب التشريعات والقوانين الصادرة حتى تاريخه.
الدولة مستمرة بالاستنكاف
المشكلة وفقاً لهذه الرؤية والحديث لن تُحل، وستستمر إلى ما شاء الله، خاصة وقد ختم الوزير حديثه بالقول: إن «الدولة لن تتمكن وحدها من بناء المساكن لجميع المواطنين، بل سيتركز دورها على تهيئة الأراضي وتوفير الصكوك التشريعية والقوانين وتجهيز المخططات التنظيمية».
فالحديث أعلاه، مع التمهيد لصدور تشريعات جديدة تصب في مصلحة القطاع الخاص على مستوى الاستثمار في قطاع الإسكان، لن يحل المشكلة، بل سيزيد من تعميقها أكثر من ذي قبل، خاصة في ظل التأكيد على أن الدولة ستبقى مستنكفة عن القيام بدورها الكامل في هذا القطاع، وسينحصر هذا الدور على مستوى التشريعات، وإنجاز المخططات فقط.
ما يعني: أن أسباب نشوء العشوائيات ومناطق المخالفات ستستمر كما كانت مستمرة طيلة العقود الطويلة الماضية، في ظل استمرار مشكلة عدم توفر السكن النظامي والصحي للمواطن المسحوق، بعيداً عن أوجه الربح والمتاجرة التي يعمل وفقها القطاع الخاص، وفي ظل استمرار واقع التردي المعيشي المرتبط بواقع الأجور شبه المعدومة، والتي لا يمكن الاعتماد عليها في حال من الأحوال لتغطية تكاليف السكن الشعبي الذي جرى الحديث عنه، مهما كانت مواصفاته متدنية، ومهما كانت مساحته محدودة وضيقة.
لا بديل عن دور الدولة
بالعودة للمقدمة، التي ورد بها: أن «الأمر يتطلب إعادة نظر شاملة وحلاً جذرياً»، يمكننا القول: أن الحل الوحيد المتاح، في حال توفرت النية الجدية لمعالجة المشكلة، يتمثل اختصاراً بـ:
_ أن تعود الدولة لممارسة مهامها ودورها على مستوى خطط السكن والاسكان، وبشكل كامل وغير مجزأ، اعتباراً من المخططات وحتى التنفيذ والتسليم، مع تخفيض التكاليف للحدود الدنيا، وخاصة على مستوى سعر الأراضي، وبعيداً عن كل وجوه التكسب والفساد على هامش المشاريع المزمعة، مع الكثير من الشفافية التي تتيح إمكانية التتبع والرقابة على التنفيذ، والمحاسبة عليها.
_ بالتزامن مع ذلك تأتي ضرورة زيادة الرواتب والأجور، وإعادة النظر بها بشكل دائم، بما يتوافق ويلبي الاحتياجات الإنسانية، بما في ذلك الحاجة للسكن كضرورة حياتية لا غنى عنها، مع تحسين الوضع المعيشي بشكل عام، بحيث يستطيع العاملون بأجر أن يحققوا طموحاتهم وحقهم في الحصول على بيت العمر.
_ بعد كل ذلك ربما يأتي دور القطاع الخاص، ليكون مكملاً لدور الدولة بهذا القطاع الحيوي والهام، وليس بديلاً عنها في حال من الأحوال، مع وضع خارطة سعرية لكل منطقة عقارية، تأخذ بعين الاعتبار التكاليف الفعلية مع هوامش الربح المعقولة، بعيداً عن أوجه التحكم بالعرض والطلب والسمسرة على حساب المحتاجين للسكن.
_ مع عدم إغفال دور الجمعيات السكنية، الذي من المفترض أن يعاد النظر فيه جملة وتفصيلاً، مع منحها الكثير من المرونة المترافقة مع الكثير من الضوابط الرقابية على عملها، وعمل مجالس إداراتها، مع تأمين متطلباتها، وخاصة ناحية تخصيصها بالأراضي اللازمة لمشاريعها من قبل الوحدات الإدارية أولاً، أو الشراء من أصحاب الأراضي في حال عدم توفر المساحات لدى هذه الوحدات، وثانياً: عبر تقديم التسهيلات المصرفية التمويلية لتنفيذ مشاريعها.
وإلا فإن أي حديث عن سكن شعبي، ومخططات تنظيمية، وعن المزيد من التشجيع للقطاع الخاص كبديل عن دور الدولة في قطاع السكن والإسكان، لن يكون إلا مزيداً من ذر الرماد في العيون، ومزيداً من حصاد سلبيات السياسات الليبرالية التي عملت وتعمل وفقها الحكومات المتعاقبة منذ عقود، ما يعني بالمحصلة: مزيداً من العشوائيات ومناطق المخالفات التي تنتظرنا توسعاً وانتشاراً، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الزيادة في الطلب على السكن بنتيجة الحرب والدمار الذي أتى على البيوت في الكثير من المدن والمناطق.