حلقات التحكم بالسوق تُستكمل

حلقات التحكم بالسوق تُستكمل

امتثلت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك للمطالب التي مورست من قبل كبار التجار والمستوردين، ولرغابتهم ومصلحتهم، بشأن إلغاء العمل بقرار تسليم نسبة 15% من مستوردات القطاع الخاص لمؤسسات وشركات القطاع العام.

فقد أصدر وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك القرار رقم 1515 تاريخ 30/5/2018، القاضي بإلغاء العمل بقرار إلزام مستوردي القطاع الخاص للمواد الغذائية والأولية، الغذائية والعلفية، بتسليم نسبة 15% من مستورداتهم بسعر التكلفة إلى مؤسسات القطاع العام، وإلغاء التعليمات التنفيذية كافة الصادرة بهذا الخصوص، بالإضافة إلى حيثيات أخرى بمتن القرار.
الرضوخ حكومي شامل
القرار الوزاري أعلاه، صدر بناءً على كتاب رئاسة مجلس الوزراء رقم 5804/1 تاريخ 17/5/2018، وتوصية اللجنة الاقتصادية بجلستها رقم 18 تاريخ 14/5/2018، وذلك حسب ما ورد بمتن القرار من حيثيات مبوبة، أي: أن من رضخ للضغوط من الناحية العملية هي: اللجنة الاقتصادية المشكلة من عدد من الوزراء، ورئاسة مجلس الوزراء، بالإضافة إلى وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك.
بمعنى آخر، إن الرضوخ كان حكومياً شاملاً، وهو ما يعتبر تطوراً جديداً على مستوى الوزن النوعي والعملي لشريحة كبار التجار والمستوردين على القرار الاقتصادي الحكومي، حمايةً لمصالحهم على حساب مصالح المؤسسات والشركات العامة، بالإضافة إلى مصلحة المواطنين، خاصة إذا علمنا أن القرار بصيغته الأولى المخصصة لمادتي السكر والرز كان قد صدر قبل سني الحرب والأزمة، وذلك «بهدف الحد من جشع التجار والمستوردين، وتشجيعاً لدور التدخل الإيجابي في السوق لحماية المواطنين»، ومنذ ذلك الحين استمرت الضغوط من أجل إلغائه دون جدوى، إلى أن صار الإلغاء أمراً واقعاً أخيراً على أيدي الحكومة الحالية.
الضرورة لم تنتفِ والجشع لم ينته
إذا كانت الضرورة اقتضت في حينه إلزام، المستوردين بتسليم المؤسسات العامة نسبة من المستوردات قبل سني الحرب والأزمة، فكيف هو الحال في ظل سني الحرب والأزمة وتداعياتها، وكأن الضرورة انتفت، والحاجة للحد من الجشع، والتشجيع للتدخل الإيجابي انتهت؟!
علماً أن واقع الحال، يقول: إن الجشع والتحكم والاحتكار قد تزايد خلال سني الحرب والأزمة، وخاصة على مستوى ضرورات الحياة اليومية من مواد غذائية ومستلزمات وضرورات أخرى، ناهيك عن العقوبات الاقتصادية التي حدت من إمكانات الاستيراد من قبل الجهات العامة، مع عدم تغييب أهمية تعزيز دور التدخل الإيجابي على حياة المواطنين، بغض النظر عن حال هذا التدخل على أرض الواقع، وما يعتريه من سلبيات وملاحظات.
كما يشار إلى أن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، كان سبق لها وأن رفضت مراراً وتكراراً الخضوع للضغوطات التي يمارسها التجار والمستوردون من أجل إلغاء العمل بالقرار المذكور، وبناء عليه فقد تم تعديل حيثيات القرار مراراً وتكراراً، حتى أصبح بصيغته الأخيرة، بموجب القرار 986 تاريخ 3/5/2017 الذي تم إلغاؤه بموجب الرضوخ الحكومي الأخير.
