تكريس الطبقية في التعلم؟
نوار الدمشقي نوار الدمشقي

تكريس الطبقية في التعلم؟

تتفشى ظاهرتا الدروس الخصوصية ودورات التقوية، بالإضافة للمدارس والمعاهد الخاصة، على هامش نظام التعليم الرسمي يوماً بعد آخر، حيث لم تعد تقتصر هذه الظواهر على مستوى طلاب شهادتي التعليم الأساسي والثانوي، وكأنها قدر لا فكاك منه، من أجل تحسين قدراتهم وإمكاناتهم، بل تعدتها إلى طلاب الصفوف الانتقالية في الحلقة الأولى من التعليم الأساسي.

ففي إحدى مدارس دمشق، الحلقة الأولى من التعليم الأساسي، تم الإعلان عن إقامة دورة تقوية للطلاب المقصرين في الصف الخامس بمواد (الرياضيات_ عربي_ علوم_ انكليزي) لمدة شهرين تقريباً، وذلك بعد أوقات الدوام، ولثلاثة أيام في الأسبوع، وبرسم مقداره 3000 ليرة. وهذا الإعلان كان عبارة عن قصاصة ورقية موجهة لذوي الطلاب الراغبين بتسجيل أبنائهم، لمراجعة إدارة المدرسة، أو إرسال الرسم مع التلميذ للتسجيل في هذه الدورة.
ملاحظات
الإعلان المدرسي أعلاه، هو مثال عما آل إليه حال نظام التعليم الرسمي، سواء على مستوى إدارة العملية التعليمية، أو على مستوى الطلاب وذويهم، حيث يمكن أن نستخلص منه الملاحظات التالية:
_ تلمس وجود تقصير وتراجع لدى بعض الطلاب في المواد المعلن عن دورة التقوية بها.
_ الاعتراف الرسمي بالتقصير والتراجع، وهذا الاعتراف لم يقتصر على إدارة المدرسة، بل متضمن اعتراف من قبل مديرية التربية في دمشق، كون مثل هذه الدورات لا تقام إلا بموافقتها.
_ توفر الإمكانية لتسخير إمكانات المدرسة خارج أوقات الدوام لهذه الغاية.
_ تغطية جزء من نفقات هذه الدورة على حساب ذوي الطلاب، ممثلة بالرسم المقرر لها.
سالب وموجب
رؤية إيجابية للإعلان، مع الملاحظات أعلاه، لا بد أنها تشير إلى اهتمام إدارة المدرسة بطلابها، وربما تكون هذه الآلية فيها نوع من المنافسة مع الدروس الخصوصية، التي قد يتكبد لقاءها ذوو الطلاب مبالغ طائلة، من أجل تحسين مستوى أبنائهم وتقويتهم بهذه المواد.
لكن في المقابل، إنها تشير إلى الكثير من نقاط الضعف في نظام التعليم الرسمي، وكمثال حي على ذلك من المدرسة نفسها، هو: عدم توفر مدرسين للغة الإنكليزية كافيين لتغطية المنهاج المقرر، حيث غابت هذه المادة عن بعض الصفوف، اعتباراً من بداية الفصل الدراسي الثاني، الأمر الذي كان مثار استغراب من الطلاب وذويهم، فكيف يغيب المدرس عن الحصص المقررة خلال الدوام الرسمي، في حين تتوفر الإمكانية لحضوره خلال دورات التقوية خارج أوقات الدوام؟!
الجواب، ربما بسيط، وهو: أن عدد مدرسي اللغة الإنكليزية في المدرسة المعنية غير كافٍ لتغطية المناهج المقررة لجميع الصفوف، وهي مسؤولية مشتركة تتحملها إدارة المدرسة ومديرية التربية معاً، بالإضافة لوزارة التربية طبعاً ومن كل بد، وموضوعة تقصير الطلاب بناءً عليه، في هذه المادة، تعتبر في غير محلها.
بعض الأسباب
في العمق من ظواهر الدروس الخصوصية، ودورات التقوية، التي أصبحت جزءاً من العملية التعليمية، كنموذجٍ موازٍ ومنافسٍ لنظام التعليم الرسمي، تجاوزت حاجة طلاب الشهادتين، وتجذرت على مستوى حاجة طلاب الصفوف الانتقالية في مرحلة التعليم الأساسي، نتوقف عند بعض الملاحظات التي ربما كانت بعض الأسباب لهذه المنافسة والموازاة، على حساب الطلاب وذويهم أولاً، كما على حساب نظام التعليم الرسمي نفسه ثانياً، وأهماً:
_ نقص الكادر التدريسي، وخاصة على مستوى المواد التخصصية.
_ المناهج وعدم توائهما مع مقدرات وإمكانات الطلاب من طرف، ومع إمكانات ومقدرات بعض المدرسين من طرف آخر، حيث يعتبر بعضها مكثفاً لدرجة عدم كفاية الحصص المقررة لها.
_ زيادة أعداد الطلاب في الشعب الصفية، الأمر الذي يحد من إمكانية الضبط الكافي، من أجل القيام بمهمة التدريس على أكمل وجه، ناهيك عن صرف الجهود الإضافية تجاه المقصرين منهم، بل وحتى من إمكانية تحديد مستواهم الحقيقي.
_ تدني أجور المعلمين واضطرارهم للبحث عن موارد إضافية لتغطية متطلبات معيشتهم، تتمثل بالدروس الخصوصية، أو بدورات التقوية، أو بلجوئهم للمدارس والمعاهد الخاصة، وطبعاً جزء هام من ذلك يكون على حساب أدائهم في التعليم الرسمي.
سياسات ومصالح
