مقومات إعادة الحياة إلى دير الزور
من دوّامة غلاء المعيشة، إلى دوامة الآجارات، ومن دوّامة تحديد مركز العمل، إلى دوّامة إنهاء التكليف وإجباره على العودة إلى مدينته المدمرة وقراها المهجرة، هذ حال الموطن الديري، وختامها: دوّامة الأربعين حاجزاً، التي ينتهي به المطاف على سماع جملة واحدة من المسؤولين في المحافظة: مو.. بيدي!؟
رحلة الفقر والبطالة والتهميش والشقاء والمعيشة الضنكة والتهجير، وما يرافقها من مآسٍ واستغلال، بعضها قبل الأزمة بسنوات، وتفاعلت وتضاعفت بعد الأزمة التي أصبحت شمّاعة، يعلق المسؤولون والفاسدون ممارساتهم كلها عليها، سواء في الحكومة، أو محافظة دير الزور، هذه الرحلة التي عانى منها غالبية السوريين سواء في مناطق الحرب والتوتر، أو في المناطق التي تعتبر(آمنة) شكلاً.. ولعل أبناء المحافظات الشرقية وخاصةً دير الزور والرقة هم الأكثر وضوحاً وجلاءً في ذلك!
قرارات ارتجالية وتعقيدات!
بعد فكّ الحصار عن مدينة دير الزور، ودحر داعش من ريف المدينة، والريفين الغربي من دير الزور إلى حدود محافظة الرقة، والشرقي من دير الزور إلى البوكمال مروراً بالميادين، الذي أصبح مأوىً للأشباح والمعفشين، اتخذت قرارات حكومية ارتجالية كما العادة خلال الأزمة، بإلزام أهالي محافظة دير الزور بالعودة دون النظر لظروف الحياة والمعيشة، وحتى ظروف السفر وتكاليفه!؟
ومن وسائل الضغط الأخيرة التي تمارس على أهالي دير الزور المهجرين الجدد، عدم منحهم الموافقة الأمنية لعقود الآجار. وكأنهم ليسوا مواطنين سوريين، ولا يحق لهم الحصول على سكنٍ ولو بالآجار، فهل عليهم أن يعودوا إلى دير الزور ويبنون خيماً، أم عليهم أن يبقوا مشردين في الشوارع والحدائق؟
أربعون حاجزاً؟!
من دمشق إلى دير الزور عِبرَ حمص وتدمر، على المواطن من أبناء محافظة دير الزور_ الذي يريد العودة أو ملزم بها_ عليه أن يمرّ على أربعين حاجزاً، ربعها تقريباً يتعرض فيها للتفييش، وتستغرق الرحلة ضعف زمنها تقريباً، فبدلاً من ست ساعات، يحتاج إلى اثنتي عشرة ساعة على الأقل، ويتعرض خلالها للابتزاز وللضغط بأشكاله المختلفة، وأنه متهم حتى تثبت براءته، ولا يستطيع أن يطمئن على نفسه، حتى يصل إلى المدينة، وتحديداً إلى حيي الجورة والقصور، اللذين هما المأهولان إلى الآن، أما إذا أراد الدخول إلى بيته ليلقي عليه نظرة، في بقية الأحياء التي خرجت مؤخراً من سيطرة التنظيم الفاشي داعش، فذلك أيضاً خاضع لحواجز أخرى، ناهيك عن التهديد المباشر من المعفشين وحماتهم، وهو يرى أثاث بيته.. بل وما فيه من أبواب ونوافذ تنتزع، وأسلاك الكهرباء التي تسحب وتحرق علناً لتباع نحاساً، وصنابير المياه التي تُفكُ أمامه، فيطردُ شرّ طردةٍ إذا قال لهم: هذا بيتي، وهذا أثاثي. أما إذا حاول الاعتراض، فهذا له قصة أخرى، وربما يفقده حياته!
مو.. بايدي!؟
(مو.. بايدي) هذه العبارة، يسمعها أبناء محافظة دير الزور، أنّى توجهوا، من عناصر الحواجز والمسؤولين في المحافظة من أدنى المستويات إلى أعلاها، عندما يطالبون بالسماح لهم بالعودة إلى أحيائهم وقراهم، ولم تأتنا أوامر بذلك.. لكن ممن ستأتي الأوامر بالسماح؟ لا أحد يعرف من يقف وراء هذا المنع، وهذا يتناقض مع بعض القرارات والتعاميم التي صدرت عن رئاسة مجلس الوزراء، والوزراء، التي تطالب العاملين المهجرين بالعودة، من أجل إعادة الحياة إلى المدن والقرى الخاوية من أهاليها، ناهيك عن الحديث عن مقومات الحياة غير الموجودة من كهرباء وماء وسكن وطرقات، وبقية الخدمات..