حرق الأوراق
النتيجة المتوقعة بناء عليه، ربما ستزيد من سوء الأوضاع على مستوى التحكم بآليات العرض والطلب في السوق، وخاصة بالنسبة للسلع الأساسية، سواء ناحية الكم أو ناحية السعر.
فالحكومة عملياً، حرقت إحدى أوراقها الضاغطة على هذا الصعيد، تاركة السوق للمزيد من آليات التحكم بأيدي الكبار من التجار والمستوردون، مع عدم إغفال ما سيسفر عن ذلك من رضوخ شركات القطاع العام لشروط القطاع الخاص.
فالقرار الذي تم إلغاؤه كان يفرض التسليم بسعر التكلفة لنسبة الـ 15% المقررة من مستوردات القطاع الخاص، وبالشكل العملي فقد كان المستوردون يحسبون سلفاً هذه النسبة بمستورداتهم مع تكاليفها، أي: أنهم بحال من الأحوال لم يكونوا متضررين اقتصادياً جراء هذا القرار، باستثناء أن تحكمهم بالأسواق كان منتقصاً، وهو ما كانوا يسعون إلى استكماله، مع الأخذ بعين الاعتبار أن بعض المؤسسات كانت تعتذر أحياناً عن استلام تلك النسبة المخصصة.
وقد أتت المبررات على لسان بعضهم، بأن صرف المستحقات تتأخر لدى جهات القطاع العام، ولعل ذلك لا يوجد ما يبرره، خاصة بوجود حيثيات تفرض الصرف خلال فترة محددة وملزمة، وبمطلق الأحوال، فإن هذه الذريعة لم تكن مبرراً لإلغاء القرار.
ولعله من الأجدى لو أن الحكومة اتخذت الإجراءات الكفيلة بإعادة الاعتبار لمؤسسات وشركات قطاع الدولة، مع منحها المزيد من المرونة والسيولة الكافية لتكون منافساً حقيقياً مع القطاع الخاص في الأسواق، وعلى المستوى الاقتصادي العام، وعند ذلك ربما ما من داعٍ لأي إجراء يفرض على القطاع الخاص تسليم أيةِ نسبة من مستورداته للمؤسسات والشركات العامة.
استكمال حلقات التحكم
أما مع الحال الجديد، فإن احتياجات مؤسسات وشركات قطاع الدولة من بعض المستوردات التي يتم تأمينها عبر القطاع الخاص، فستتم حسب العرض والطلب على مستوى المواصفة والسعر وهامش الربح المضاف، وبموجب عقود أو مناقصات لها تكاليفها هي الأخرى، مع ما يعتري بعضها من أوجه فساد تزيد من التكلفة والسعر في النهاية، أي: أن عملية التحكم بالسوق من قبل التجار والمستوردين قد استكملت أركانها عملياً، والنتيجة الأهم من كل ذلك أن الاحتياجات الأساسية للمواطنين بات المتحكم بها وحيداً وأوحداً دون منافسة، خاصة في ظل ترهل وتراجع مؤسسات الدولة المعنية بهذه الاحتياجات، سواء على مستوى الاستيراد، أو على مستوى التسويق والتوزيع.
أخيراً، فإن القرار أعلاه، والذي ربما سيمر مرور الكرام، هو من الناحية العملية يعتبر حلقة جديدة من حلقات اللبرلة الاقتصادية التي تعتمدها الحكومة، والتي تصب في مصلحة الكبار مزيداً من التحكم، ومزيداً من الأرباح في الجيوب، فالسياسات الحكومية المتعاقبة التي أدت إلى ضعف مؤسسات الدولة وترهلها، وصولاً لحال العجز الذي وصل إليه بعضها، هي نفسها التي تقوي وتصلّب من مواقع القطاع الخاص في وجه هذه المؤسسات، وصولاً لإطلاق يده على المقدرات الاقتصادية تباعاً، وكل ذلك على حساب مصلحة المواطن والوطن.