في مطلق الأحوال، فإن الملاحظات مع بعض الأسباب أعلاه، التي جعلت من الدروس الخصوصية ودورات التقوية، وكأنها من ضرورات ومكملات العملية التعليمية، حتى على مستوى الصفوف الانتقالية، في مرحلة التعليم الأساسي، تفسح المجال لإعادة التأكيد، على أن السياسة التعليمية المعمول بها بحاجة لإعادة النظر بها جملة وتفصيلاً.
فمشكلة التعليم الرسمي لا تقتصر على المناهج كما يحلو للبعض أن يسوقها، على الرغم من أهمية وضرورة هذا الجانب في العملية التعليمية، بل هي أعمق من ذلك بكثير.
ولعلنا لا نبالغ بالقول: أن الاستمرار بهذه السياسة لا يصب إلا باتجاه تعزيز مواقع هذا النمط من التعليم الموازي الخاص، سواء بمسمى الدروس الخصوصية، أو بدورات التقوية، أو بالمدارس والمعاهد الخاصة، وجميع هذه البنى الموازية والمنافسة للتعليم الرسمي، غايتها الأساسية استثمارية ربحية بحتة، بغض النظر عما تغلف نفسها به بأنها لمصلحة الطلاب.
والنتيجة، هي: المزيد من الترهل والتراجع بالعملية التعليمية الرسمية، على حساب الطلاب ورغباتهم وطموحهم المشروع، كما على حساب ذويهم ومتطلبات معيشتهم، لقاء تكبدهم المبالغ الطائلة سنوياً على أبنائهم، بالإضافة لكونها على حساب المصلحة الوطنية عموماً، حيث يتعمق الفرز الطبقي من خلال العملية التعليمية وفقاً للسياسات المتبعة.
فأصحاب الثروة من المليئين من ذوي الطلاب، هم القادرون على مواكبة هذا الشكل من المنافسة المشرعة الأبواب على المستوى التعليمي، في حين يعجز أبناء فقراء الحال عن مواكبتها، وكأن قدرهم المزيد من التجهيل والإفقار والتهميش، مع كل ما يتبع ذلك من آثار سلبية على كافة مناحي الحياة، الاجتماعية والاقتصادية، بل والسياسية.
وربما لا داعي لطرح السؤال: لمصلحة من الاستمرار بهذه السياسات؟ فهي لا تصب إلا في مصلحة أصحاب الأرباح، على حساب البقية المبقية من المواطنين، كما على حساب الوطن كنتيجة وخلاصة ومآل!
فرز طبقي اعتبارا من رياض الأطفال
ما يؤكد هذا التوجه في السياسات التعليمية المتبعة، عبر المزيد من تكريس الفرز الطبقي على المستوى التعليمي، هو: ما رشح عن ورشة العمل التي أقامها المركز الوطني لتطوير المناهج التربوية بتاريخ 8/2/2018، بحضور عدد من مدراء رياض الأطفال الخاصة في دمشق وريف دمشق، لمناقشة آلية تأسيس برامج تربوية منزلية للأطفال قبل سن المدرسة، حسب الصفحة الرسمية للمركز، حيث ورد التالي:
«تضم رياض الأطفال في سورية عدداً قليلاً من أطفال هذه المرحلة، ما يجعل التباين كبيراً بينهم وبين زملائهم الذين لم يمروا بمرحلة رياض الأطفال، وهذا ما يستدعي إعداد برامج بديلة، يمكن للأهل العودة إليها في منازلهم لسد الهوة الكبيرة التي يمكن أن تكون بين أبنائهم، الذين لم يتمكنوا من الالتحاق برياض الأطفال قبل دخول المدرسة، والذين تدربوا على الخبرات المختلفة في الرياض».... «وقد قدم مدير المركز عرضاً شرح فيه أهمية مرحلة ما قبل المدرسة في تكوين شخصية الأطفال وإمكانياتهم ومهاراتهم، وضرورة مواكبة التقدم العالمي في مرحلة الطفولة المبكرة»... «وجرى التأكيد في نهاية الورشة على استمرار التعاون بين المركز الوطني لتطوير المناهج التربوية والرياض الخاصة والعامة، لإغناء برامج التعلّم المبكّر».
ما رشح أعلاه يوضح النقاط التالية
_ المناهج المقررة للصف الأول تأخذ بعين الاعتبار وجود مراحل التعلم المبكر لدى الأطفال.
_ عدد رياض الأطفال قليل، وخاصة العام منها، وبالتالي فإن عدداً قليلاً من الأطفال هم المستفيدون من مرحلة التعلم المبكرة.
_ وجود هوة بين الأطفال، بين من مر بمرحلة رياض الأطفال، ومن لم يمر منهم بهذه المرحلة.
_ ضرورة إعداد برامج بديلة يمكن للأهل العودة إليها في منازلهم، لسد الهوة.

بمعنى آخر، واعتباراً من الصف الأول بمرحلة التعليم الأساسي، هناك فجوة تعلمية ذات محتوى طبقي بين التلاميذ، فرياض الأطفال مرتفعة الأسعار، وهي حكر على من يملك المقدرة المالية من الأثرياء غالباً، ما يعني اتساع تلك الفجوة التي يتم الحديث عنها تباعاً، خاصة بسبب عدم تمكن ذوي الطلاب من فقراء الحال من مواكبة زملائهم من المحظيين بثراء ذويهم.
فهل من بؤس في السياسات التعليمية الرسمية على مستوى المناهج وغيرها أكثر من ذلك؟
وهل من طبقية أوضح وأقبح من تلك السياسات؟