تلك هي أجزاء بسيطة لكنها مهمة، من المعاناة المستمرة على الأقل خلال الأزمة ونتائجها.
ما العمل؟
التساؤل الذي يطرح نفسه: ما العمل؟ وكيف يمكن تسهيل عودة المواطنين من أهالي محافظة دير الزور، إلى أحيائهم ومدنهم، وإلى قراهم في الريف المحرر من سيطرة التكفيريين؟
لا شك أن ذلك ليس بمعزلٍ عن الحل السياسي الناجز، الذي ينتظره السوريون بفارغ الصبر، وهو الذي يسمح بإنهاء الأزمة ككل، وإنهاء مأساتهم المستمرة منذ ست سنواتٍ ونيف، وتراكماتها، وبدء تحقيق التغيير الجذري والشامل والعميق، الذي يقضي على أسبابها المتراكمة منذ عقود، وهو لن يتم بين ليلةٍ وضحاها، لكن يمكن التغلب على بعضها، وهذا لا يتم بقرارات ارتجالية وعشوائية، وإنما يتطلب إرادةً حقيقية وعدة أمور عملية. أولها:
توفير الحد الأدنى من الأمان، وهذا ينجم عن إنهاء الممارسات غير المسؤولة على بعض الحواجز، أو داخل المدن وأحيائها، وفي قرى الأرياف، بدءاً من الوقوف بحزم اتجاه من يقومون بها، بدءاً من التعفيش والتعدي المستمر على الممتلكات العامة والخاصة، وصولاً لتفعيل دوائر الدولة بشكل صحيحٍ وعلمي يسهل على المواطن إنجاز معاملاته، على أن تكون كرامة المواطن أولوية، لا يسمح بالتعدي عليها من أية جهة كانت، والتي تدعى اسمياً (مختصة) خارج القانون والدستور، والتي تتجاوزهما علناً وبشكلٍ سافر!
توفير مستلزمات الحد الأدنى للحياة، من خدمات: الصحة والتعليم كالكهرباء والماء والطرقات المدارس والمستوصفات وغيرها من البنى التحتية اللازمة، وتوفير مستلزمات البناء والترميم، من إسمنت وحديد وخشب وغيرها المواد اللازمة، من قبل الدولة، وبأسعار معقولة لا تخضع لسيطرة قوى السوق السوداء والفساد وتجار الأزمة.
توفير مستلزمات المعيشة من غذاء وغيره، ومستلزمات الزراعة، كون اعتماد أهالي وحياتهم في المنطقة قائمة على الزراعة في الوجود والعيش، من سماد وبذار ومياه الري وغيرها، وهذا يتطلب إعادة تأهيل مضخات وقنوات الري وغيرها، وتقدير الأضرار الزراعية وصرف تعويضات عنها، ومنح قروض زراعية للفلاحين بأسرع وقت ممكن.
تفعيل لجان تقدير الأضرار بما يناسب الواقع والأسعار الحالية، وصرفها مباشرةً، ليتمكن المواطنون من إعادة بناء وترميم منازلهم، وتقديم التسهيلات لهم، كتخفيض الرسوم الخدمية والهندسية والضرائب إلى الحد الأدنى، وتقديم قروض بناء وكساءٍ بفوائد رمزية.
إن القيام بهذه الخطوات العملية ليس مستحيلاً وليس صعباً، ولا تستغرق هذه الخطوات وقتاً طويلاً إذا توفرت الإرادة الحقيقية لذلك، وأن يتولى ذلك الشرفاء من أبناء الوطن، ومن أبناء دير الزور والمختصين، وشركات قطّاع الدولة، عملاً بالمثل الشعبي الذي يقول: أعط الخبز لخبّازه! وبهذا نكون قد خطونا أولى خطوات إعادة الإعمار، وتوفير فرص عمل مهني وزراعي، وبدء عودة الحياة الطبيعية، ويمكن تعميم ذلك في المناطق الأخرى من الوطن والتي تعرضت لما تعرضت له محافظة دير الزور، ونكون أيضاً قد بدأنا فعلياً بوضع كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار.